كيف انحرفت الأمة وكيف تعود
تكلَّمنا في المقال السَّابق –كيف أخرج رسول الله للنَّاس خير أُمَّة– عن كيفية إخراج الأُمَّة، وكيف جاء رسولنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى قوم قد تفشى فيهم الظلم الاجتماعي والفساد الأخلاقي والاستبداد السياسي، ونخرت الجاهلية في بنيانهم وعقولهم حتى عبدوا الحجر والوثن، واستطاع أن يُخرج لنا من هذه الأُمَّة -التي وصفها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بـ (جاهلية و شر)- خير أُمَّة أُخرجت للنَّاس، فكان جيل الصحابة -رضوان الله عليهم- جيلًا فريدًا بحق, وكانت للمسلمين السيادة والريادة والتمكين ، وكانت أبدان الصحابة رضوان الله عليهم في الدنيا وقلوبهم معلَّقة بالآخرة، فكانت خير أُمَّة أُخرجت للنَّاس. ولكن سنَّة الله في كونه أن (الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). إن سُنَّة الله وشِرعة السَّماء (غيّر نفسك تُغَيّر واقعك)، ولكنها ليست سُنَّة فرد وإنما سُنَّة مجتمع وأمَّة، إن التَّغيير ليس هدية تُعطى، ولا غنيمة تُغْتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بتغيير ما بالأنفس؛ فهما متلازمان.
فلما تراجع المسلمون عن مصدر عزّهم وقوّتهم؛ أصابهم الضّعف والذّل والهوان، حتَّى يعلم المسلمون ألَّا ملجأ من الله إلا إليه، فلابد لعناصر الأمَّة كلها من العمل لدين الله، وعناصرها هم: القادة، الصَّفوة، الأفراد، وليست القيادة وحدها المسئولة عن النصر أو الهزيمة، فموسى -عليه السلام- كان كليم الله، المؤيَّد من السَّماء لم يستطيع مع قومه الذين تعودوا على العبودية وحياة الذل، أن يجعلهم يدخلون الأرض المقدَّسة، فحرَّمها الله عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. لماذا أربعين سنة؟ لكي يهلك القهر والعبودية لغير الله، ويأتي جيل بعد ذلك من الأحرار، لأن هذا الدين لا يُقيمه إلا من رفض كل ألوان العبودية، إلا العبودية لله وحده لا شريك له.
وفي مقالنا هذا نتناول كيف انحرفت الأُمَّة وكيف تعود؟
كيف انحرفت الأمَّة عن هويَّتها؟
يرجع انحراف الأمَّة إلى سببين:
- خلل في التَّوجيه العلمي الشَّرعي: من أهل الجدل واللسان أدى إلى ضعف قوة الالتزام والافتراق الديني عند المسلمين، فغاب دور العلماء الربانيين العاملين الذين يحملون هم الدين، وابتعد أهل العلم عن ساحة جهادهم بالعلم والعمل والجهاد وتوعية الناس والأخذ بأيديهم، وأصبح الكثير من المنتسبين للعلم أدوات تُستخدم لتثبيت ملك الحُكَّام –إلا من رحم الله- وشغلوا الأُمَّة بقضايا فرعية، وتركوا القضايا الأصلية.
- خلل في التَّوجيه السياسي: عند أهل الأيدي والقتال أدى إلى ضعف قوة الاجتماع والافتراق الدنيوي عند المسلمين، كما قال شيخ الإسلام “وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم وكثير من أهل البدع وأهل الفجور فحال أهل الأيدي والقتال يشبه حال أهل الألسنة والجدال”
وهل أفسد الدين إلا الملوك … وأحبار سوء ورهبانها.
ولا أمل في إصلاح حال المسلمين إلا بالخروج من شرعيات الضرورة التي استمرت عشرة قرون في سياسات الملك وأوضاع السلطة وأنظمة الحكم إلى شرعية الاستقرار
ماذا كانت نتيجة غياب الهويَّة الإسلاميَّة عن الأُمَّة ؟
نتج عن ذلك حدوث اغتراب -فراغ سياسي وفقدان انتماء- وأدَّى ذلك إلى:
1- حكم الأراذل:
لأن المجتمع يُصبح همجًا رعاعًا أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح نتيجة تعدد محاور الاستقطاب في الأُمَّة، فلا تجتمع الأُمَّة حول أهل الشرف والرأي الراجح، بل قد تجتمع حول بعض المضللين والدجالين وأراذل الناس أو يتبعثر الناس حولهم.
2-التبعية للخارج:
لقيام دول أو دويلات صغيرة نتيجة التفتيت، ولانفصالها عن مشروعها الحضاري الإسلامي الكبير وهذا يؤدي إلى الدخول في التبعية للكيانات الكبيرة لملء الفراغ السياسي وحمايتها داخليًا وخارجيًا.
3- الفساد:
ويتولد بالضرورة مع وجود التبعية وحكم الأراذل، كما أن انتشار الفساد يدعم حكم الأراذل ويمهد للتبعية، وهذا يفسر الدائرة الخبيثة النكدة التي تحياها الأُمَّة الإسلامية والتي تجمع بين النواتج الثلاث.
إنَّ مشكلة التبعية التي نحن فيها والفساد، إنما أتت من وجود الفراغ السياسي، والفراغ السياسي آتٍ من الاغتراب، والاغتراب آتٍ من فراغ عقيدي، أو من خلل في المفاهيم، مع ضعف في المشاركة، مع فقد الهويَّة، مع وجود تشيُّع وافتراق.
-إنَّ ضعف المشاركة ووجود التَّشيُّع إنما يُحدِثَان اغتراب، حتَّى مع وجود الهويَّة، فإذا فُقِدَت الهويَّة مع ضعف المشاركة ومع وجود روح التَّشيُّع والافتراق، فإنَّ الاغتراب سيكون عميقًا جدًا.
ولكي تخرج الأمَّة من الاغتراب إذن: فلابد من إيجاد الهويَّة وإيجاد الهويَّة مرتبط بتصحيح المفاهيم، إذن فلابد من: تصحيح المفاهيم وإيجاد الهويَّة، وتحقيق المشاركة ونفي التَّشيُّع، نفي الشِّيَع.
اقرأ أيضا: تفريغ الأمم .. كيان بلا محتوى
كيفيَّة الخروج بالأُمَّة من هذه الحالة الحرجة الخطيرة ؟
« لا يصلح أمر آخر هذه الأُمَّة إلا بما صلح به أولها ». فلا بد من الإستنان برسول الله في:
إحياء الهويَّة الإسلاميَّة: بتجريدها وقيامها على التوحيد الخالص ومنع الافتراق الديني والدنيوي وذلك بإحياء الهوية الإسلامية في قلوب أبناء هذه الأُمَّة بتقوية الشعور الديني والانتماء للإسلام واستخراج هذه الهوية من اللاشعور، إزاحة ما ران عليها من الغبش وإخراجها إلى واقع الكثيرين من المنتسبين إلى هذا الدين، إقامتها على التوحيد الخالص وتجريدها عن غيرها من القضايا الرائجة والمصالح القومية كما فعل رسول الله بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص دون تبني قضايا العدالة الاجتماعية أو القومية العربية أو الإصلاح الأخلاقي لذاتها، فحرر هذه الهوية عن غيرها من عناصر الجذب ومحاور الاستقطاب الأخرى بين الناس. وبالتالي فمن رضي بالعلمانية فقد رفض شريعة الله، ولا يجتمع في قلب امرئ واحد الإيمان بالله وتوحيده مع الإقرار بشرعية التمرد على الله بالرغبة عن شرع الله إلى غيره وبالرغبة عن ولاية الإسلام إلى غيرها من القوميات أو الوطنيات. فقد جمعت العلمانية بين وصفين: وهما “الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع” أو بمعنى آخر جمعت العلمانية بين:
- اتخاذ غير الله وليًا: بالتجمع والموالاة على غير الإسلام.
- ابتغاء غير الله حكمًا: بقبول شرع غير شرع الله والانتساب إليه وهذا القدر من الوضوح ـ من وضع العلمانية على ميزان الشرع كاف لرفض العلمانية كشريعة غير شريعة الله ورابطة ولاء غير رابطة وهوية الإسلام.
- إنَّ المفروض علينا هو أن نُوَجِّه الأمَّة كلّ هذا التَّوجُّه: من أوَّل رفع الالتباس، إلى إحياء الهويَّة، إلى التَّوجيه الإسلاميِّ الشامل، إلى مشاركة الأمَّة في التَّمكين، إلى مشاركة الأمَّة بعد التَّمكين، إلى روح الفريق والتَّوازن بين الفرد والجماعة، إلى التَّنمية البشريَّة، وهذه هي العناصر السَّبعة لعمليَّة الإحياء الإسلاميِّ.
فلابد من إخراج الأمَّة من حالة الحياد إلى الانحياز للإسلام، ليس من منطلق العاطفية الدِّينيَّة أو الشعور الدِّيني فقط، ولكن من منطلق عقيدة التَّوحيد الواضحة السَّليمة، وليس كثقافةٍ باردةٍ، ولكن كوجدانٍ دينيٍّ حيٍّ مُتَّقدٍ مُتَدَفِّقٍ بمفاهيمٍّ صحيحةٍ، وهذا هو عَمَلُنا لإحياء الأمَّة.
- وأقل ما يتحقق به إيمان المسلم المستضعف في هذا الزمان أن يعلم الله من قلبه أنَّه كاره ، ودلالة الكُره في القلب هي الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، وهذا يستلزم بالضرورة؛ إسقاط شرعية الأنظمة العلمانية وكره القلب -سمَّاه رسول الله جهادًا-، ولا يكون كذلك إلا أن يكون كرهًا حقيقيًا خاليًا من الاستنامة والاستكانة وشرح الصدر بإيثار العافية. كما قال رسول الله في الحديث: «… فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ». وبصفة عامة فإنه مع ملاحظة الدروس المستفادة من هديه في إخراج الأُمَّة وملاحظة ما حدث بعد ذلك من انحراف عن هذا المنهج يتضح حاجتنا في واقعنا المعاصر إلى:
تصحيح المفاهيم في أربعة مجالات:
المجال الأول: مجال التوحيد والعقيدة:
ويترتب على هذا التصحيح ما يلي:
- القضاء على ظاهرة الشرك في الحكـم والـولاء والنسـك وإخراج من أراد الله له النجاة من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد لتتحقق له النجاة الأخروية من الخلود في النار. سُئل رسول الله: ما الموجبتان ؟ فقال: « من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار »
- إسقاط شرعية الافتراق الديني.
- إسقاط شرعية الأنظمة العلمانية.
- تطهير الأُمَّة من عبادة القبور ومظاهر الشرك والبدع.
المجال الثاني: مجال مشاركة الأُمَّة
وهذا يترتب عليه:
- وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر” )احترام حقيقي لحقوق الإنسان وفقًا لما شرعه الله تبارك وتعالى وتكريمه سبحانه لبني آدم).
- إفساح مساحة أكبر ( أوسع ) لنمو شخصية الفرد العادي.
- التخلي عن أساليب القولبة والتلقين والتحول عن روح القطيع إلى روح الفريق مع تعميق الارتباط بالجماعة.
- تحقيق مشاركة الأُمَّة في التغيير ومشاركة الأُمَّة بعد التمكين، من خلال مشاركة أهل الحل والعقد وأهل النظر والاجتهاد، ومن خلال دور الصفوة في ملئ الفراغ السياسي وتحقيق التلاحم بين الجماهير والسلطة الشرعية.
- إسقاط شرعية الافتراق الدنيوي.
المجال الثالث: تحقيق التوازن في الخطاب الديني بين العقل والوجدان
ويترتب عليه : المحافظة على قوة الشعور الديني مع قوة التأصيل الشرعي وقوة البصيرة الدينية لرفض العلمانية ( اللادينية ) والقومية والتبعية لمعسكرات الشرك الدولية وأي التباسات أخرى تطرأ على مفهوم الإسلام.
اقرأ أيضًا: الدعوة.. ولغة الخطابة
المجال الرابع: تحقيق التوازن بين الاحتفاظ بالهدف والثبات على المبدأ، وبين ما تقتضيه الضرورات الواقعية من المرونة والتكيف مع الواقع
ويترتب عليه: تجريد الهوية من الالتباسات ليتحقق للإسلام هويته المستقلة التي تقوم عليها أمته المتميزة وأن أي قدر مطلوب من التكيف مع الواقع لابد وألا يتعارض مع هذا الهدف.
اقرأ أيضًا: مفاهيم ينبغي أن تصحح الجزء الأول والثاني
وبهذا نكون قد عرضنا –بفضل الله- كيف أخرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- للناس خير أُمَّة، وكيف انحرفت الأُمَّة من بعده، وكيف تعود، وأسأل الله أن ينفع بهذه المنارات وأن يستخدمنا في تحكيم شرعه، وإحياء الأُمَّة والجهاد في سبيله، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
السلام عليكم
أثارت أحاسيس موقعكم المبارك حيث المحتوى الجميل و الرسالة الواضحة وأنا شيعي أظن أنكم أخطأتم في هذه الكلمة (تطهير الأُمَّة من عبادة القبور ومظاهر الشرك والبدع.) فهي تهمة موجهة إلينا نحن ولاشك أنها تنبأ عن جهل مركب حيث لا تفهمون ولن تعوا ما نحن فيه من الإعتقاد التوحيدي المحض الخالص والسبب هو المنظار الاسود الذي جعلتموه على أعينكم بحيث تروننا وكأننا خرجنا عن الدين فالرجاء أن تدرسوا أكثر و أكثر عقائدنا الصافية التي هي منهل من شرع الله الذي بيّنه أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وأنا على يقين أنّه لو تراجعون نصوصنا من دون عصبية ستتراجعون عن رؤيتكم ولكن هيهات ,
عيون أخبار الرضا (ع): ابن عبدوس، عن ابن قتيبة، عن حمدان بن سليمان، عن الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: رحم الله عبد أحيا أمرنا فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا، قال: قلت يا ابن رسول الله فقد روي لنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
من تعلم علما ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار. فقال عليه السلام: صدق جدي عليه السلام أفتدري من السفهاء؟ فقلت: لا يا ابن رسول الله، قال: هم قصاص مخالفينا، وتدري من العلماء؟ فقلت: لا يا ابن رسول الله، فقال: هم علماء آل محمد عليهم السلام الذين فرض الله طاعتهم وأوجب مودتهم، ثم قال: وتدري ما معنى قوله:
أو ليقبل بوجوه الناس إليه؟ قلت: لا، قال: يعني والله بذلك ادعاء الإمامة بغير حقها، ومن فعل ذلك فهو في النار.
الرجاء التأمل في المذهب الحق والإبتعاد عن الإفتراء و التهم .
ما شاء الله اللهم بارك
مقال هام وجميل ، جعله الله في ميزان حسناتك ونفع به عباده الصالحين