تلخيص كتاب حول الاستشراق الجديد
“الاستشراق” مُصطلح يقرأه ويسمعه المُسلم المعاصر في كثير من الأحيان، وقد لا يتعرَّف عليه بوضوح. وقد صدرتْ الكثير من الكتابات التي تناقش هذه الظاهرة في كافَّة مُستوياتها؛ منها التخصُّصيّ بالغ التخصُّص، ومنها المُخاطب للجمهور العامّ. ومن الصنف الأخير يأتي كتابنا هنا “حول الاستشراق الجديد .. مُقدِّماتٌ أوليَّة” للشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن الوهيبي. وهو كتاب لطيف الحجم يُخاطب عُموم المُسلمين ليُعرِّفهم على ظاهرة “الاستشراق” في ثوبها الجديد. ولعلَّ أهمَّ ما في الكتاب هو غرض الكاتب نفسه (تجده في تلخيص المُقدِّمة)، وما حاول بذله في تحقيق هذا الغرض. جزاه الله خيرًا على جهده.
والاختصار مهارة من أهمّ مهارات البحث العلميّ والدراسة. وهو أنواع كثيرة. وهو من أشدّ العمليَّات المنهجيَّة التي تُجرى على الكُتُب فائدةً. وفي حقيقة الأمر أنا لا ألخِّص الكُتُب؛ لكنَّ ما دفعني إلى القيام بهذه الخطوة هو تقرير هذا الكتاب على طُلاب “البناء المنهجيّ”. ومن أجل مُعاونة الإخوة في درسهم وتلمُّس طريقهم خطوتُ هذا الخطوة، بالاتفاق مع “مجلَّة تبيان الإلكترونيَّة”.
وأنوِّه على أنَّ الآتي ملخَّص للطبعة الأولى من الكتاب، الصادرة عن “مجلَّة البيان” 1435هـ. وهذا النمط التلخيصيّ الذي اتبعتُه هو “تلخيص تفصيليّ”؛ وهذا النمط من التلخيص يضمن نقل كامل التجربة للقارئ. وقد اخترت هذا النمط لمُناسبته للغرض الموضَّح. ولذا سترى التلخيص مُتابعًا للكتاب بترتيب موادِّه؛ مادةً مادةً. وهذا التلخيص لا يغادر فكرةً كبيرة أو صغيرة من الكتاب إلا أوردها، وليس في الكتاب دونه إلا النقول. وهو تلخيص لمتن الكتاب دون هوامشه (الكتاب متن وهامش، كلاهُما جسده) التي اهتمَّ الكاتب فيها بالإحالة وبالتعريف بالشخصيَّات.
وهو محض اختصار دون أيّ تدخُّل مني في السياق إلا في استخدام الاختصار وصوغ الأفكار وتسهيل فهمها في مواطن الغموض في الكتاب. دون التعرُّض لأيّ غرض آخر. ولا شكَّ أنَّ جميع القرَّاء سيجدون الإفادة في السطور القادمة؛ فمُعاونة الإخوة والطلاب الأعزاء دافع وحسب، ولا علاقة له بأنَّ السطور القادمة صالحة لكُلّ قارئ. وأختم برجاء الدعاء للفقير إلى الله، وللإخوة في “مجلة تبيان الإلكترونيَّة” على تعاونهم في إخراج هذه المادَّة.
المقدمة
وضَّحَ فيها الكاتب أنَّ سبب اهتمامه بالمشكلة المعروضة، وتأليفِه الكتابَ هو تأخُّر وعي الوسط الإسلاميّ العامّ في مُواكبة الجديد من النتاج الاستشراقيّ؛ حيث اقتصر غالبُه على نتاج الاستشراق القديم. ومِمَّا عمَّقَ من المُشكلة ثورةُ الاتصالات الحديثة؛ التي نقلتْ دعاوى الاستشراق الجديد إلى كثير من المُسلمين والعرب، وكذا عمَّقَ منها جهودُ المُستغربين العرب، الذين يتكفَّلون بتعريب دعاوى الاستشراق الحديثة وبثِّها فينا في صورة عربيَّة.
المَدخل
قرَّبَ ظهور عصر “الاستشراق الجديد” للعام 1973م في أحد المؤتمرات؛ حيث تمَّ إلغاء لقب “مُستشرق”، وإحلال “الدراسات الإنسانيَّة في إفريقيا وآسيا” محلَّه. صاحَبَ ذلك تغيُّر الحقل الاستشراقيّ مُنذ منتصف القرن العشرين، ومُحاولات المُستشرقين إعادة هَيْكَلَة الاستشراق كُليًّا من حيث المجالات والمناهج. لكنَّ الكاتب سيُكثِّف التركيز على الاستشراق الأمريكيّ الذي عزَّز موجات الاستشراق الجديد مع صعود أمريكا كقوَّة هيمنة عالميَّة.
المبحث الأوَّل: الاستشراقُ في المَنظور التاريخيّ
سأقسِّم هنا المعلومات التي أوردها الكاتب في نقاط حتى نقف على محتوى مُحدَّد:
–منذ القديم إلى القرن 17: أرجَعَ الكاتبُ ظاهرة الاستشراق إلى أقدم الافتراضات الموجودة؛ فقد أوضح كيف مثَّلَ الإسلام مُشكلةً ضخمةً لأوربا؛ التي صَوَّرت بدورها الإسلامَ منذ البدء صورةً شائهةً زائفةً بعيدةً كلَّ البُعد عن حقيقته، فهو دينٌ مُزيَّف، وهرطقةٌ، وهو عدوٌّ لها في المقام الأوَّل. بما يدلُّنا على أنَّ صورة الإسلام في الغرب نشأتْ عن عُنصر “سوء النيَّة”، أكثر من عُنصر “الجهل”.
وأرجَعَ الكاتبُ طلائع الحركة الاستشراقيَّة، إلى القرن الرابع الهجريّ على يد الوافدين الأوربيِّين إلى الأندلس، ومعظمهم من الرهبان. وسبَّبَ هذا التحرُّكَ بسببَيْنِ: الاستفادة من الثروة الفكريَّة والعلميَّة المزدهرة في بلاد المُسلمين، والآخر هو الرغبة في تنصير المُسلمين في تَؤُدَة وهدوء. وبدأتْ ترجمة القرآن للاتينيَّة على يد الأب “بطرس” 1143م/537هـ. إلى أن بدأتْ الدراسة الفعليَّة المُمنهجة في “الكوليدج دي فرانس” 1539م/946هـ.
ثمَّ جاءت الدولة العُثمانيَّة التي كان لها أثر في تبلور النظرة للإسلام في أوربا الغربيَّة، مُواكبةً لتحوُّلات ضخمة في القارَّة؛ حيث انقسمتْ الكنيسة مع قدوم الحركة البروتستانتيَّة.
–القرن 17: مع نجاح الاتجاه العلمانيّ المدنيّ في السيطرة على موجات الحُكم في أوربا وُضعتْ تصوُّراتٌ جديدةٌ في تكوين صورة الشرق الإسلاميّ، منها مفهوم “الاستبداد الشرقيّ” في الإمبراطوريَّة العُثمانيَّة، ودأب النظرة الأوربيَّة على تقعيد: أنَّ الموقع الجُغرافيّ له تأثير على التكوين البشريّ والحضاريّ؛ فهُم -أيْ الأوربيُّون- بالأصالة أفضلُ وأنبلُ من أهل الشرق، مع استقرارٍ لأفكار “عصر النهضة”، وزيادة تفكيك الوحدة المسيحيَّة، كما ظهرت أفكار: الحُريَّة والتقدُّم والعلم الحديث والعقلانيَّة. وبذلك بدأتْ تترسَّخ مُبرِّرات احتلال وهيمنة الغرب على الشرق.
–القرن 18: ومع استقرار الحداثة تمركَزَ مفهوم “الأنا”، وتغيَّرتْ النظرةُ إلى الإسلام؛ حيث يُقرِّر أنَّ التنوير أعطى فرصةً أرحب للتسامُح مع الإسلام، بوصفه دينًا عقلانيًّا بالنسبة للمسيحيَّةِ وسلوكِ الكنيسة. كما دخل عاملانِ أثَّرا في المشهد، هُما: البحث المُعمَّق في نقد الأديان على أساسَيْنِ تاريخيّ واجتماعيّ، وظهور نزعة تذوُّق مُعلَن للأدب العربيّ. والعامل الأخير قوَّى فكرة الأوربيّ عن غرائبيَّة الشرق، وامتلائه بالعجائب كما قرأوها في كتاب “ألف ليلة وليلة”.
وكانت النظرة المستقرَّة عند الغرب هي وجود “إنسان مُسلم” أو “إنسان إسلاميّ” مُغاير تمامًا لهذا الإنسان الغربيّ، بل ضدُّه بقوَّة. ونُظر إلى الإسلام بوصفه تركيبًا مُغايرًا أُحاديًّا مُتماسِكًا. لكنَّ أكبر الأثر كان للحملة الفرنسيَّة؛ حيث تحوَّلتْ فلسفةُ التعامُل مع المسلمين من محاولة تنصيرهم إلى احتلالهم والاستفادة من أراضيهم، وبهذه الحملة تحوَّل مركز الاهتمام إلى السياسة واستطاع الاستشراقُ دراسةَ المُسلمين من داخل أراضيهم، ممَّا كان دفعةً قويَّةً له.
–القرن 19: أخذ الاستشراق هيئةً أكثر تحديدًا، بفضل جهود “سلفستر دي ساسي” الذي وضع أُطُر الاستشراق، ومناهجَه، مُعتمدًا على الفيلولوجيا (فقه اللُّغة) والتحليل التاريخيّ وعلم اللُّغة المُقارن، وجهود “إرنست رينان” الذي أسَّس لحتميَّة تخلُّف المُسلمين، وجعلها حقيقةً علميَّةً مُسلَّمًا بها عندهم. شهد القرن كذلك تأثيرات واسعةً لنظرية “التطوُّر” في تثبيت رؤية أفضليَّة الحضارة الغربيَّة على الشرقيَّة، وحضورًا قويًّا لفكرة “المُستشرق الجاسوس” (أيْ إخلاص المُستشرق وولاؤه التامّ لأهداف الاحتلال، وعمله الصريح مع الحكومات الاحتلاليَّة).
ومع تقسيم العالَم الإسلاميّ على المُحتلِّين ظهرتْ تفرقة الاستشراق بين الشرق الأدنى، والأسيويّ، والحضارات الأقدم التي عاشت على تلك الأراضي. وجميع هذه التخصُّصات كان يدرسها علماء لغة، لا مؤرِّخون (هكذا كان ينظر لهم؛ لأنَّ جميعهم كان يبدأ بدراسة اللُّغة التي يختصُّ بدراسة أهلها). وفي النصف الأوَّل من القرن العشرين بدأ النظر إلى تصحيح النهج الاستشراقيّ داخليًّا.
–القرن 20: حدثت الكثير من التحوُّلات للحقل الاستشراقيّ في القرن العشرين؛ لعلَّ أهمَّها تفتيت “الاستشراق” كيانًا واحدًا على العديد من العلوم والفنون والآداب، مع بدء خروج الفيلولوجيا والأُسس الكلاسيكيَّة من الصدارة.
وكانت أهمُّ العوامل في إحداث التحوُّلات: سقوط هيمنة الاحتلال القديم بظهور حركات الاستقلال في العالَم الإسلاميّ، وزعزعةُ الضمير الأوربيّ داخليًّا على إثر الحربَيْنِ العالَميَّتَيْن، وصعودُ أمريكا وهيمنتُها الجديدة. كما شهد الحقلُ الاستشراقيُّ تغيُّرًا في تركيب الدارسِيْنَ؛ حيث ظهر الشرقيُّون وذُوو الأصول الشرقيَّة ليكونوا هُم أنفسهم جُزءًا من دراسة الشرق. وقد شهدتْ التخصُّصات العلميَّة تطوُّرًا ضخمًا ذا طابع تفتيتيّ تخصُّصيّ، واستجدَّتْ مناهج بحث وزادت مساحة اللغات المُهتَمّ بها من الشرق، وأثَّر هذا في التعامُل مع المصادر وإعادة البحث على أساسها. كما ظهرت موجات الأبحاث العربيَّة المدوَّنة باللُّغات الأجنبيَّة (أعمال أنور عبد الملك، وعبد الله العروي، وإدوارد سعيد). كما شهد القرن ظهور سياسات كثيرة مؤثِّرة: مثل الظهور الطاغي للحركات النِّسوِيَّة، وظهور حركة “اليسار الجديد” في أمريكا.
برزت فكرة “دراسات المناطق” التي دعَّمَتْها الحكومة الأمريكيَّة منذ 1958م، وظهور مصطلحات كالشرق الأوسط، وتخصيص الدراسات له “دراسات الشرق الأوسط”. وشهد بذلك مزيدًا من التحوُّل للاستشراق السياسيّ القوميّ لا الدينيّ. لذا ظهر مُصطلح “مُستودع الأفكار” تعبيرًا عن مراكز البحث والدراسة التي صارتْ موطنًا للخطاب الاستشراقيّ الجديد؛ من خلال كتابة التقارير وتقديم الاستشارات لصانِعِيْ القرار، والظهور في الإعلام للتعليق على الأحداث الشرقيَّة، وكذا تبعتها وسائل الإعلام (أفلام ومسلسلات وبرامج) في بثّ الخطاب الاستشراقيّ.
ولعلَّ مِمَّا برز على السطح أمريْنِ: “نظريَّة التحديث” التي تطبع على تأخُّر الشرق الإسلاميّ، بفصلها بين المُجتمع التقليديّ الزراعيّ القديم، والمُجتمع الحديث المتميِّز بالعلم والصناعة ومنظومتهما الأخلاقيَّة. والأمر الآخر هو “الصحوة الإسلاميَّة” التي ظهرت في السبعينيَّات، والتي كان له أثرٌ حادٌّ في صدمة الاستشراق لاعتقادهم أنَّهم في الطريق لوأد الإسلام بين المُسلمين. والتي صار لها مكان بارز في البحث الاستشراقيّ لتفسير هذه الحركة الانتفاضيَّة، التي فاجأتهم من مُجتمع ظنُّوا أنَّه جامد ميِّت.
ومن خلاصة الدراسات للصحوة الإسلاميَّة برز تفسيرانِ لها: الأوَّل حداثيّ يُدين الصحوة ويعتبرها عدوًّا، والآخر يراها ردَّ فعل لفلسفات “ما بعد الحداثة”، وتنويعًا في المشهد، ومُحاولةً لإقامة جماعة سياسيَّة وأخلاق بديلة في مواجهة الحداثة الغربيَّة.
–الاستشراق ما بعد 11 سبتمبر: لقد أحدث هذا اليومُ انقلابًا بعيد الأثر في كلّ شيء تقريبًا. وبالعموم صعدت بعده موضوعات “الإرهاب” ودراستُه والتفلسُفُ فيه، وزادتْ بشدَّة دراسة الإسلام باللُّغات الأجنبيَّة، ونما الطرح الاستشراقيّ التقليديّ مرةً أخرى بجوار الدراسات الأنثربولوجيَّة (علم الإنسان، أو علم الإناسة). وتجدَّدت ثلاثة أمور: استخدامُ السَّاسَة للنتاج الاستشراقيّ علنًا في خطاباتهم، وشيوع الأطروحات المُتطرِّفة ضدَّ العرب والمُسلمين، وتبنِّي أمريكا لهذه الأطروحات.
ظهر اتجاهانِ تفسيريَّانِ لما حدث: الأوَّل عدائيّ، ومنه رؤية “برنارد لويس” التي أبرز فيها أنَّ المُسلمين يتنازعهم عامِلانِ تجاه الغرب: الإعجابُ به والانبهار بما يقدِّمه، والحقدُ الدفين لأنَّه المُتقدِّم عليهم. كما تراجَعَ تقسيمُ المُسلمين إلى مُعتدلين ومُتطرِّفين، بل جميعهم مُتطرِّف. وأبرزُ مثال على هذا الاتجاه كتابُ “العقل العربيّ” لرفائيل باتاي، الذي راج رواجًا في الغرب وفي مُعسكرات أمريكا الحربيَّة في أفغانستان والعراق، والكتاب يعرض الطبيعة العربيَّة المُتوحشَّة والجِنسيَّة. وكان نتاجُ هذا الاتجاه التوحيدَ بين مُصطلحَيْ الإسلام والإرهاب.
وعلى النقيض يأتي الاتجاه التفسيريّ الآخر: بأنَّ الإرهاب هو نتيجةُ وحسب للسياسات القمعيَّة التي تُمارَس على العالَم العربيّ، ونتيجة للفقر وانعدام فرص العيش الكريم، وكذلك سياسات دعم الكيان الصهيونيّ من العالَم الغربيّ. لكنَّ الملحوظ في هذه الأجواء هو الانتقادات العنيفة التي طالتْ مراكز البحوث (التي تُسمَّى بمُستودعات الأفكار) لقلَّة فائدتها في توقُّع ما يحدث في العالَم العربيّ ومن العرب والمُسلمين.
كذا برزت ظاهرة “خُبراء شئون الإرهاب” في الإعلام الغربيّ منذ حرب الخليج، وتضاعفت بعد الحادي عشر من سبتمبر. وفي الغالب يكون هؤلاء الخبراء أناسًا غير مُختصِّين، وقد يكونون من عامَّة المُثقَّفين؛ في ظاهرة سُمِّيت “الاستشراق الإعلاميّ”. وهي ظاهرة خطيرة جدًّا لتشكيلها المُباشر في وعي الغربيِّين. وكذا برزت الدراسات عن نساء الشرق الأوسط؛ فقد نُشر من 2009:2000م 170 كتابًا و670 مقالًا عنهُن.
لكنَّ أخطر نتائج هذه الفترة هي الدعوة إلى التخلِّي عن مُهاجمة الإسلام -كما كان يفعل التاريخ الاستشراقيّ كله-، وبدء الدعوة إلى مُساندة “إسلام طيِّب” ضدَّ “إسلام خبيث”؛ فيما وُصِف بالحرب القِيَميَّة على الإسلام. وكذا إعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع الديمقراطيَّة الغربيَّة ومُحاربة المضامين العقائديَّة المُضادَّة للغرب.
المبحث الثاني: مُقاربة في مفهوم الاستشراق الجديد
سأقسِّم ما جاء في المبحث إلى ثلاث نقاط:
–التغيُّرات التي طرأت على الاستشراق: ومنها التخلِّي عن لقب “مُستشرِق” إلى مُستعرِب، أو مُختص بالإسلاميَّات. وذلك للتخلُّص ممَّا علِقَ باللقب القديم من دلالات فكريَّة واجتماعيَّة. وتحوُّلُ الاستشراق الموحَّد إلى تخصُّصات علميَّة دقيقة ذاتِ موضوعات مُتعدِّدة يتنازعها: علم الاجتماع، والاقتصاد السياسيّ، والألسُنيَّات، والأنثربولوجيا (علم الإناسة)، والأعراق. ويُلحَظ هيمنةُ علوم الاجتماع عليها. وكذلك تفتُّتُ مفهوم الشرق إلى أكثر من شرق، ومزيد من التخصيص لكُلّ منطقة.
حتى مؤتمرات المُستشرقين التي كانت تُعقد في دورات يفصلها ثلاث سنوات، زادت بفعل هذا التفتُّت التخصصيّ. وصار يُساهم في إنتاج الاستشراق الكثيرُ من أهل العلم والفكر، بل المُثقَّفون العوام. ويرى اتجاه يبرز فيه “أوليفييه مووس” أنَّ عوامل تبلور الاستشراق الجديد هي: التراث الذي خلَّفه الاستشراق التقليديّ، والنظرة الممتدَّة للإسلام بالنقص والعوار، والمناخ الفكريّ لما بعد الحرب الباردة.
–رؤية الكاتب للتغيُّر في الاستشراق الجديد: تمثَّلَ الاختلافُ الحقيقيُّ في الحقل الاستشراقيّ على مستويَيْنِ في نظر الكاتب:
مستوى المنهج العلميّ: ومنه تغيُّر النظرة الفيلولوجيَّة التي سيطرت على الاستشراق القديم إلى دراسة العلم المُستهدَف من كل مُستشرق وتطبيقِ مناهج هذا العلم على الجانب المبحوث من الشرق. مثل تطبيق المُستشرقين مناهج علمَيْ الاجتماع والأنثربولوجيا على الإسلام مُباشرةً. وأيضًا تكاثُرُ الدراسات غير الوقائعيَّة (أيْ التي لا تعتمد على الحدث أو الوقائع، بل على الموضوعات)، كما أنَّ الاستشراق اللُّغويّ تمَّ فيه تجاوزُ الموضوعات القديمة، واتِّباعُ المناهج الجديدة مثل الظاهراتيَّة والعَلاماتيَّة، ونزوع الألسُنيَّة إلى نقد النصّ ومناهج التفكيك.
مستوى النظريَّات المُستبطَنَة (أو المُعلَنَة أحيانًا): طرأ عليها التوسُّعُ في مفهوم الشرق جُغرافيًّا ودينيًّا، وتغيُّراتٌ على فكرة “الآخر” التي سيطرت على نظرة الاستشراق للمُسلمين، والانتقادُ للنظرة الاستشراقيَّة الاستعماريَّة (الكولونياليَّة)، ونبذُ الرُّؤى الغرائبيَّة (التي أشار إليها في القرن 18) عن الشرق.
–رؤيتان غربيَّتانِ للاستشراق الجديد: أوَّلُهما بلورة “جيمس كلارك” له في سِتِّ نقاط: التحوُّلُ نحو قبول التعدُّديَّة بحَذَر، ومنهجيَّةٌ مُنتقِدةٌ للذات أكثرُ تواضُعًا، والإقلالُ من السذاجة المِثاليَّة (الرؤية المُوحَّدة يقصد) إلى تصميم استشراقيّ نقديّ، وواقعيَّةُ النظرة إلى الشرق بعد تلك النظرات الأسطوريَّة القديمة، وتفكيكُ الاستشراق الاستعماريّ، والتماهي والاندماج مع “ما بعد الحداثة” بمدارسها المُختلفة.
الرؤية الأخرى: “أوليفييه مووس” يرى هيكل الاستشراق الجديد يتمحور حول أربعة افتراضات: أنَّ المجال الإسلاميّ كلٌّ مُتجانس (يقصد أنَّ المُسلمين لا يفترقون بعضهم عن بعض) لصُدُوره عن مُحدِّدات ثقافيَّة واحدة، لكنَّ منه ما يمكن تمييزه بـ”الإسلام السياسيّ”. والثاني أنَّ تحرُّك المُسلمين إلى الإمام لنْ يكون إلا بالقطيعة مع الإسلام والتحوُّل نحو التغريب، وأنَّ تخلُّف المسلمين يعود إلى الإسلام. والثالث استمرار النظرة إلى العالَم الإسلاميّ بوصفه كتلةً ساكنةً تُشكِّلها هُوِّيَّتُها (الدين، الثقافة، التاريخ) على خلاف الغرب المُتحرِّك المُتحرِّر. والرابع أنَّ العُنف الإسلاميّ ينبع من الإسلام نفسه. ويُقرِّر الكاتب أنَّ الاستشراق الجديد يُكوِّنه كلا التصوُّرَيْن السابقَيْن، بجوار مُجمَل الرُّؤى والتصوُّرات المُتَّصلة بالإسلام.
المبحث الثالث: نماذج من مناهج الاستشراق الجديد
ركَّز الكاتب تحليله على منهجَيْن هُما الأبرز. أسوقهما في الآتي:
أوَّلًا المنهج الأنثروبولوجيّ: وهو دراسة الإنسان في تكوينه الطبيعيّ والثقافيّ. وتتمحور مُجمل الدراسات حول دراسة: أنظمة القرابة والزواج، والحُكم والسُّلطة، والعقائد السِّحريَّة، والشعائِر والطُّقُوس الدينيَّة. أمَّا أنثربولوجيا الشرق الأوسط فقد بدأت في الثمانينيَّات، ومرَّتْ منذ القديم بأربع مراحل: الاستشراق التقليديّ القائم على التأمُّل الشخصيّ والانطباعات لا المنهج المُنضبط، ثُمَّ مرحلة الرحَّالة والسياسيِّين، ثُمَّ مرحلة سيطرة الأنثروبولوجيِّين المُحترفين، ومرحلة الأنثروبولوجيِّين المَحلِّيِّين.
وقد ركَّز على عرض بعض أبرز الإسهامات الأنثروبولوجيَّة في النظرة للإسلام:
–النظريَّة الانقساميَّة: صاحبها “إيفانز بريتشارد”، وطبَّقها على مُجتمع “النوير” السودانيّ الوثنيّ. وخلاصة الفكرة أنَّ المُجتمع القَبَليّ يمتاز بالانقسام الدائم على نفسه، وبرفض الأغراب عنه في بنائه. وهي نظريَّة متهافتة كما هو واضح.
–أنثروبولوجيا الإسلام: صاحبها “إرنست غلنر”. خلاصة رُؤيته للمُجتمع الإسلاميّ أنَّ الإسلام دين نصيٌّ مُتمحور حول النصّ وتصوُّر اليوم الآخر، ويُخفِّف من هذا التمحور سلوكُ المُجتمع والحُكَّام والعُلماء. والعلماء لهم دور في محاولة العودة بالجميع إلى الرؤية الأُحاديَّة الصادرة من القرآن. ومشكلة المُجتمع الإسلاميّ الحديث تأتي من مدى تقبُّله للحداثة الغربيَّة وتعاطيه معها. وبهذا فإنَّه مُجتمع يشبه البندول في حركته المتأرجحة نحو ذاته مرَّةً ونحو الحداثة أخرى.
–أطروحة “كليفورد غيرتز”: المُجتمع المُسلم ليس واحدًا، بل هو مُجتمعٌ موَّارٌ شديدُ الحركة، وتبقى الثوابت الإسلاميَّة مجرَّد رموز. فليس هناك “مجتمع إسلاميّ” موحَّد بل “مُجتمعات إسلاميَّة” عديدة.
–النظريَّة النِّسويَّة: تقوم على رفض فكرة “الفارق بين الذَّكر والأُنثى”، وأنَّ ما يُقرُّ الفوارقَ بينهما ليس الطبيعة البيولوجيَّة الجسديَّة الفطريَّة، بل المُجتمع ومعتقداته وثقافته وعاداته. ويكثر فيها الاعتماد على مُصطلح “الجِنْدَر / النوع” لتفسير حركة المُجتمع، وتُمحوِرُ “مقاومتها” من خلاله. وتهدف النسويَّة إلى تفكيك صورة ضعف المرأة المُسلمة وانكسارها، وتحدِّي التعامُل الخاصّ للإسلام مع المرأة. ومن كتب الاتجاه “المُسلمات يتكلَّمنَّ” تأليف/ إليزابيث وارنوك وبسيمة قطان، الذي يُؤكِّد على أنَّ المُجتمع المسلم مجتمع الرجال للرجال فقط. وتبرز الأُطروحة البطريكيَّة التي ترى أنَّ المُجتمعات التقليديَّة يحكمها كبار السنّ؛ خاصةً من الذكور، وألَّا حظَّ للنساء فيها.
ومن خلال هذا الحراك النِّسويّ دار الكثير من النقاش حول “الحجاب الإسلاميّ”، والاحتشام عند المرأة في الإسلام، وعمل المرأة ومدى مُساهمتها في المُجتمع، وعدم تساويها مع الرجال، وهيمنة الرجل، وما يتعلَّق بأنظمة الزواج.
ثانيًا المنهج اللُّغويّ الفيلولوجيّ المُطوَّر: يُطالعُنا فيه اتجاه “المُراجِعين الجُدد”. وهو اتجاه يحاول نقض الإسلام من أصوله. وأبرز ما يأتي فيه من نظريَّاته:
–البحث عن النصّ الأصليّ للقرآن: وهي أطروحة تُسمَّى “Ur-Kuran” أيْ القرآن الأصل. ويحاول فيها الألمانيّ “فونتر ليلنف” الوصولَ إلى مصادر القرآن ونصِّه الأصيل. وهناك كتاب “دراسات قرآنيَّة” لجون وانسبورو الذي يدَّعي فيه أنَّ القرآن لمْ يُدوَّنْ إلا بعد مُضيّ قرن ونصف القرن من وفاة النبيّ، وأنَّ كثيرًا من الناس تدخَّلوا في صياغته.
–كتاب “الهاجريَّة: تكوين العالَم الإسلاميّ”: تأليف مايكل كوك وباتريسيا كرون. حيث اعتمادًا على أدلَّة أركيولوجيَّة رَفَضَا كلَّ المصادر الإسلاميَّة؛ لأنَّها في نظرهما مَنحُولةٌ مَكذُوبةٌ من السُّلطة السُّنِّيَّة لتوطيد حُكمها وتوطيد سُلطة العُلماء الناطقين بها. ورَأَيَا فيه أنَّ الهجرة كانت للشمال حيث الساحل السوريّ الفلسطينيّ، وأنَّ الإسلام ينتسب إلى “الهاجريَّة” وهي من فِرَق اليهود.
–أطروحة سريانيَّة القرآن: للألمانيّ “كريستوفر لوكسنبرج”؛ يرى أنَّ القرآن كتاب نصوص شعائريَّة طقسيَّة مسيحيّ، وأنَّ لفظة “القرآن” مُشتَّقة من الأصل السريانيّ “قريانا”، وأنَّ “مُحمَّدًا” -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد ترجَمَه إلى العربيَّة. ويعتمد في أطروحته على التشابُه بين اللُّغتَيْنِ العربيَّة والسريانيَّة، ويدَّعي أنَّ المُسلمين قد أخطأوا في فهم وتفسير القرآن؛ ظنًّا منهم أنَّه عربيّ رغم سريانيَّته الواضحة. مثال: كلمة “حُوْر عِين” يقول إنَّها تُعبِّر عن العنب في السريانيَّة؛ وبذلك فكلُّ المُسلمين الذين يفجِّرون أنفسهم يجهلون أنَّ جزاءهم في الآخرة حفنة من العنب.
–صرَّح الباحث “ميشال أورسل” أنَّ أهداف هذا التيار الفيلولوجيّ هي: نفيُ وجود النبيّ أصالةً، والتشكيكُ في رواية جمع القرآن، والادعاءُ أنَّه نصٌّ سريانيٌّ، والتشكيكُ في وجود مدينة اسمها “مكَّة”، وأنَّ الكعبة من صناعة الأُمويِّين، وأنَّ المسجد الأقصى مُؤامرة أُمويَّة. ويعتمدون في تحقيق هذا على: إعادة دعاوى الاستشراق القديم ورُوحه، ونفي المصادر الإسلاميَّة الأصيلة وردّها، وسُوء استخدام الوثائق.
المبحث الرابع: في نقد الاستشراق الجديد
نَقَدَ الكاتبُ الاستشراقَ الجديد من جانبَيْن، ثُمَّ أورد ثلاث مُشكلات تأثَّرتْ بهذيْن الجانبَيْن.
الجانب الأوَّل شدَّة الارتباط بالإرث السلبيّ في الاستشراق القديم: يُعزى تفضيل اسم “الاستشراق المُجدَّد” لكونه إعادةً وتجديدًا لافتراضات الاستشراق القديم. والارتباطُ بينهما يبرز في النواحي التالية:
–العلاقة الوثيقة مع الدوائر السياسيَّة وقوى الهيمنة والاحتلال: ودلَّل على ذلك بمقولاتٍ لبرنارد لويس، وإدوارد سعيد، وإثبات عمل كثير من المُستشرقين مع الجهات السياسيَّة، مثل لويس ماسينيون وسلفستر دي ساسي وبروفنسال. وكذلك استعانة الولايات المُتحدة بالخريجين المُختصَّين بالشرق الأوسط. وكذلك التداخُل الضخم بين مراكز الأبحاث (التي سُمِّيَتْ بمُستودعات الأفكار) ودوائر السياسة. وقد مثَّل على ذلك بوزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة الشهيرة “كونداليزا رايس” التي كانت باحثةً في مؤسَّسة “هوفر للحرب والثورة والسلام”، وكانت عضو مجلس أُمناء في مؤسَّسة “راند”.
–استمراريَّة تثبيت واستثمار الصور النمطيَّة السلبيَّة عن الشرق الإسلاميّ: وهنا أنقل تصريح المُستشرق المتطرِّف “دانييل بابيس”:
إذا كان المرء يبحث عن الذين يُنفِّذون أعمال الاغتصاب الجنسيّ؛ فإنَّه -بالقَدرِ نفسِهِ- عليه أنْ يبحث عن الإسلاميِّين.
وفي وصف العربيّ الحديث ينقل “فاضل الربيعي” (عن المُستشرقين الجُدد) أنَّه “بدويّ جديد، يمتلك لحيةً كَثَّةً غير مُهذَّبة، طويلةً وقذرةً، ويرتدي ثيابًا تقصر عن الركبة، ويحمل حزامًا ناسفًا. إنَّه بدويّ جاهز للانتحار من أجل الجنَّة”.
وهكذا تمَّتْ إعادةُ ترسيخ الشهوانيَّة العربيَّة والانتهاك الجنسيّ، واعتبار الحجاب رمزًا على سُلطة الذُّكُورة وخُضُوع الأُنوثة. كما تبرز أيضًا فكرة “فُسيفساء المُجتمع”؛ أيْ أنَّ المُجتمع العربيّ مُكوَّن من عديد القبائل والجماعات، وأنَّ هذا التفتُّت سبب في استمرار الاستبداد الشرقيّ؛ لأنَّه يعوق التوحُّد ضدَّه.
–استمراريَّة المُصادرات الاستشراقيَّة المُتعلِّقة بالإسلام: وهي إصرار الاستشراق الجديد على رؤية الإسلام هرطقةً من خلال ردِّ كلِّ ما فيه إلى عناصر أخرى؛ عقيدةً وشريعةً وقرآنًا.
الجانب الثاني الإشكاليَّات المنهجيَّة في العلوم الإنسانيَّة: تمتاز العلوم الإنسانيَّة بإشكاليَّات علميَّة ومنهجيَّة تؤثِّر في درجة موضوعيَّتها. وذلك من ناحيتَيْنِ:
–موضوع البحث: تتمحور العلوم الإنسانيَّة حول الإنسان؛ ذلك الكائن الغامض المُعقَّد، صعبُ التركيب. وهذا يؤدي إلى قلَّة الاطراد في السلوك، وبذلك يقلُّ عنصر التوقُّع. كما أنَّ فارقًا بين العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة؛ ففي حين من المُمكن التغافُلُ عن الغائيَّة والهدف أثناء بحث العناصر الجُزئيَّة في الطبيعة، لا يمكن هذا في الإنسان. وهذا الإطارُ الغائيُّ للنشاط الإنسانيّ يجعل النتائج المُستخلَصَة من مُجتمع لا تنطبق على مُجتمع آخر.
–الباحث: تقف أمامه مشكلة “الذاتيَّة”؛ حيث لا يُمارس الباحثُ العلومَ إلا من خلال تجربته وغاياته وقيَمه. ومشكلة “القيمة”؛ حيث تبرز القِيَمُ التي تتحكَّم في عمليَّة البحث، والأسئلةُ التي ينطلق منها الباحث تُؤثرانِ في النتائج التي يتوصَّل لها. ومشكلة “الأيديولوجيَّة”؛ حيث لا يستطيع الباحثُ الخروجَ عن خلفيَّته الفكريَّة والاجتماعيَّة، وهذا يؤثِّر على تطبيق المنهج العلميّ الصادر عنه.
ثمَّ أورد ثلاث مُشكلات تأثَّرت بهذه المُحدِّدات السابقة:
1-أزمة الإبستُمُولوجيا الإمبرياليَّة: (إبستمولوجيا تعني المعرفة) يذكر فيها أنَّ “مايكل هيرش” يرى أنَّ فشل أمريكا في العراق قد بدأ منذ 1950م؛ لأنَّ الإشكال كامنٌ في طبيعة البحث المعرفيّ الاستشراقيّ الذي يهدف في عمله إلى خدمة التوسُّع والهيمنة والاحتلال. ويمثِّل الكاتب على هذا بإفلاس مشروع الحداثة بوصفه نموذجًا للهيمنة عبر أدوات التحرير نفسها التي تدَّعيها هذه الدول. وهذا التناقض أطلق عليه ماركِسيُّو (أيْ أتباع الفلسفة الماركسيَّة) مدرسةِ فرانكفورت “جَدَلِيَّة التنوير”، وكذا نقَدَ “ماركسُ” هذا الاستخدامَ للعلم في الهيمنة أثناء الحرب الأهليَّة الفرنسيَّة، وكرَّرَ ذلك النقدَ “ميشيل فوكو” للعلوم الحديثة. وخلاصة الفكرة أنَّ العلوم والفلسفات في خدمة الهيمنة تتحوَّل من غرض شريف إلى مجرَّد أداة وحسب، وهو ما يُسمَّى “أداتيَّة المعرفة”.
2-التحيُّزات غير العِلميَّة: العلم الغربيّ مبنيٌّ على كثير من هذه التحيُّزات. مثل رؤيته الدين كيانًا غير علميّ، ومُعاملة العلوم الاجتماعيَّة معاملة العلوم الطبيعيَّة، وتطبيق مناهج الأخيرة على المُجتمع، ومثل مقولة “الصراع” التي تسيطر على الفكر الغربي: الصراع مع الآلهة ومع الطبيعة ومع الآخر… وتطبيق هذه المنهجيَّات أدَّتْ إلى نتائج سيِّئة، مثل: اختزال المعرفة الاجتماعيَّة في الماديَّة الواقعيَّة، وتأكيد نسبيَّة الحقيقة الأخلاقيَّة، وتبرير الواقع الاجتماعيّ كما هو، وصياغة الإلحاد في مناهج اجتماعيَّة مقبولة.
كما ذكر الكاتب أمورًا تتعلَّق بهذا الجانب التحيُّزيّ. منها عدم اهتمام المُستشرقين الجُدد بتعلُّم اللغات التي تتحدث بها المُجتمعاتُ محلُّ الدراسة، ويُضطرُّهم هذا إلى اللُّجوء إلى: الإحصاء والتعداد في دراسة الظواهر، أو الاعتماد على كُتُب أصحاب الاستشراق التقليديّ العارفين باللُّغة. وكلا الطريقَيْن يُنتج أخطاء. وكذا تدخُّل الأيديولوجيَّة في صياغة هذه العلوم، وكذا تأثير الدعم الحُكُوميّ في نتائج الدراسات. ويدعونا إلى عدم الاغترار ببعض المُستشرقين الذين يحترمون التعدُّد؛ لأنَّهم ينظرون لنا بمِنظارهم الأوربيّ. وخَتَمَ بتأثُّر بعض الباحثين بحياتهم الشخصيَّة (مثل موقف ماكس فيبر في بحثه عن الحياة الجنسيَّة الإسلاميَّة، وقد تأثَّر بتجارب سيِّئة مرَّ هو بها).
3-المُقارَبَة المَغلوطة للدين والتديُّن: ساهم بعض المُؤسِّسيْن في صياغة “علم الاجتماع” الحديث، مثل: ماركس ودوركهايم وماكس فيبر. لكنَّهم رأوا الدين وَهْمًا مُضلِّلًا، وأنَّه ضدّ الحداثة والعصريَّة، وجعلوا “علم الاجتماع” علمًا وضعيًّا يُؤسِّس لأخلاق علمانيَّة، وادَّعوا أنَّ العَلمَنَة ستسود كُلَّما اعتمدنا على العلم والتقنية.
ومن البناء العامّ نشأ “علم الاجتماع الدينيّ”، الذي حاوَلَ تفسير وجود الدين في نظريَّات، مثل: “فريزر” الذي رأى أصل الدين هو السِّحر، و”هيبر” الذي رأى أصله الأُسطورة والخيال (الذي هو أهمُّ عناصر الدين)، و”ماركس مولر” الذي رأى الدين من مُحاولات الذكاء الإنسانيّ أيْ نوعًا من الوحي الذاتيّ. وكذا كان كثيرٌ من أوائل الأنثربولوجيِّين غيرَ دينيِّين.
وتحكُمُ النظرةُ النموذجيَّة للمسيحيَّة التي تربَّى عليها المُستشرقون نظرتهم إلى الإسلام؛ ونجد من هذا إدخالهم كثيرًا من المُصطلحات المسيحيَّة في دراسة الإسلام. مثل التعبير عن المذهب السلفيّ بالأرثوذكسيَّة، والتعبير عن المُفتي بالبابا. وكذلك الفشل في رؤية الدين مُحرِّكًا؛ فهُم يردُّون كلَّ الحركة الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا إلى أسباب سياسيَّة واقتصاديَّة ومصالحيَّة، مع طرح الدين كُليًّا من تحريك المُجتمع.
ويُنبِّه الكاتب إلى أنَّ هذا العوار لا يعني رفضنا للعلوم ولا نتائجها بشكل قطعيّ وشامل. فهي تتضمَّن نماذجَ تفسيريَّةً مُفيدةً، ومَداخلَ مُساعِدةً، وآليَّاتٍ بحثيَّةً فاعِلةً.
تعليق أخير
مهما كانت نتائج الاستشراق؛ فلا يمكن أن ننسى أنَّه -قديمًا وحديثًا- مُنتَجٌ إنسانيٌّ مَحكومٌ بظروف المُواجَهَة بين مُنتجِهِ “الغرب”، ومَوضُوعِهِ “الشرق”، وبأهواء مَن صنعه. ويدعو الكاتب للتفاؤُل في القادم بإذن الله.