عبد الملك بن مروان.. المؤسس الثاني لدولة بني أمية

نشأته وأسرته وحياته

هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، قرشي الأصل والمنشأ، ولد في المدينة المنورة عام 24هـ، وكان أول من سُمي بعبد الملك في الإسلام، نشأ نشأةً إسلامية في بيت والده وبيت الصحابي عثمان بن عفان، وتعلم القرآن وفقه به، أما عن عائلته فقد كان جده الحكم بن أبي العاص من أشد المناهضين للإسلام، قاوم الدعوة الإسلامية حتى فتح مكة، فأسلم متأخرًا مع أبي سفيان وبقية قريش، وقد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فترةً من الوقت، لكنه سمح له فيما بعد بالعودة إلى مكة وبقي فيها حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ استدعاه وعائلته للمدينة المنورة، وكان لهذا الانتقال أثرٌ كبير على هذه الأسرة، وعلى عبد الملك فيما بعد، إذ بدأت تندمج شيئًا فشيئًا بأمور الدولة والسياسة، فنرى مروان بن الحكم يكتسب من سيدنا عثمان مواظبته على القرآن الكريم والتفقه فيه، ويتعلم أيضًا سياسة الدولة وآلية حكمها، ولما اشتعلت الفتنة في عهد عثمان، وحُوصرت داره دافع مروان عن عثمان ببسالة حتى سقط جريحًا عاجزًا عن الدفاع عنه، وبقي في المدينة حتى شُفيت جراحه، ليأتيه أمرٌ من معاوية بن أبي سفيان بتولية ولاية المدينة المنورة، وكان عبد الملك وقتها شابًا متحمسًا، فخرج للجهاد وعُين قائدًا لسرية إسلامية توجهت لحرب الروم، لكنه عاد بعد وفاة معاوية وبداية حكم يزيد ليقف إلى جانب والده بعد اضطراب الأوضاع وعزله عن ولاية المدينة.

بعد عزل مروان بن الحكم، قُتل الحسين في كربلاء، لتشتعل الحجاز غضبًا على بني أمية، فحاصر أهل المدينة المنورة الأمويين وعددهم ألف شخصٍ في منزل مروان، الذي لجأ لعليٍ بن الحسين، وأمنه على حرمه وزوجه ليخرج بهم خارج المدينة، وقد اشتد الحصار بالأمويين حتى قبلوا الجلاء عن المدينة، فخرجوا باتجاه الشام لكنهم التقوا بجيش مسلم بن عقبة، فعاد معه جماعة من الأمويين منهم مروان وابنه عبد الملك، الذي أشار على مسلم بخطة محاربة أهل المدينة، وذلك بان يذهب إلى موضع يسمى الحرة، فتكون الشمس في ظهره، وحرها على أهل المدينة، فكان لهذه الخطة عظيم الأثر، إذ انتصر مسلم على أهل المدينة، وعاد عبد الملك وأبوه إلى بيتهما ومكثا في المدينة حتى أمر عبد الله بن الزبير بإجلائهم إلى الشام، ليتولى مروان بن الحكم الخلافة، ومن ثم يعين ابنه عبد الملك أميرًا على فلسطين، حتى وفاته ليصعد إلى سدة الخلافة من بعده.

خلافة عبد الملك بن مروان

كان عبد الملك بن مروان خامس خلفاء الدولة الأموية، وثاني خليفة من البيت المرواني، تولى الخلافة 65هـ بعد وفاة والده مروان بن الحكم، وقد ورث الدولة مفككةً تعصف فيها الثورات، وتعجُّ بها الانقسامات، فأخذ على عاتقه توحيد البلاد، ودفْعَ خطر الروم المتعاظم على حدود الدولة الشمالية، فكاتب الإمبراطور البيزنطي واتفق معه على دفع مبلغٍ من المال مقابل عدم التعدي على حدود الدولة، ليتفرغ بعد ذلك للقتال على أكثر من جبهة، فقد اشتعلت جبهة العراق بثورة التوَّابين الذين ادَّعوا أنهم تابوا عن خيانتهم للحسين بن علي، وأنهم رهطه وشيعته المطالبون بأخذ الثأر له ولآل البيت، وأيضًا قامت ثورة المختار الثقفي في العراق التي أتعبت الجيوش الأموية، والزبيرية، إضافةً لاستقواء الخوارج في طبرستان، وإعلان خليفةٍ من بينهم، وأخيرًا جبهة الحجاز التي كانت قاعدة ملك الدولة الزبيرية ومركزها مكة المكرمة، فعمل عبد الملك على إزاحة خصومه واحدًا تلو الآخر حتى استقام الأمر له وثبتت أركان الدولة.

مآثر عبد الملك بن مروان

كان عبد الملك حاكمًا قويا على الرغم من الطريقة التي اتبعها في توحيد الدولة والقضاء على خصومه، فقد توجّه لتعريب دواوين الدولة التي كانت تُكتب بالفارسية واليونانية، وأمر بإصدار أول عملةٍ عربيةٍ إسلامية، وهي الدينار العربي منهيًا في ذلك السيطرة البيزنطية الاقتصادية على الدولة، معلنًا في ذلك استقلال الأمة بعملتها ودولتها وتخليها عن حاجتها للعجم.

ومن الأعمال المباركة التي قام بها ترميمه للمسجد الأقصى، وبناء مسجد قبة الصخرة الشريفة، وتزيينها بالزخارف والآيات القرآنية، أما في جانب القضاء فقد نظَّم عبد الملك القضاء في الدولة، فأفرد يومًا لسماع المظالم، وسنَّ إجراءات تولي القضاة صلاحياتهم من إشهار قرار تعيين القاضي في المساجد الجامعة، ومن ثمّ مثوله أمام الخليفة ليُقسم على صون الأمانة، بالإضافة إلى أنّ القضاء في عهد عبد الملك بدأ يُدوَّن، وأخذت المحاكمات تأخذ طابعًا تنظيميًا.

أما في المجال الأدبي فقد عُرف عن عبد الملك فصاحته وذائقته اللغوية والأدبية، فكان ناقدًا مجيدًا يتذوق الشعر، ويميز جيده من رديئه، فكانت دار الخلافة عامرةً بالشعراء والأدباء، أمثال الأخطل، والفرزدق، وجرير، وجميل بثينة، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا ينشدون أمامه أفضل أشعارهم لنيل عطاء الخليفة وقربه، فكان يخلع على الشعراء ويغدق عليهم حتى يمعنوا في مدحه والإشادة بدولته والصد عنه، فالشعر في ذلك الوقت هو ديوان العرب، وهو وسيلةٌ من وسائل الدعاية للدولة والخليفة، فكل فرقةٍ وطائفةٍ لها شعراؤها الذين يناصرون قضيتهم.

جهاده وفتوحاته

الخليفة عبد الملك بن مروان

كان لعبد الملك بن مروان أثرٌ كبير في حركة الجهاد الإسلامي وتمدد الدولة الأموية، فقد خرج مجاهدًا في أول شبابه على رأس سرية لغزو الروم، ولعل هذه الغزوة من آخر الغزوات بسبب تدهور الأوضاع داخل الدولة، للتوقف حركة الجهاد الإسلامي حتى خلافة عبد الملك، لتعود حركة الفتح الإسلامي من جديد، إذ جهز جيشًا كبيرًا وأرسله إلى القيروان على الرغم من محاربته لدولة عبدالله بن الزبير في ذلك الوقت، وأمر زهير بن قيس أحد قواد عقبة بن نافع بقيادة هذا الجيش وفتح شمال إفريقيا وتولي ولايتها، وقد نجح زهير بدحر الروم والقبائل البربرية، لكن الروم قدموا بأسطولٍ كبير واحتلوا برقة واشتبكوا مع زهير بن قيس وقتل في المعركة، الأمر الذي دفع بعبد الملك إلى إعادة إرسال جيش جديد بقيادة حسان بن النعمان الغساني، الذي فتح قرطاجنة أكبر معاقل الروم في إفريقيا، وتوقف في القيروان حتى يأتيه مددٌ جديد من الشام، ليخمد ثورة الكاهنة البربرية التي اعتصمت بجبال أوراس وعاثت فسادًا في البلاد، وبعد أن قُضي على ثورتها تصدى حسان لغزو روميٍ جديد لقرطاجنة، وهزمهم مرةً أخرى، واستكمل الفتوحات حتى وصل إلى طنجة.

وفي تلك الأثناء كان الروم يحاولون فتح جبهةٍ ثانية على حدود الشام، فحشد الإمبراطور الرومي جستنيان جيشه لغزو المسلمين، فلقيه محمد بن مروان وأنزل به هزيمةً ساحقة عام 74هـ، لتتبع هذه المعركة العديد من الغزوات التي قادها مروان بن محمد، وعبد الله بن عبد الملك الذي وسع حدود الدولة على حساب البيزنطيين، وأسقط عددًا من مدنهم.

أما على الجبهة الشرقية، فقد تولى الحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة حركة الفتح، فقد توغل المهلب في بلاد الترك، وقد تابع ابنا المهلب حركة الجهاد حتى ولى الحجاج قتيبة بن مسلم، الذي تحرك بجيوش الفتح ليفتح الهند وبلاد السند ويصل إلى حدود الصين ويأمر ملوكها بدفع الجزية.

وهكذا ترك عبد الملك من بعده دولةً موحدةً قويةً مترامية الأطراف، استطاع خلال فترة حكمه من إعادة حركة الجهاد، وإعادة تنظيم الدولة ودواوينها، وتطوير نظامها الاقتصادي، ليترك وراءه أقوى دولةٍ في العالم في ذلك الوقت.

المصادر

  • الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الإنهيار، علي الصلابي، دار المعرفة، بيروت، 2013.
  • تاريخ الدولة الأموية، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، بيروت، ط7، 2010.
  • الدولة الأموية والأحداث التي سبقتها، يوسف العش، دار الفكر، سوريا ط2، 1985.
  • التاريخ الإسلامي، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، ط1، 2010.
  • الأدب الإسلامي: شوقي ضيف، دار المعارف، ط10، د.ت.
  • عبد الملك بن مروان والدولة الأموية: محمد ضياء الدين، مطابع سجل العرب، القاهرة، ط2، 1969.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى