ما السبيل لتحقيق العلاقة المثلى بالقرآن؟
إن الإنسان ليأسف حينما يرى من حوله يهجرون القرآن أشهرًا وأعوامًا، أو يرتبطون به ارتباطًا موسميًا فقط. وقد صوَّر القرآن هذا المشهد عبر شكاية الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كفار قومه فقال: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
وما كانت هذه الشكوى من أرحم الناس إلا أنه يدري أن السبيل الوحيد للخروج من متاهات الظلام إلى نور الحياة الساطع هو التمسك بهذا الحبل المتين. وقد تعددت الآيات في بيان الحكمة التي انطوى عليها هذا الكتاب، وذكر الغاية المرجوة من نزوله. كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
ومن هنا ينبغي على كل من آتاه الله علمًا أن يصرفه في دعوة المسلمين إلى كتاب اللّه، كلٌّ حسب قدرته واستطاعته. وفي هذا المقال سنجيب عن تساؤل مهم: ما السبيل لتحقيق العلاقة المثلى بالقرآن؟ وكيف نسد حاجتنا به؟
ركن الإخلاص
لقد جعل سبحانه وتعالى لأهل القرآن مزايا خاصة بهم في الدنيا، كهدايتهم للصراط المستقيم، ونيل رضوانه؛ ومزايا خاصة بهم يوم القيامة، كدخول الجنة والتي هي غاية كل عبد مسلم، والارتقاء في درجاتها. ومما يؤكد هذا الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها”1.
ويكفي المسلم المتدبر لكتاب الله أن الحق -سبحانه وتعالى- حينما ذكر الصالحين والمجاهدين وأثنى عليهم كان أهل القرآن على رأسهم. كما قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32]. ويقول تعالى {وَجَاهِدْهُم بِهِ} أي بالقرآن: {جِهَادًا كَبِيرًا}. ولما جعل ربنا هذه المزايا لأهل القرآن، كان أول من تسعر بهم النار يوم القيامة إن ابتغوا بذلك غير وجه الله.
يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الطويل: “إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتى به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار”2.
وقد قدم سبحانه وتعالى المرائي في القرآن على المرائي في غيره من العبادات لعظمة هذا الكتاب. فينبغي على العبد المسلم أن يعلم أن قبول الأعمال يتوقف على ركنين أساسيين: الإخلاص ومتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالله -سبحانه وتعالى- غنيٌّ عن عبادتنا، ولا يقبَلُ إلَّا ما كان خالِصًا لوجْهِه سُبحانَه.
ركن التلاوة
يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَىْءٍۢ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ* وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل: 91-92]. فهذا فيه حث على تلاوة القرآن، بل تلاوة القرآن من وظائف النبي -صلى الله عليه وسلم- كما دلت عليه الآية، فهو المعجزة الدالة على صدقه.
ومما يعين على الإكثار من تلاوة القرآن استحضار الثواب العظيم؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا لصحابته الكرام أجر تلاوة القرآن: “من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ (الـم) حرفٌ ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ”3.
فانظر إلى حلم الله! وصدق ربنا حين قال: {وكان الله شاكرا عليما} [النساء: 147]. أي يتقبل أعمالنا القليلة، ويثيبنا عليها بالثواب الجزيل.
وقد اعتنى الصحابة -رضوان الله عليهم- وسلف هذه الأمة بهذا الركن غاية الاعتناء؛ فقد كانوا يطيلون النظر إلى كتاب الله، فمنهم من يختمه في أسبوع ومنهم من يختمه في أقل من هذه المدة.
وأفضل وقت لقراءة كتاب الله وتدبر معانيه؛ عند سكون الليل. ومما يدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تجذبه قراءة الأشعريين في هذا الوقت. روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إِنَّي لأعرِفُ أصواتَ رِفَقَةِ الأشعريِّيِّنَ بالقرآنِ حينَ يدخلُونَ بالليلِ، وأَعْرِفُ منازِلَهم منْ أصواتِهم بالقرآنِ بالليلِ، وإِنْ كنتُ لم أرَ منازِلَهم حينَ نزلوا بالنهارِ”4.
وفي قصة أخرى مشابهة؛ في صحيح البخاري عن أسيد بن حضير قال: بيْنَما هو يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إذْ جالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجالَتِ الفَرَسُ، فانْصَرَفَ، وكانَ ابنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْها، فأشْفَقَ أنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ، حتَّى ما يَراها، فَلَمَّا أصْبَحَ حَدَّثَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَ: اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ، قالَ: فأشْفَقْتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنْ تَطَأَ يَحْيَى، وكانَ مِنْها قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فانْصَرَفْتُ إلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فيها أمْثالُ المَصابِيحِ، فَخَرَجَتْ حتَّى لا أراها، قالَ: وتَدْرِي ما ذاكَ؟ قالَ: لا، قالَ: تِلكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولو قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها، لا تَتَوارَى منهمْ”5.
يقول الشيخ السكران -فك الله أسره-: “ولكن هناك عنصر إضافي صرت ألمسه أخيرًا، وهو أن القرآن إذا خيم سكون الليل يكون عالمًا آخر، ثمة قدر إضافي في جلال القرآن لحظة سكون الليل”6. وفي نفس الصدد يقول: “لا أدري.. لكنني أميل إلى أنها أسرار القرآن بالليل، فآيات القرآن إذا هبطت غيوم المساء صارت تتدفق بروحانية خاصة، انبعاث صوت القارئ بالقرآن بين أمواج الليل الساكن قصة تنحني لها النفوس”7.
فلا ينبغي للمسلم أن يهجر تلاوة كتاب الله، وقد علم أن الملائكة تدنو له، ولا يدّعي أنه لم يجد وقتًا له، وهو يضيع وقته الثمين في سفاسف الأمور، وتتبّع الماجَرَيات.
ركن الاستماع
كان -صلى الله عليه وسلم- يتقصّد سماع القرآن من صحابته الكرام، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: “اقرأ عليَّ القرآنَ”، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟! قال: “إني أحب أن أسمعه من غيري” فقرأتُ عليه سورةَ النساءِ، حتى جِئْتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قال: «حَسْبُكَ الآنَ» فالتفتُّ إليه، فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ”8.
فالمستمع للقرآن يكون متدبرًا له أكثر من تاليه؛ لأن هذا الأخير حينما يتلوه يخشى أن يقع في أخطاء، ويسعى جاهدًا لتصحيح تلاوته، وهذا هو سرُّ الاستماع للقرآن، وقد صار هذا الركن من السنن المهجورة اليوم في مجالسنا.
تعلم الإيمان
نصل الآن إلى الركن الثالث وهو وركن لا بد للناشئة تعلّمه، ويعتبر مفتاحًا لتعلم القرآن. ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح، فعن جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا”9.
لكن البعض منا يتساءل ويقول: كيف يُتعلّم الإيمان! وكيف نسير على خطا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غرس هذه الأصول لدى الناشئة؟
لا بد لمعلم الصبيان الكتابَ أن يغرس فيهم أصول الإيمان، كمعرفة الحق -سبحانه وتعالى- وتعظيمه، ولا يتأتى هذا إلا بالتعرف على أسماء الله وصفاته الحسنى، فمن عرفه وآمن به، سيحبه لا محالة، قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله}. وإن أحببت ربك ستحب كلامه الذي تكلم به من فوق سبع سماوات، وستقبل عليه بجوارحك طالبًا الهداية منه.
َوكذلك معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أعظم أصول الإيمان؛ والاقتداء به، واتّباع هديه، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
كما ينبغي لمعلم القرآن أن ينبه الصبيان على استحضار اليوم الآخر، فمن أبرز ما يعين على الثبات والاستقامة على المنهج الرباني استحضار هذا المقام الرفيع. وقد أشار لذلك ربنا في غير ما آية. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} [البقرة: 45-46]، ويحكي لنا ربنا في آية أخرى قصة طالوت وجنوده، وكيف ثبتوا عند المواجهة باستحضارهم اليوم الآخر، قال تعالى: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
دون أن نغفل على تعليمهم أصولًا أساسية تعتبر لبّ العبادات: كمقام العبودية، والتذلل له -سبحانه وتعالى-، والانكسار بين يديه، والانقياد له بالطاعة، والاستسلام له، والتوكل عليه، وقد ذكر في سبعين موضعًا من القرآن.
وقد لخَّص هذا الركن ابن عمر -رضي الله عنه- لمّا قال: “لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ”10.
تعلم معاني القرآن
يغفل كثير من المسلمين اليوم عن هذا الركن الأساسي، والذي يشكل بنسبة مئوية كبيرة العلاقة المثلى بالقرآن العظيم. وقد اعتنى الصحابة والتابعون -رضوان الله عليهم- بهذا الركن. فعن مجاهد قال: “عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه أسأله عنها: فيم أنزلت؟ وكيف كانت؟”. فكانوا يتعلمون معاني القرآن كما يتعلمون ألفاظه.
يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: “إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذّ بقراءته!”11. فما أطيبَها من حياة، إذا عقل العبد معاني كلام ربه وصار يلتذ به!
وفي الحديث الصحيح، تقول عائشة وهي تصف حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت عليه إحدى الآيات: “فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] ) الآيةَ كلَّها. 12
فتدبّر معي قول رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: “ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”!
فلا بد للمسلم أن يعقل معاني آيات الله، ويتدبرها، كما ينبغي له أن يعلم أن هداية القرآن على مراتب، فتارة تكون عامة للناس أجمعين كما قال تعالى: {هدى للناس}، وتارة لا تكون إلا لأهل التقوى والصلاح كما قال تعالى: {هدى للمتقين}. وكلما اتقى العبد ربه وخشيه، كلما فتح الله عليه من أسرار هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه.
العمل بالقرآن
حينما يخلص العبد لربه في تلاوة القرآن وتعلم معانيه، لا يتبقى له سوى العمل بما جاء في الكتاب. قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل). وعن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: “يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، لمَّا أَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 31]. شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فاخْتَمَرْن بِهَا”13.
وما أنزل الله -عز وجل- هذا الكتاب إلا ليُتّبع وليُعمل بما فيه، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فالذين آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
وقد ذمّ -سبحانه وتعالى- اليهود في كتابه لما اكتفوا بقراءة التوراة دون أن يعملوا بما فيها، فقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5].
وأرشدنا الحق -سبحانه وتعالى- أيضًا في آية أخرى إلى عدم الاقتصار على القراءة فقط كما فعل بنو إسرائيل، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78].
ولكي أقربك أكثر أقدم لك مثالًا: فحينما تقرأ قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وتقرأ قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ حينما تتدبر هاتين الآيتين، وتسمع بمحتاجٍ، تسعى إلى قضاء حوائجه وتفريج همه، طَمَعًا في نيل رضوان الله، وخوفًا من عذابه، وبذلك تكسب أجرين، أجر تفريج كرب الناس، وأجر العمل بما علمت من كتاب الله. وهكذا يتعامل المسلم مع كلام الله، إن هو أراد حياة طيبة في الدنيا والآخرة.
المصادر
- رواه الترمذي (2914).
- صحيح الجامع (2014).
- أخرجه الترمذي (2910).
- صحيح الجامع (2486).
- صحيح البخاري (5018).
- إبراهيم السكران، “الطريق إلى القرآن”، العصرية للنشر والتوزيع، (ص: 29).
- إبراهيم السكران، “الطريق إلى القرآن”، العصرية للنشر والتوزيع، (ص:31).
- صحيح البخاري (5050).
- رواه ابن ماجه (61).
- رواه الحاكم في “المستدرك” (1 / 35).
- ابن جرير الطبري، معجم الأدباء، (18/ 63).
- صحيح ابن حبان (620).
- صحيح أبي داود (4102).
جزاك الله خيرا على هذا الموضوع الرائع ، وزادك الله علما واسعا إن شاء الله وعلمنا من فضله عز و جل، و جعلك الله بدر الدين إن شاء الله.
سلمت أناملك ، و وفقنا الله و إياكم إلى الطريق الصحيح ، و جزاك الله خير نشر العلم و المواضيع التي غابت عن واقعنا الحالي …
كل التوفيق أستاذ بدر الدين ????