هل تتراجع فرنسا عن علمانيتها المتوحشة؟!
تتعرض العلمانية الفرنسية للهجوم بشكل متزايد، بل حتى الاستهزاء بها! ولكن، إذا لم تكن علمانيتُنا موجودة، فكيف ستبدو حياة الفرنسيين اليومية؟ .. هذا السؤال طرحته مجلة (ماريان -Marianne) الفرنسية في عدد 1 ديسمبر 2022، في تحقيق مُطوَّل بعنوان: “هل نحن على استعداد لأن نكون لا علمانيين بعد الآن؟”. والذي تناول قضية مركزية أتعبت بها فرنسا العالَم، وكَـرِه العالم فرنسا أكثر لأجلها؛ إنها العلمانية الفرنسية المتوحشة.
تقول المجلة: “في 9 ديسمبر، تم الاحتفال بالذكرى السنوية الـ 117 لقانون فصل الكنيسة عن الدولة. لكن المفارقة الكبرى، أن الاحتفال بهذا القانون يضمحل كل عام، في الوقت الذي تتعرض فيه علمانيتنا لاختبارات أكثر فأكثر!
فلا يزال النموذج العلماني الفرنسي يتعرض للتحدي وللمقارنة بالأنظمة الأخرى. هذا النظام، الذي ينتقده بعض الناس كثيرًا، هو في النهاية الضامن للعديد من الحريات، التي يتم الاستهزاء بها في بلدان أخرى. لذلك دعونا ننظر في مكان آخر، دعونا نسمح لأنفسنا -دون محاولة تحديد أولوياتنا الخاصة- بمقارنة نموذج علمانيتنا بالنماذج الأخرى في العالم؛ أنظمة تُوصف بأنها تحترم الحرية الدينية أكثر، دعونا ندرس عن كثب، بطريقة ملموسة للغاية، هذه الأنظمة المختلفة للدول في الخارج.
فهناك ما يسمى بـ”الأنظمة العلمانية المتسامحة”، كما هو الحال في إنجلترا أو كندا أو ألمانيا، أو مثل إيطاليا أو إسبانيا؛ وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي -وبمنطق العلمانية الليبرالية التعددية-، فإن الأديان هناك مَحميَّة بمنطق مُخالف ومختلف تمامًا لمنطقنا وطريقتنا.
ففي لبنان، النموذج الطائفي، جعل الهوية الدينية هي الأساس للمنظومة السياسية؛ بينما في إسرائيل، نجد اليهودي العلماني واليهودي الأرثوذكسي دائمًا ما يعارضان بعضهما البعض، أما نموذج العلمانية التركية فيتلاشى أكثر فأكثر مع مرور الوقت “.
ثم شرعت المجلة في استعراض عدد من أنظمة الحُكم في بعض مناطق العالم، كنماذج مختلفة في تعاطيها مع الأديان والحريات والحقوق الدينية للمواطنين، ومقارنتها بالنموذج العلماني الفرنسي المتفرد في توحشه وشراسته.
- وتحت عنوان “البلدان العلمانية التي تؤيد الحل الوسط”، جاء النموذج الأول، ويضم ثلاثة دول: المملكة المتحدة وكندا وألمانيا.
وسألت: هل حرية البعض لها أسبقية على حرية الآخرين؟
وتجيب: هذا هو السؤال الذي يطرحه منطق الثقافة في المملكة المتحدة، والتكيُّف في كندا، والبرجماتية في ألمانيا، هذه النماذج تسترشد بقناعة متفائلة، من خلال الحوار وحُسن نية الجميع، وأن المصالح الخاصة للمجتمعات ستكون قادرة على التناغم، وبالتالي المساهمة في المصلحة العامة للمجتمع.
ففي بريطانيا، الإنجليكانية هي دين الدولة، والملك هو رأس الكنيسة، لكن الدين لا يُفرض على المواطنين. ومع ذلك فهو يقع في قلب المجتمع السياسي، ونرى اليوم أن خُمس المدارس الثانوية الأفضل أداءً هي كاثوليكية، و 70 % من الطلاب في مدارس كاثوليكية أيضًا!
ومن المنطقي هنا أن تكون المدارس الكاثوليكية مدعومة من الدولة؛ لكن توني بلير قام بتوسيع الأمر إلى الديانات الأخرى، لتحصل على حقوق العمل، كالتي تمتع بها المدارس اليهودية والمسيحية. وقد حصلت على هذا الترخيص المدارس الابتدائية العامة للمسلمين والسِّيْخ. ويُطلب منهم تدريس المناهج المدرسية الوطنية، لكن لهم الحرية في تعليم لغات أخرى.
- أما النموذج العلماني الثاني، فجاء تحت عنوان: “دول بارعة في التعددية الدينية .. ودين الأغلبية”. وضم كلًّا من إيطاليا وإسبانيا.
تقول المجلة: إيطاليا وإسبانيا دولتانِ علمانيتانِ لهما مجتمعات علمانية. ومع ذلك، فإن دين الأغلبية “الكاثوليكية” لا يزال يُهيمن على الآخرين. فعلى سبيل المثال، إن وجود الصلبان على جدران المدارس الإيطالية أو قاعات المحاكم أو المستشفيات يعني أن دين الأغلبية، هو الدين الأكثر تأثيرًا.
كما أن وجود الفاتيكان يعطي العلمانية لونًا خاصًّا، لا يتمثل في عدم اكتراث الدولة بالظاهرة الدينية، بل على العكس من ذلك، فإنه يمثل نوعًا من حماية التعددية والتنوع الثقافي، وليس الحجاب هو الذي يجبر إيطاليا على التشكيك في علمانيتها، ولكن وجود الصلبان في الفصول الدراسية وغيرها من المؤسسات العامة.
أما في إسبانيا فينص الدستور على: “تأخذ السلطاتُ العامة في الاعتبار المعتقداتِ الدينية للمجتمع الإسباني؛ وبالتالي ستحافظ على علاقات تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والطوائف الأخرى”. فالكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا لا تزال تتمتع بمكانتها المتميزة، وتتدخل في الحياة السياسية على الرغم من أن نسبة المتدينين 13% فقط.
- أما النموذج الثالث فجاء تحت عنوان: “البلد الذي تأتي فيه الحرية الدينية أولًا”، وكان خاصًّا بالولايات المتحدة الأمريكية.
تقول المجلة: أمريكا الليبرالية، بلد يُمارس ما يسمى بالعلمانية الإيجابية؛ حيث تكون الدولة محايدة حين تفرض الأديان معاييرها في الفضاء المدني، وتقتصر العلاقة بين الدولة والدين على نوع من التسامح المُعمَّم لتأسيس تديُّن مدنيّ.
وتعد الحرية الدينية أمرًا أساسيًّا في الولايات المتحدة؛ فوفقًا لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، فإن 76 % من السكان ينتمون إلى دين، وهناك حوالي 3000 انتماء ديني في بلد “العمّ سام”، ولا يمكن للسلطة العامة -بأي حال من الأحوال- أن تتدخل في المجال الديني، والعكس صحيح.
وعلى سبيل المثال، ففي 25 ولاية لا ينص القانون على حد أدنى لسن الزواج، ويُسمح للأطفال بالقيام بذلك؛ شريطة أن يحصلوا على موافقة والديهم وموافقة القاضي! وفي معظم الولايات الأمريكية الخمسين، السن القانوني للزواج هو 18 عامًا، لكن الجميع يعترفون بالاستثناءات، ففي نيويورك ونورث كارولينا وألاسكا، يمكن لمن هم في الرابعة عشرة من العمر أن يتزوجوا، أما ولايات ماريلاند وماساتشوستس فتتسامح مع الزواج في سن 12.
مثال آخر على “النموذج العلماني الأمريكي”، في عام 2017 رفض طاهي مُعجَّنات تحضيرَ كعكة زفاف؛ وذلك لأن الزوجين كانا مِثليَّيْنِ، وذلك لأن هذا الأمر يتعارض مع معتقداته، والقضية هنا بعيدة كل البُعد عن كونها مجرد نماذج فردية، فالخبازون وبائعو الزهور والمطاعم، والعديد من المهنيين يرون أن لهم حرية دينية تمنعهم من عمل ما يخالف عقيدتهم.
ولذلك، فإن “العلمانية الليبرالية التعددية” في البلاد تكافح من أجل إيجاد توازن بين حماية الحرية الدينية، والحفاظ على مبدأ حياد الدولة.
- وجاء النموذج الرابع تحت عنوان: “علمانية مرادفة للحياد .. أم السلطة؟”، والذي تناول بعض دول الشرق الأوسط، والتي بدأها تقرير المجلة بتركيا.
كانت تركيا الدولة المسلمة الأولى والوحيدة التي كرَّست العلمانية في دستورها، في عام 1924، وكذلك الوحيدة التي حظرتْ ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات والبرلمان والجيش. هذه العلمانية -القريبة من الرؤية الفرنسية- تم اختبارها لفترة من الزمن، ثم تم رفع القيود المفروضة على الحجاب تدريجيًّا، حتى قبل المناقشات الساخنة حول الحجاب بين المحافظين والعلمانيين؛ كما أظهر نموذج أول رئيس لجمهورية تركيا، مصطفى كمال أتاتورك، بعض القيود على حياد الدولة.
ما يثبت ذلك، قيامه بإنشاء إدارة (ديانت – رئاسة الشؤون الدينية التركية) في عام 1924؛ المسؤولة عن العقيدة الإسلامية، من خلال إدارة بناء وصيانة المساجد في الداخل والخارج، وتعيين الأئمة. وهنا ابتعدت الدولة التركية عن الحياد، وهو مبدأ مكون للعلمانية؛ لكن الدولة ضمنت لهؤلاء إقامة شعائرهم الدينية، وتمويل أماكن عبادتهم.
- وتحت عنوان: “معقد .. استحالة الاختيار بين نموذجين للمجتمع؟”، تناولت المجلة دولة الكيان الصهيوني كنموذج ثانٍ لدول الشرق الأوسط.
فقالت: إسرائيل ليست دولة دينية، دون أن تكون علمانية؛ فالدين له كثافة تتجاوز مفهوم الاعتراف! ففي الحالة الإسرائيلية، تعني العلمانية أنه لا توجد التزامات دينية من جانب المجتمع. ومع ذلك، فهي ديمقراطية مع الأحزاب السياسية الدينية. ونتيجة لذلك، فإن العديد من القوانين مستوحاة من الدين.
فـ”تل أبيب” لديها شواطئ مقسمة لتلبية خصوصيات بعضها البعض: شواطئ للمِثليين، وللمُتدينين الأرثوذكس، إلخ. “الجميع يفعل ما يريد” وفقًا للشِّعار المُعاصر. وفي القانون المدني، فإن غياب الزواج المدني، هو الموضوع الذي لا يزال يثير غضب المجتمع الإسرائيلي.
كذلك تتطلب الشريعة اليهودية دفن الجثث في غضون أربع وعشرين ساعة من الموت. ويكاد يكون من المستحيل الخروج عن هذه القاعدة، فلا يستطيع بعض الأقارب، وخاصة من خارج الدولة، حضور الجنازة.
وفي هذا الصدد، فإن عملية علمنة القانون ليست على جدول الأعمال، ولا تزال تمثل قضية رئيسية. إذن فنموذج إسرائيل باختصار: لا دينية ولا علمانية.
وعندما تناولت المجلة الدولة الثالثة في الشرق الأوسط؛ وهي “لبنان”، قالت: يُعرِّف لبنان نفسه على أنه لا ديني ولا علماني! فـ”الحالة المدنية” التي يؤدي هيكلها الطائفي إلى تنظيم سياسي وإداري على أساس المُحاصَصَة السياسية، تحتكر ثلاثة مجتمعات للسلطة وتتقاسمها: رئيس الجمهورية مسيحي ماروني، ورئيس الوزراء مسلم سُنِّي، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي. هذا التوزيع هو ضمان للسلطات والحقوق لأتباع 18 طائفة دينية قائمة في بلد واحد وصغير جدًا!
- أما النموذج الخامس الذي تناول دول المغرب العربي، فجاء تحت عنوان: “حيث يبقى الفصل بين الدين والدولة”.
تقول: في الجزائر والمغرب وتونس، حيث الدين الرسمي هو الإسلام؛ فإن فكرة الفصل بين المجالين العام والخاص لم تتضح بعد. فمنذ استقلالها، لم تقرر هذه الدول الثلاث حتى الآن موقعها بين الدولة المدنية والدولة الدينية، والشعارات التي سُمعت في ساحات تونس خلال الربيع العربي، استحضرت العلمانية كنتيجة طبيعية للتحرر السياسي وظهور الحقوق الفردية، لكن لا تزال قضايا مثل المساواة بين الجنسين قضية رئيسية في هذه البلدان تحكمها المنظومات الأبوية وقوانين الأسرة.
أخيرًا تقول المجلة: من الواضح أن الدول الأخرى ببساطة لم تفصل الدين عن الدولة. وبمقارنة علمانيتنا بالآخرين، فإنه من المثير للاهتمام أن ننظر في ضرورة التكيُّف مع التحديات الجديدة التي تواجهها بلادنا، حتى تظل حصنًا فعَّالًا لضمان حرية الجميع وحمايتهم.
ويبدو أن مثل هذه الحوارات والنقاشات التي تدور في أروقة الثقافة والفكر الفرنسية حول “غرابة وشراسة النموذج العلماني الفرنسي”، وتفرده بها عن بقية النظم العلمانية، تعد مؤشرًا على ضجر الفرنسيين من هذا النموذج الوحشي للعلمانية الذي جعل الدولة داخليًّا وخارجيًّا مَثار انتقاد وسخرية.
ورغم أن هذه المراجعات حول العلمانية ما زالت فردية، ولا يمكن أن تشير إلى تراجعات عن التوحُّش العلماني الفرنسي على مستوى الدولة والأنظمة والقوانين والسياسيين، فإنها تدلِّل على حالة من التململ والاضطراب الداخلي الذي قد يتزايد صداه مع مرور الوقت.
كما أن تحقيق المجلة تضمن دفاعًا عن علمانية فرنسا، وأن البلد لا يمكن أن تعيش كـ”لا علمانية”. لكن الأزمات التي تشهدها الدولة على كافة الأصعدة دفعت البعض إلى التفكير في ضرورة التراجع إلى الوراء قليلًا، والتخلي عن بعض أنياب الوحش العلماني الفرنسي، وليس كل أنيابه .. فضلًا عن قتل الوحش!
بارك الله فيكم واعانكم الله وجزاكم كل خير