المسجد الأقصى.. مفاهيم مغلوطة
تنبع المكانة المقدسة للمسجد الأقصى في نفوس المسلمين من تاريخه عندهم، وتقديس القرآن له وتوصية رسول الله به، إذ أنه القبلة التي صلّى المسلمون تجاهها أولًا قبل أن يتجهوا بعد ذلك للصلاة تجاه الكعبة الشريفة. كما أنه أُسرِي برسول الله عنده، ووصفه الله بالبركة، فقد قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).
كما أن رسول الله قد نهى أن تشد الرحال إلا لثلاث مساجد فقط، منهم المسجد الأقصى. وقد وصّى به رسول الله المسلمين به أكثر من مرة في أحاديث الفتن والملاحم في آخر الزمان، فقد قال رسول الله لأصحابه:
لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوّهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.
وفيما يلي تصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة المنتشرة عن الأقصى المبارك، وعرض لفترة من فتراته التاريخية ليزداد المسلمون وعيًا به وليعوا الدروس والعِبر من سير بني إسرائيل في القدس وسيرة المسلمين، وسنة الاستبدال، وما يجب علينا فعله لاستعادته وحفظ وصية رسول الله به.
تعريف المسجد
المسجد لغة هو موضع السجود، فالمقصود بالمسجد أنه المكان الذي يسجد فيه المسلمون تعبدًا لله. فلو أن بناءً أُقيم ولا يتعبد فيه أحد لا يسمى مسجدًا. ولو أن أرضًا عارية ليس فيها بناء خصصها الناس للتعبد أصبحت مسجدًا. وهكذا بنى رسول الله مسجده في المدينة لما هاجر إليها، حيث بنى سورًا حول قطعة الأرض التي بركت عندها ناقته، وبهذا السور أصبحت مساحة الأرض تلك مسجدًا.
فالمسجد ليس هو البناء فوق الأرض، وإنما هو الأرض نفسها التي يُعبد الله فيها. فلقد هُدم المسجد الأقصى أكثر من مرة وأعيد بناؤه. وكذلك هُدمت الكعبة الشريفة أكثر من مرة وأعيد بناؤها. وكان بناء كلاهما عبارة عن سور يحيط بتلك الأرض فقط. فالمسجد هو الأرض وليس البناء الذي عليها نفسه.
فالمسجد الأقصى ليس هو ما انتشر خطئًا بين الناس أنه المسجد القبلي ذو القبة الذهبية أو مسجد قبة الصخرة ذو القبة الصفراء، ولكنه هو المساحة المحاطة بهذا السور الذي يحددها، كما يظهر في الصورة. فكل هذه الأرض المباركة هي الأقصى. وما القبة الذهبية ولا الخضراء إلا أجزاء منه، حيث يحتوي الأقصى بداخله على حوالي 200 معلم من المعالم التاريخية والدينية المقدسة.
وقد استغل الصهاينة جهلنا بالمسجد الأقصى واعتقاد عوام المسلمين الذين لم يروا المسجد قط بسبب الاحتلال، أن المقصود به هو المسجد القبلي ذو القبة الذهبية في المنتصف. فسعت السلطات الصهيونية لاستخدام ذلك والتأكيد عليه ليصبح المسجد الأقصى مُستباح لهم ماعدا هذا الجزء. فقاموا بتقسيم الأقصى إلى ثلاث أجزاء:
- المسجد القبلي، وأطلقت عليه مسمى “المسجد الأقصى” ليبقى هذا المسمى مقصورًا عليه ولا يشمل باقي أجزاء المسجد الحقيقي.
- قبة الصخرة.
- ساحات جبل المعبد التي هي في الحقيقة جزء من المسجد الأقصى.
وذلك لكي يهدؤوا من غضب المسلمين غير الفلسطينيين عند اقتحامهم للمسجد الأقصى؛ بأنهم لم يقتحموه -يقصدون قبة الصخرة- ولكنهم اقتحموا “ساحات جبل المعبد”. وإذا تابعت تصريحات المسئولين الصهاينة عن عمليات الاقتحام تجدهم يؤكدون على هذا ويتمسكون بذلك التقسيم. فيجب الانتباه لذلك.
تسميته
عُرف الأقصى بثلاث مسميات له في تاريخه:
- بيت المقْدِس: وهو الاسم الذي عُرف به قبل تسمية الإسلام له في الآية الكريمة.
- البيت المقدّس.
- المسجد الأقصى: وسمي بالأقصى؛ لبعده عن المسجدين الآخرين المقدسان في الإسلام، وهما الكعبة المشرفة والمسجد النبوي.
أما تسميته بـ “الحرم القدسي الشريف” فهي تسمية خاطئة لم تذكر في التاريخ، وكذلك هي تسمية خاطئة شرعًا. فوصف “الحَرَم” لم يوصف به المسجد الأقصى في القرآن أو الأحاديث قط، وذلك ليس بسبب قلة مكانته عند المسلمين مثلًا، ولكن لأن مسمى “حَرَم” يترتب عليه أحكام شرعية، فمثلًا لا يجوز الصيد في الحرم ولا قطع الأشجار ولا التقاط اللقطة -المال الساقط من صاحبه- إلا لباحث عن صاحبه. وباقي الأحكام المخصوصة بالحرم. فالحرمين في الإسلام هما الحرم المكي والمسجد النبوي فقط.
بناؤه
سأل أبو ذر -رضي الله عنه-:
يا رسول الله أي مسجد وُضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون.
والواضح من الحديث الشريف أن من بنى الكعبة الشريفة هو من بنى المسجد الأقصى. وقد اختلف الباحثون في هوية أول من بنى كلا المسجدين، فمنهم من رجح أنه آدم -عليه السلام-، ومنهم من رجّح أنه ابنه، ومنهم من قال أنه إبراهيم. ولكن الراجح أكثر أنه آدم عليه السلام والأبحاث التي ناقشت هذا الموضوع متوافرة على شبكة المعلومات. ولا توجد أي أخبار عن المسجد الأقصى في الحقبة التاريخية التي أعقبت بناء آدم له، لأنه في تلك الفترات لم يكن قد بدأ التأريخ بعد.
ويسجل لنا أقدم المصادر التاريخية أن أول من جاءوا لهذا المكان واستوطنوه هم العرب اليبوسيين، منذ حوالي 6000 عام. وبدأوا في تأسيس مدينة القدس حول المسجد وبنوا مدن أخرى حولها.
احتلال الأقصى
دخل “الهكسوس” الأقصى واحتلوه أثناء غزوهم لمصر. ومع ضعف الهكسوس انتقلت القدس لحكم الفراعنة. وقد كان بني إسرائيل قد انتقلوا للعيش في مصر في فترة حكم “نبي الله يوسف” -عليه السلام- فيها، ولم يدخلوا القدس بعد. ولكن توافدت القبائل المختلفة إلى المدينة بجوار الكنعانيين واليبوسيين، واكتسبت تلك المنطقة اسمها من أسماء القبائل المتوافدة إليها “فلسطين”.
كانت القبائل الكنعانية وغيرها المستوطنة للقدس تمتاز بقوتها وشدتها وبأسها، ومع ضعف الحكم الفرعوني أصبحت القدس شبه مستقلة وتوسّعت مساحتها، فحكم الفلسطينيون مناطق واسعة من الأرض حولها مع إبقاء تبعيتهم للحكم الفرعوني. وقد عرف ساكني القدس في تلك الفترة باسم “العمالقة” حتى أن الله تعالى أنزل فيهم قوله على لسان بني إسرائيل: (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ).
ولم يكن هؤلاء مسلمين ولا يعرفون معنى التوحيد “أساس الإسلام”، على عكس بني إسرائيل الذين كانوا مسلمين، فقد كان بني إسرائيل يؤمنون بالله الواحد الأحد ويعبدونه – قبل ولادة موسى عليه السلام بكثير- فهم أبناء “نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق” الذين كانوا يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئًا. ولكنهم قد انغمسوا في المادية وطغت عليهم الدنيا بشهواتها، فأرسل الله إليهم موسى ليهديهم ويُقوّم انحرافهم ويدخلهم إلى بيت المقدس ليعيدوا التوحيد والإسلام فيه.
ويجب هنا التنبيه على الخطأ الشائع: أن الله قد أرسل موسى لبني إسرائيل يدعوهم للإسلام، فلم ترِد آية تقول بأن هذا كان سبب إرسال موسى إليهم، بل السبب هو أن يخرج بني إسرائيل من مصر ليفتح بهم المسجد الأقصى لِيُعبد الله وحده فيه. قال تعالى: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ).
- “حقيق عليّ أنْ لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل”.
- “أن أرسل معنا بني إسرائيل”.
- “ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل”.
الكاتب: عبد الرحمن