هل بُنيت الرأسمالية على الجشع؟
هذا المقال ترجمة لمقال: Is Capitalism Built on Greed لكاتبه: Nathan J. Robinson في موقع: currentaffairs. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
يقول بعض اليساريين: إن الرأسماليين ليسوا جشعين بالطبيعة، ولكنهم يتصرفون بجشعٍ لأن النظام الرأسماليّ يُجبرهم على ذلك. لكن هذا خطأ؛ إن الجشع الرأسمالي هو في الواقع خيار.
إن كنت حديثَ عهدٍ بالنظرية الاشتراكية، فقد تفترض أن الاشتراكيين يعتقدون أن الرأسماليين جشعون، وأن هؤلاء المُلّاك والرؤساء أنانيون وغير أخلاقيين، ولا يهدفون إلا إلى تحصيل وسع جهدهم من الثروات. لكن، خاصةً بين الاشتراكيين الماركسيين، فإن الكثير من المفكرين اليساريين يرفضون نهج التفكير هذا. على سبيل المثال، في الكتاب القادم لِفيفيك شيبر، بعنوان: “مواجهة الرأسمالية: كيف يعمل العالم وكيف يمكن تغييره”، وهو كتاب تمهيديٌّ مفيد بلغة مبسطة عن النظرية الاقتصادية الاشتراكية؛ كتب شيبر أن “الرأسماليين لا يحفزهم الجشع، بل تدفعهم ضغوط السوق”، ويشرح ذلك قائلًا:
“إن الرأسماليّ لا يؤذي موظفيه بدافع الحقد أو الجشع، إن الدافع يأتي من الواقع الغاشم للمنافسة في السوق. إذا لم يوفر الرأسمالي منتجه بأقل سعر، فإنه سوف يفقد الزبائن؛ وإذا استمر ذلك، فإن شركته سوف تبدأ تنزف الأموال. لذلك عليه أن يحافظ على سعر البيع عند أدنى مستوى ممكن، ولكن إذا كان سيخفض سعر البيع، فعليه أيضًا أن يخفض تكاليف الإنتاج وإلا لن يربح أي مال على الإطلاق. ومن ثم، فهو يحاول أن يدفع أقل ما يمكن مقابل أدواته -الآلات والمواد الخام التي يشتريها والأجور التي يدفعها لموظفيه-. لذلك، يحاول كل رأسمالي باستمرار الحصول على أقصى استفادة من كل دولار ينفقه، بما في ذلك من عماله. هذه هي الطريقة التي تنجو بها الشركات في السوق، وليس للأمر أي علاقة بالجشع”.
يقول بن بورجيس في مجلة جاكوبين مقالًا في ذات المقام:
“ليس الدافع الأساسي لرغبة الرأسمالي في تكديس الأموال متعلقًا بكون الرأسماليين أشخاصًا فاسدين يُسيطر عليهم الجشع، ولكنه متعلقٌ بالضغوط القاسية للنظام الرأسمالي نفسه. إن الرأسمالي الذي لا يسعى، بلا رحمة، وراء الأرباح، سوف يتفوق عليه من يفعل ذلك”.
إن نهج الحديث هذا يوافق تمامًا القصة التي يكررها الرأسماليون لأنفسهم، وهي أنهم ليسوا في خضم هذا الموج من أجل أنفسهم. إذا قام رئيسك في العمل بتخفيض راتبك، فإنك على الأغلب سوف تحصل على تبرير فحواه أن ضغوط السوق هي السبب. ولم يسبق أن اعترف أي رأسماليّ قط بأنه يريد تحصيل أكبر قدر ممكن من المال ليس لشيء إلا لأنه يحب المال.
الآن، القصة التي تُروى عن قيام قوى السوق بالضغط على الرأسماليين لخفض التكاليف، وتشرح لماذا قد لا يكون الاستغلال نتيجةً لِأنانية وجشع رواد العمل، صحيحة. لكن هذه الحجة الماركسية خاطئةٌ تمامًا، لأنها تستنتج من هذا أن الرأسماليين ليسوا مدفوعين أبدًا بالجشعٍ والأنانية، على الرغم من أن هذا هو بالضبط سبب تجاوز هدف الرأسمالية من مجرد “النجاة” في السوق، إلى الريادة والثراء الفاحش.
أحد الأسباب التي تُمكنني من القول إن الأنانية والجشع ليسا ضرورة تفرضها السوق، هو أنني بنفسي أدير “شركة” لا تسعى لتحقيق المكاسب، وأنا أعلم أن هذا كان خيارًا بالنسبة لي، خيار ألا أسعى لتحقيق أعظم قدرٍ من الكسب. تخضع مجلتنا لضغوط معينة في السوق، فعلينا مثلًا أن نُبقي سعر المجلة منخفضًا بما يكفي ليشتريَها القراء، ونقص الأموال في مجال الإعلام يعني أن الرواتب لن تكون عالية جدًا. لكن لا شيء يجبرنا على السعي وراء الربح، أي أن نجني أموالًا تفوق ما يلزم لتغطية تكاليفنا. إذا أردنا توسيع عملنا التجاري هذا، فسوف نحتاج إلى كسب مزيدٍ من المال. لو كانت مجلتنا مشروعًا ربحيًّا يحتاج إلى “تضخيم قيمة المساهمين”، لكُنا في حاجة إلى السعي لجني أكبر قدر ممكن من المال. لكن، كما ترى، هذه كلها اختيارات وليست ضرورات فرضها علينا النظام الاقتصادي. أعلم أنه ليس من الضروري تضخيم الأرباح من أجل أن “تنجو الشركة في السوق”، لأنني أمضيت ست سنوات ساعيًا لتبقى شركتنا في السوق، دون حاجة إلى السعي لتحصيل أكبر قدرٍ من الأرباح.
يوضح كل من شيبر وبورجيس أن الرأسمالي الذي يسعى إلى تضخيم أرباحه يحتاج إلى استغلال الناس وأن حتى الأعمال غير الربحية قد تجد نفسها مضطرة إلى خفض تكاليف الإنتاج دون رحمة من أجل البقاء في السوق التنافسية. لكن قوى السوق هذه لا تعطي أي تفسير عن سبب احتياج الرأسمالي إلى تضخيم أرباحه في المقام الأول.. إن الرغبة في تضخيم أرباح الفرد هي وليدة الجشع، ليس إلّا.
إن الرأسماليين جشعون، ولا شكّ في ذلك. في الواقع، في موضعٍ آخر في الكتاب، يقدم لنا شيبر دليلًا على أن الرأسمالي جشعٌ بطبيعته. يوضح شيبر كيف يسعى الرأسمالي الذي يستثمر في أمواله لكسب المزيد من المال، ويقول: “في حين أنه من المهم بالنسبة له أن يسترد استثماره الأصلي، إلا أن هذا ليس كل ما يحتاجه بالطبع، لسبب واحد، إنه لم يكسب أي أموال لنفسه”، إذا لم يستثمر الرأسمالي ماله في سبيل زيادة إضافية يحققها، فإن “مجهوده كله يصبح نوعًا من المسعى الخيري، الذي يعطي للآخرين دون أن يأخذ شيئًا في المقابل”، “يعلم الجميع أن السعي وراء الربح هو الذي يشكل تنظيم الإنتاج بأكمله داخل النظام الرأسمالي”.
ولكن ما الذي يمنع الرأسمالي إذن من الخوض في العمل الخيري دون السعي لأخذ أي شيء لنفسه؟ أو أخذ قدرٍ يعادل ما يأخذ أقل العمال أجرًا؟ لماذا يحتاج الرأسمالي إلى “أخذ شيء ما معه”، يفوق ما يوفر له مكتفيات العيش؟ من الممكن تمامًا بدء عملٍ تجاريٍّ وتشغيله لصالح المجتمع، دون استخدامه لتحصيل ثروة. لكن الرأسمالي يختار دومًا السعي وراء كسب المال، وهذا الخيار يوصف بدقة بحب التملُّك، أو الجشع، لأنه لا يوجد شيء في النظام الاقتصادي يفرض على الرأسماليّ هذا الخيار. لا يحتاج جيف بيزوس إلى أن يكون مليارديرًا، لم يكن بحاجة إلى الاستئثار بأمازون، إنه يستغل الناس لمصلحته الخاصة، لأنه جشع، ولديه نهمٌ وشهوة للسلطة، وليس لأن النظام الاقتصادي يجبره على ذلك.
عندما نسأل عما إذا كان الرأسماليون يتصرفون بالطريقة التي يتصرفون بها بدافعٍ من الجشع، أو بدافع من قوةٍ نظامية ما تُجبرهم على ذلك؛ فإن إحدى طرق اختبار هذا القول هي التفكير فيما سيحدث لو استبدلنا الدور الرأسمالي بـ”الإيثار”. يمكننا أن نرى أن بعض الأشياء تظل ثابتة ولا تتغير. إذا جعلتَ الرئيس التنفيذي لشركة ما مُؤْثرًا، لكنه خاضعٌ لتفويضٍ قانونيٍّ يُلزمه تضخيم قيمة المساهمين؛ وإذا استغل، في الوقت ذاته، موظفيه، فيمكن لمجلس الإدارة أن يعزله. قد يكون لدى هذا الرئيس التنفيذي المتميز بِمنْقَبة الإيثار جملةٌ قليلةٌ جدًا من الخيارات يمكنه تنفيذها لتضخيم مداخيل الشركة.
لكن يمكن لمالك الشركة، الشخص الذي يضع رأس المال، أن يُحدث فرقًا كبيرًا اعتمادًا على ما إذا كان يسعى إلى تحقيق مكاسب شخصية، أو إلى نفع المجتمع. إن السعي وراء الكسب يعني أنه يجب استغلال العمال أكثر مما تتطلبه ضغوط السوق وحدها، حتى يستطيع المالك أن يوفر مبلغًا ربحيًّا لنفسه. وإذا كان الهدف هو الصالح العام، فلن يجد المالك الداعيَ لتوليد المبلغ الفَضْل لنفسه. كما لن يحتاج إلى توسيع نطاق العمل بلا هوادة من أجل تحقيق أرباحٍ أكبر. يمكن إذن أن يظل العمل بنفس حجمه، إذا كان الهدف من ورائه هو خدمة الصالح العام.
بما أن القول إن الرأسماليين ليسوا جشعين قولٌ خاطئٌ بيِّنُ الخطأ، فلماذا يطرح الاشتراكيون هذه الحجة؟ أحد الأسباب هو أن الماركسية، التي يتم تقديمها غالبًا على أنها نوعٌ من “الاشتراكية العلمية”، تطورت كطريقة لمحاولة فهم الاقتصاد باعتباره آلة تعمل وفقًا لمبادئ معينة. قال إنجلز، في مناقشة الاشتراكيين الطوباويين، إن الاشتراكيين قبل ماركس كانوا ينظرون إلى الاشتراكية على أنها فكرة أخلاقية عظيمة، وتعبير عن “الحقيقة المطلقة، عن العقل، وعن العدالة”، التي “يجب اكتشافها لِتخوِّل غزو العالم بقوتها الخاصة”. في الواقع، قال روبرت أوين، صانع المنسوجات الثري الذي أسس مجتمعات اشتراكية مبكرة، وهو على فراش الموت، إنه “أعطى حقائق مهمة للعالم، ولم يتم تجاهلها إلا بسبب نقص الفهم”. أدرك ماركس وإنجلز أن مجرد كشف أن الرأسمالية غير أخلاقية وأن الاشتراكية سوف تكون البديل الأفضل، لم يكن كافيًا. إن المرء يحتاج إلى فهم آليات الرأسمالية ليعرف كيفية استبدالها. أصبحت “الأخلاق” كلمة قذرة بين العديد من الاشتراكيين، لأن “الأخلاق” كان يُنظر إليها على أنها غير ذات صلة في الغالب. إن الاشتراكي الماركسي ليس مُدرِّسًا دينيًّا، ولكنه مهندس يفكك الآلة، ويرى كيف تعمل، ثم يحاول إعادة بنائها لتعمل من جديد، وفق خطوطٍ مختلفة.
حتى يومنا هذا، لا يرى العديد من الاشتراكيين أن الرأسماليين هم إنسانيون بشكلٍ خاص، ولذا فهم يميلون إلى اعتبارهم روبوتات لا تُهندس إلا التضخيم والتعظيم؛ تضخيم المداخيل وتعظيمها. إن اعتبار الرأسمالي شخصًا أنانيًّا يعني اعتباره شخصًا له إمكانية تحقيق ما هو أفضل، بدلًا من اعتباره آلة لا تتحرك إلا لتضخيم المداخيل، وهي الصورة التي تسكن غالبًا ذهن الموظفين.
من المنطقي، إذن، ألا يرغب الاشتراكيون في إضفاء الطابع الإنساني على الرأسماليين، وألا يرغبوا لهم في الظهور للعامة كأُناس عاديين مثلنا تمامًا. لكن من المفارقات، عند تطوير نظرية أن الرأسماليين لا يمكنهم أن يكونوا غير ذلك، فإنهم يتركونهم في مأزق. لقد تخلوا عن الحجة القائلة بأن الثراء أمر غير أخلاقي، وهو كذلك. إن هذه الحجة الاشتراكية تسمح لأشخاص مثل إيلون ماسك بالقول إنهم ليسوا جشعين حتى وهم ينتهكون كل معيار من قواعد الأخلاق البشرية ليحققوا أكبر قدر من الأرباح لأنفسهم، دون وجود أي نظامٍ اقتصادي يجبرهم على ذلك.
الأهم من ذلك، حقيقة أن الرأسماليين أنانيون، وأن أنانيتهم تدفع قدرًا كبيرًا من سلوكهم الاستغلالي، لا تعني أننا ببساطة بحاجة إلى إقناع مالكي الثروات بأن يكونوا أكثر لطفًا أو أن يتخلوا عن ممتلكاتهم طواعية وتحويل شركاتهم إلى خدمة المجتمع أو العمال. قد يكون صحيحًا في الوقت نفسه أن الجشع الشخصي يلعب دورًا رئيسيًّا في السعي وراء الربح وأن محاولات إقناع الجشعين بالتخلي عن هذه المذمّة هو أمر محكومٌ عليه بالفشل. أعتقد أن أحد المخاوف لدى بعض الماركسيين هو أنه عندما نبدأ الحديث من الناحية الأخلاقية، فإننا نبدأ في التفكير في العمل السياسي من حيث إصلاح الناس، بدلًا من الاستيلاء على السلطة. لكن لا يجب اعتبار “الأخلاقي” و”المتشدد” متعارضين. يمكن أن نكون ساخرين بشأن احتمالية أن يصبح الرأسماليون أفضل من خلال الإرشاد الأخلاقي وحده، كما ندرك أنه، في معظم الأحيان، ليست “السوق”؛ ولكن سعيهم المرضيٌّ وعلَلُهم الاجتماعيّة لتحقيق مصلحتهم الذاتية هو ما يجبرهم على فعل ما يفعلون.
في بعض الأحيان، قد يُعتقد شيءٌ باطل على أنه حق، لأن الناس المصدقين بذلك لهم مصلحة، حتى لو كانت مصالحهم مختلفة ومتباينة، أو حتى متعارضة. على سبيل المثال، قد يكون لكل من الدولة، ولجماعةٍ إرهابية ما، مصلحة في تضخيم قوة هذه الجماعة الإرهابية، فهذا نافع للدولة لأنه يضمن استكانة الجمهور تحت جناحها، ونافع للجماعة الإرهابية فهو يروج لها، ويلعب دورًا في انضمام المزيد من المتمردين تحت لوائها. وبالمثل، لدى كل من الاشتراكيين والرأسماليين أسباب وجيهة للقول إن الرأسماليين ليسوا “أنانيين” ولكن “النظام” هو الذي يجبرهم على ذلك. فهذا قول نافع للاشتراكيين ليكون حجةً للادعاء بأن النظام الاشتراكي هو البديل الأفضل للنظام الرأسمالي، وهو كذلك نافع للرأسماليين لمسح هذه المذمة التي كثيرًا ما رماهم الجمهور بها؛ لكنه يبقى قولًا باطلًا، وكونه نافعًا لا يبرر تصديقه.
لا يحاول بعض المدافعين عن الرأسمالية القول إن الرأسماليين ليسوا جشعين (على الرغم من أنهم يفضلون عادة مصطلح “المصلحة الذاتية”). رد ميلتون فريدمان على السؤال عما إذا كانت الرأسمالية مبنية على الجشع من خلال الإصرار على أن روسيا والصين دولٌ مبنية على الجشع أيضًا، لكن هذا ليس مبررًا. يجب أن نرفض الفكرة التي تأتي من العديد من الأثرياء والتي، كما يقول جاغ بهالا، “إن الجشع الجامح هو مجرد طبيعة بشرية بسيطة”. يجب أن نعترف بالحقيقة البسيطة المتمثلة في أن أولئك الذين يحاولون الحصول على أكثر مما يحتاجون إليه ليعيشوا حياة رغدة، قد رَاكموا كماليّاتهم بحرمان الآخرين منها.
وهذه طريقٌ اختيارية؛ كان بإمكان الجميع تحصيل الكثير، لأن ثروات الأرض كثيرة، ولكن لا ننسى أنه يتم اتخاذ قراراتٍ كل يومٍ تمنع الناس من تحقيق هذه النتيجة. لا أحد يجبر الرأسمالي على مضاعفة أرباحه، ولا أحد يجبره على أن يدفع لعماله أقلّ، وعبارة “السوق أجبرني على فعل ذلك” هو عذرٌ من شأنه أن يجعل الاشتراكيين قوم ريبةٍ إلى حدٍّ كبير. وعلى الرغم من أن محاولة وعظ الرأسماليين للتخلي عن ثرواتهم والانضمام إلى البروليتاريا (الطبقة الكادحة) ليس استراتيجية ثورية ذكية، فمن الأهمية بمكان أن يفهم الاشتراكيون أن البشر ليسوا مجرد كرات بلياردو تملي الأنظمة التي هم فيها اختياراتهم الأخلاقية. لدينا القوة، وهذه القوة تمنحنا المسؤولية. ولا عذر للسعي في سبيل إثراء الذات باستغلال الآخرين على طول الطريق.