الإنسان بين توحش الرأسمالية ورحمة الإسلام
ما من شك بأن العالم يعيش في أتون رأسمالية متوحشة، تستعبد الناس وتكويهم بنيرانها، مع وجود فارق في درجة الاستعباد، إذ لا يمكن مقارنة معاناة شعوب الغرب المادية بالشعوب الأخرى التي يتم سحقها وتدميرها من غير أية رحمة، والشواهد على ذلك كثيرة، يكفي معها النظر إلى ما حل بالعراق بعد احتلاله عام 2003 من قبل أميركا وبريطانيا -أهم دولتين رأسماليتين في العالم-. لكن بالمحصلة، فإن المواطن العادي في الغرب نفسه لم ينج من وطأة الرأسمالية الشرسة التي تنهش روحه بأنيابها، فهو أشبه بثور الحقل، يبذل جهدًا كبيرًا للحصول على الفتات، ويبذل جهدًا مضاعفًا حتى لا يسقط صريع القروض الربوية المتراكمة في مجتمع استهلاكي مقيت.
دمج الإسلام في الرأسمالية
لقد تفردت الرأسمالية بالعالم ولم تعد الأيديولوجيا هي محور الصراع، لا سيما بعد أن انهارت المنظومة الاشتراكية وتقيأها أصحابها وسقط الاتحاد السوفييتي عام 1991. أما الإسلام فهو غائب عن الساحة الدولية منذ أسقطت الدولة العثمانية وتم إعادة تصميم مكوناتها في كيانات سياسية على أسس تغذي النظام الدولي الرأسمالي الاستعماري. وبات جوهر الصراع القائم في العالم متعلقًا بمن هو قادر على التأثير فيه وتشكيل علاقاته من قبل الدول الرأسمالية نفسها بحسب مصالح كل منها. وصار لسان حال الرأسمالية يقول للمسلمين ومن تبقى من فلول الاشتراكيين وغيرهم من أصحاب الأفكار الفلسفية المناوئة للرأسمالية، اعتقدوا ما شئتم، ونظروا على النحو الذي تريدون، لكن دعوني أنا أدير العالم وأشكل علاقاته وأنظمته.
في هذه الأثناء، بدأ قطاع عريض من ممثلي الحركة الإسلامية المصنفة بالوسطية المعتدلة والمؤسسات الإسلامية التابعة للأنظمة الحاكمة، محاولة إيجاد موقع لهم في أحضان العالم الرأسمالي، حتى لو كان موقعًا هامشيًا أو شكليًا. لذلك قام العديد من فقهاء هذا التيار باستنساخ الرأسمالية وكثير من الأفكار الليبرالية بعد حياكتها من جديد بثوب إسلامي، بذريعة “فقه المصالح” و”فقه الأولويات” و”فقه الواقع” و”تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان” وصولًا إلى القفز عن الأدلة التفصيلية الخاصة بالأحكام الشرعية والاحتكام بدلًا منها إلى “مقاصد الشريعة”.
طبعًا، هناك من يمكن أن يجادل بأن تعريف هذه المفاهيم مرتبط بضوابط شرعية ومقاصد شرعية، أو أن جذورها موجودة منذ زمن بعيد، إلا أن صعيد البحث هنا ليس مجرد سلامة هذه القواعد من عدمها ومدى أصالتها أو استحداثها، بقدر الخلفية التي تتحكم في استحضار هذه القواعد وفهمها وتطبيقها، التي يلاحظ فيها عملية تكييف المسلمين مع الواقع الدولي ودمجهم في النظام الرأسمالي المتحكم بالعالم. لذلك باتت ضوابط فهم هذه القواعد مطاطة جدًا، وأصبح استحضار المعاني العامة للمقاصد والقواعد والمصالح الكلية كافيًا لديهم، لاستيعاب أكبر قدر من المنظومة الرأسمالية الليبرالية ومشتقاتها ومتعلقاتها.
فصارت الديمقراطية التي تعطي الشعب حق التحليل والتحريم قرينة الشورى التي تجري في المباحات، وصارت الحريات العامة التي تتبناها الهيئة العالمية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة جزءًا لا يتجزأ من صميم الإسلام عندهم، رغم مخالفة العديد من موادها لأحكام قطعية في الإسلام. وصارت دولة المواطنة أو الدولة المدنية مرادفًا للدولة الإسلامية رغم الاختلاف الشاسع بينهما ورغم أنها أصلًا وجدت للتعبير عن الدولة التي تقوم على فكرة القانون الوضعي والتعاقد الاجتماعي.
كما أعيدت صياغة أحكام الإسلام المرتبطة بعلاقات الناس بشكل يتماشى مع متطلبات المنظومة الرأسمالية المنتجة لواقعنا المعاصر، فجاءت فكرة البنك الإسلامي والقرض الإسلامي والفن الإسلامي والموضة الإسلامية والسياحة الإسلامية… مع كثير من التصرفات الأخرى المنافية للإسلام أصلًا وفصلًا بعد دمغها بـخاتم “الحلال”. أي أن من يمثل الإسلام من هؤلاء صار يطل على الحياة من منظور الواقع الذي تتحكم به الرأسمالية، لذلك غاب أي أثر فاعل للإسلام عن تشكيل المجال العام من خلال تصورات الإسلام الأصيلة ومعالجاته وقيمه الخاصة. بل إن تحقيق أي نجاح في هذا السياق يشكل فعليًا نجاحًا للرأسمالية، لأنها تمثل جوهر المعاملات والأفكار المطروحة، فيما يحسب أي إخفاق على الإسلام لأنه يدعي شرعيتها ويقدمها بثوب إسلامي.
البنك الإسلامي نموذجًا!
يعتبر البنك مؤسسة حيوية في المجتمع الرأسمالي، يقوم بمهام عديدة منها حفظ الودائع الماليّة للزبائن، والمشاركة في المعاملات والخدمات الماليّة، كصرف الشيكات ونقل الأموال وتحويل العملات وغيرها، إلا أن أهم دور يلعبه البنك هو الاقتراض والإقراض بفوائد ربوية، حيث يقوم بدفع فوائد للمودعين والمقرضين ويفرض الفوائد المضاعفة على المقترضين سواء كانوا أفرادًا أم شركات أم دولًا. وتترتب على عملية الإقراض بالفوائد الربوية أضرارٌ هائلة على الجميع، إذ تؤدي إلى انخفاض قيمة العملة المتداولة وإلى غلاء أسعار البضائع (التضخُّم)، كما تزيد الهوة بين الأثرياء وغيرهم، وتتسبب بخنق دورة المال الطبيعية التي تستثمر في الاقتصاد المنتج الذي يقوم على توفير السلع والخدمات الحقيقية ما يوفر فرص عمل ويجعل المال متداولًا بين الجميع. أما إقراض الناس للاستهلاك -كدفع الفواتير أو شراء سيارة أو الزواج أو السياحة- ثم مضاعفة الفوائد الربوية عليهم حين تأخر السداد، فإنه يغرق المقترضين بالديون ويزيدهم عوزًا وفقرًا، لتتحول الشريحة الأوسع في المجتمع تدريجيًا إلى فئة مستعبدة للبنوك. ولا تختلف القروض الإنتاجية -الاقتراض المتعلق بالزراعة أو الصناعة مثلًا- كثيراً، إذ يضطر المقترض إلى إضافة الفوائد الربوية على قيمة البضاعة المنتجة، فترتفع الأسعار، ويحصل التضخم وتنخفض القدرة الشرائية لدى الناس، وفي حالة التعثر في السداد فإن انهيار المؤسسات المنتجة وزيادة البطالة وحصول الكساد يصبح تحصيل حاصل.
كذلك فإن تعود الممولين على الأرباح المضمونة من خلال الإقراض الربوي، من غير بذل جهد أو تحمل تبعات أو مسؤوليات الأعمال التجارية، يصرفهم عن المشاركة الفعالة في إنعاش الاقتصاد الإنتاجي الحيوي المعتمد على الزراعة والصناعة والتجارة والتكنولوجيا، ما يؤدي إلى حصر دورة المال بشكل أساسي بين الأغنياء، فيما يصل القليل منها إلى باقي شرائح المجتمع، ما يصيبه بشح السيولة النقدية والفقر وقلة فرص العمل.
وقد حرم الإسلام الربا حرمة قطعية مغلظة، يقول تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، وقوله: (يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ). وقد روي عن رسول الله أنّه قال: “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا”، وقد لعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَه وكاتبَه.
هكذا نجد أن البنك في النظام الرأسمالي يرتكز على تحقيق مداخيله الأساسية من خلال منح القروض مقابل فوائد ربوية، بالتالي فإن هذه هي الركيزة الأساسية المعتمدة لتشكيل أي بنك، حتى لو لم ينص على ذلك صراحة، وحتى لو كانت الصيغ المستعملة في إنشاء البنوك وإبرام العقود مشتملة على صيغ مختلفة ولا تشتمل على أية ألفاظ لها علاقة بالربا، على نحو الحالة التي يتم تسويق فكرة البنك الإسلامي على أساسها، فالعبرة هنا بالمضمون لا بالشكل. فبدلًا من إقراض البنك الإسلامي المال للناس مقابل فوائد منصوص عليها مسبقًا، فإنه يقوم فعليًا بإجراء حساباته بناء على استيفاء كامل الفوائد المتوقعة من القرض إنما بصيغة أخرى. لنأخذ مثلًا مبسطًا -إذا أردت أن تشتري بيتًا بمبلغ 100 ألف دولار، فإن البنك التقليدي يقرضك المال لمدة عشر سنوات لقاء 10% فوائد ربوية سنوية، ما يعني أن كامل المبلغ المتوقع سداده بعد عشر سنوات هو 200 ألف دولار. أما البنك الإسلامي فإنه سيقول لك أنا أشتري البيت بـ 100 ألف دولار ثم أبيعك إياه بــ 200 ألف دولار، تسددها على مدار عشر سنوات، فتكون النتيجة نفسها. طبعًا هناك تفاصيل كثيرة لا نريد أن ندخل فيها، لأن المقصود هنا هو تبيان الفكرة من غير دخول في تعقيدات لا طائل منها.
والناظر إلى كثير من معاملات “البنوك الإسلامية” يجدها في واقع الحال محاولة للالتفاف على المعاملات الربوية، بعد القيام بإضافة رتوش على العقود والمعاملات البنكية لتكتسب صفة الحلال، لترفع الحرج الشرعي عمن يريد ممارستها. فالبنك (أي بنك) هو في نهاية المطاف مؤسسة مالية ربحية، لا مؤسسة معونات اجتماعية ولا إغاثية، ولن تكون لديه القدرة على الحياة فضلًا عن الاستمرار والمنافسة في المجتمع الرأسمالي إذا لم يجر حساباته بحسب معايير السوق. وقد أدى هذا فعليًا في كثير من الأحيان إلى وضع ما يسمى بالبنك الإسلامي أعباء أكبر وتكاليف أكثر على المقترضين من تلك التي يضعها البنك الربوي المحض، إنما بشكل آخر، مستغلًا ظروف الفقراء من المسلمين وعدم رغبتهم في التعامل بالربا الصريح.
ويتناقض هذا كله مع طريقة الإسلام في التعامل مع القروض، فقد رغب الإسلام الناس بإقراض بعضهم البعض من غير مقابل سوى نيل الأجر والثواب، وحض على إرجاء المعسر، فكان القرض في الإسلام للتيسير لا لشد الخناق على المقترض واستغلاله وجعله أسيرًا ذليلًا لدائنيه. كما فرض الزكاة وجعلها ركنًا من أركان الإسلام وجعل سد الديون عن المتعثرين أحد وجوه صرفها، وشجع الإنفاق في كافة مشاريع البر منها سد الديون وكفالة اليتيم وفك العاني وعابر السبيل، ليبني مجتمعًا متماسكًا تسوده قيم الرحمة والتكافل والبذل والعطاء والإيثار. ولا يعني هذا عدم ممارسة التجارة وإنشاء شركات أو الاستثمار في المشاريع المختلفة، فكل هذه أعمال محبذة في الإسلام، لكنها مبنية على أسس وقيم واضحة المعالم، شكلًا ومضمونًا، من غير احتكار أو استغلال أو احتيال.
تحرير الفكر الإسلامي
إن الرأسمالية لا تبالي بالنظريات ولا بالمعتقدات التي تخالفها، طالما أن لا تأثير لها في الواقع، بل هي مستعدة للاستثمار في بعض مظاهر تلك المعتقدات إذا كان يساعدها ذلك في فتح أسواق جديدة وبيع منتجات جديدة. فقد حصرت الرأسمالية نفسها في عالم المادة، وانتقلت مباشرة للتأثير في عالم الواقع وتشكيل حياة البشر على أساس القيم النفعية التي تدور حول الأنا وإطلاق العنان لمختلف أنواع رغبات الإنسان وإشباعها حسب ميول يتم صياغتها من خلال مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام والقوانين والأنظمة المختلفة التي تشرعها الدول الرأسمالية. هكذا انفردت الرأسمالية في الهيمنة على العالم، بعد أن غابت البدائل الأخرى عن الميدان، وصارت كافة القوى الدولية تتنافس انطلاقًا من زاوية النفعية واستنادًا إلى فكرة السوق الحر وضمان النمط الفردي في الحياة. طبعًا، هذا لا يلغي وجود مجموعات وأفراد تناوئ هذه الهيمنة وتدعو إلى تغييرها، لكنها ليست في موقع فاعل.
كما أن الإصرار على قيام البعض بدمج الإسلام في الحضارة الغربية الرأسمالية الليبرالية، ومن ثم تبني أفكار الغرب وقيمه بعد طلائها برتوش إسلامية هو أقصر الطرق لإعلان الهزيمة والاستسلام. فالإسلام دين شامل وطريقة حياة متكاملة، وهو منظومة تفصيلية تتناقض مع المنظومة الرأسمالية في تشريعاتها التفصيلية فضلًا عن القاعدة الفكرية التي تبنى عليها وفي البيئة التي تصنعها. لذلك نجد أن أحكام الإسلام في السياسة والاقتصاد لا تقل أخلاقية عن أحكام الإسلام في سائر مجالات الحياة الأخرى، بالتالي فإن استحضار المعالجات الإسلامية تستجلب معها قيم الإسلام النبيلة فيما تنبذ المعالجات والتصورات والقيم التي تقدمها الرأسمالية وغيرها من المبادئ المخالفة. لذلك فإن أول خطوة في الاتجاه الصحيح للتصدي للرأسمالية هو تحرير الفكر الإسلامي من كافة المفاهيم الدخيلة عليه، التي تصادر تميزه، وإعادة طرحه كطريقة عيش فريدة، وبناء الشخصية الإسلامية على أساس التصورات الإسلامية لمعنى وجود الإنسان في هذه الحياة، وإقامة كيان سياسي يجسد طريقة العيش هذه بشكل لائق ولافت. بدون ذلك، فإن الهوس بالبوركيني الإسلامي والفاشن الإسلامي والبنك الإسلامي -الذي هو أكثر فحشًا من البنك الربوي المحض أحيانًا- إضافة إلى شركات الأسهم والسندات التي تربط أموال المسلمين وثرواتهم بالبورصات العالمية وتضعها في مهب الريح، كل ذلك هو مجرد استنساخ مقزز للرأسمالية وتقزيم للإسلام وتحويله إلى دين استهلاكي تتغذى عليه الرأسمالية وتلغي دوره في الحياة.
المقال قيم اوضح ان الاقتصاد الاسلامي يختلف اختلاف جوهري ذلك أن الرأسمالية تخدم الرأسمالي فقط والخطير ان الراسمالي اضحى يتحكم في السياسي بمعنى انه صاحب السلط برمتها الديموقراطية والمؤسسات الدستورية صورية خلاف النظام الاقتصادي الاسلامي يتميز بانه اقتصاد الادخار اجتماعي وتكافل …