قراءة في كتاب: في التاريخ فكرة ومنهاج لسيد قطب
إن الأمة التي تلاحقت عليها عهود الاستعمار المباشر، ثم خلفه الاستعمار غير المباشر بإدارة محلية تأتمر بأوامر المستعمر الأول، ثم جاءت حملة التداعي العالمي على قصعتها، تزامنًا مع المحارق البشرية في حق شعوبها والحملات الفكرية المضادة لهويتها… إن هذه الأمة لو كان قد كُتب لها الموت بعد كل ما تلاحق عليها، لماتت، ولنسي ذكرها وانتهت آثارها من التاريخ ومن الذاكرة، لكنها بعد كل هذا الذي مر -ويمر- من استبداد وتقييد واستعمار وتكالب دولي وتغييب ممنهج لشعوبها، حية لا زالت تنتفض فيها القلوب وتتطلع فيها العقول لشخصيتها التاريخية الجامعة ومكانتها الطبيعية في أستاذية هذا العالم، إنها لا زالت حية حتى بعد غفوتها التي تزامنت مع استعلاء الغرب المادي، الغرب الذي راهن على موتها، فما لبثت أن تحركت بوادر يقظة بين أطرافها، معلنة بهتاف الجمر القادم من تحت أكوام الرماد الخابي، أن هاهنا أمة ما تزال موجودة تدب في أوصالها الحياة…
فما الذي حفظ لهذه الأمة حياتها، وما الذي أبقى وجودها بين أبنائها؟
إنها العقيدة؛ العقيدة التي حفظت نبض الدماء في هذه الأمة، وبقيت مسبغة للمعنى على المد الحضاري لها في ضمير شعوبها، إنها العقيدة التي لا تموت، فالقيم الربانية مصدرها الحق سبحانه الحي الذي لا يموت..
وقد أدرك الاستعمار خطر هذه العقيدة، وأنها السبيل الوحيد لاستجماع قوى هذه الأمة، وشحذها في كفاحها نحو التحرر، أدرك مدى عمقها في الوجدان الشعبي، وأنها المحرك الأبرز للمسلمين عبر التاريخ.
منهج في النظر للأعمال عن طريق القيم التي تنطلق منها
إن الأدب والفن والبناء وكل النشاط البشري ينطلق بداية من قيمة معينة، وتكون حركة الإنسان ونشاطاته تجليًا لتلك القيمة وتعبيرًا عنها، فالقيمة هي التي ينطلق منها السلوك، وتحدد بالتالي طبيعة نتاج متبنِّيها الفكري أو المادي سواء كان فرد أو مجتمعات بشرية.
لا يمكن بالتالي فصل القيمة عن السلوك، أو النظر للإنتاج البشري بشتى أنواعه مكتوبًا كان أو مصنوعًا بطريقة مجردة عن القيم التي انطلق منها.
«كذلك من العبث محاولة فصل تلك القيم عن التصور الكلي للحياة والارتباطات فيها بين الإنسان والكون، وبين كون الإنسان يشعر بأن له تصورًا خاصًا للحياة أو لا يشعر، لأن هذا قائم في نفسه على كل حال، وهو الذي يحدد قيم الحياة في نظره، ويلون تأثراته بهذه القيم». [1]
الذاتية التاريخية للأمة الإسلامية
فإذا كان لكل أثر قيمة ينطلق منها، فإن هذه الأمة تمتلك شخصية تاريخية منبثقة من منظومة القيم التي تشكلت على أساسها، وفي جوهرها العقيدة، وإنها بتلك القيم تكتسب ذاتيتها الخاصة والفريدة، والتي لا يمكن -إلا من خلالها- فهم وكتابة تاريخها، لأن تاريخها هو التجلي الواقعي لقيَمها، يصعد مع قرب الأمة منها ويتدهور بابتعادها، فالتاريخ يمثل عمود تلك الشخصية، وديوان حركتها وسياحتها قديمًا ومعتمد نظرتها للمستقبل، على احتساب أن الإسلام هو حركة تجديد وإبداع دائم لهذه البشرية، وكم خسر العالم -لأجل ذلك- بانحطاط المسلمين، وابتعاد حملة هذا الدين عن حقيقة ذاتهم التاريخية أو شخصيتهم الحضارية المنطلقة من قيمهم… فكيف حدث هذا الابتعاد؟ ومن كتب إذَنْ التاريخ الذي يشكل عالم أفكار المسلمين اليوم؟
إشكال هيمنة القراءة الغربية لتاريخنا
يقول المثل الإفريقي «سيبقى التاريخ يمجد الصيادين ما لم يتعلم الأسود الكتابة»، والصياد الغربي هو الذي عمل في حملاته المعاصرة، خاصة عبر ظاهرة المستشرقين، على إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية، ثم تقديم هذا التاريخ للأجيال المعاصرة، لرسم صورة مشوهة ومضطربة عن ماضيهم، يحدِث فيهم التوجس من الماضي، بل وتأسست المناهج التدريسية الرسمية على منهج الغرب في التعامل مع تاريخنا.
فإذا اعتبرنا مبدأ أن كل نشاط مرتبط بقيمة، ما هي القيم الغالبة على أقلام المستشرقين أثناء كتابتهم لتاريخ المسلمين؟
لا يمكن للطبيعة الغربية أن تفهم تاريخ الإسلام بحقيقته التي كان عليها وبالتالي -من باب أولى- أن تكتب في هذا التاريخ؛ لنوعين من الأسباب: أسباب تخص نقص الاستجابة، وأسباب تخص طبيعة العقلية الغربية.
أما أسباب نقص الاستجابة فهي نتيجة لتعطل مقومات هذه الاستجابة، إذ «ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية» [2]، «فأما ان كان يتلقاها بادئ ذي بدء وهو معطل الروح أو الفكر أو الحس عن عمد أو غير عمد فإن هذا التعطيل المتعمد أو غير المتعمد، يحرمه استجابة معينة للحادثة التاريخية؛ أي أنه يحرمه عنصرًا من عناصر إدراكها وفهمها على الوجه الكامل، ومن ثم يجعل تفسيره لها مخطئًا أو ناقصًا» [3]، ما يولد بالضرورة رؤية هذا التاريخ من زاوية خاطئة تؤدي بالضرورة إلى الخطأ في التفسير والخطأ في التفاعل معه.
أما طبيعة العقلية الغربية، فهي مرتبطة بالقيم الحاكمة على منتوجه الفني أو المادي، فالغرب لا يزال يحمل خلفيته التاريخية في التعامل معنا، ولا يمكنه الانفكاك منها، إنها خلفية الصراع الضاربة في التاريخ والممتدة إلى زماننا هذا، التي لا تبرح تفاعلات الغرب النفسية، ولا يوجد لدى هذه النفسية كابوس أكبر من حركة الانتشار التي حققها الإسلام في هذه الأرض، والتي حفظها التاريخ، فكيف إذا عادت تلك الشخصية التاريخية لدورها الحضاري، كيف إذا انفلتت من أسر الأوهام… فالعقلية الغربية سواء حملت الشعار الديني أو العلماني، سواء كانت ملَكية أو ديمقراطية، فإن عمقها الصليبي لا يغادر منهج تعاملها معنا كأمة، ومع تاريخ هذه الأمة.
كما أنه يوجد عامل آخر من عوامل قصور الكتابة الغربية لتاريخنا، وهي الاعتقاد الغربي بمركزية الغرب الدائم في التاريخ، ما يحيل بقية العالم هوامش له، حتى حين كان الغرب رائد التخلف والجهل في عصوره المظلمة، أو كان الإسلام رائد العلوم والحضارة وقائدًا لركب البشرية، فإن القراءة الغربية المشحونة بوهم المركزية الدائمة ستحرف مجرى كتابة التاريخ ولا بد، بعيدا عن واقعية الطرح وموضوعية التحليل.
منهج نقي في النظر والكتابة لتاريخنا
لا بد إذن من منهج نقي في الكتابة والتعامل والتأثر بتاريخ هذه الأمة، منهج ينطلق من داخل المسلمين، من حرارة عقيدتهم، يحمله أبناء هذا الدين، الذين تتوفر فيهم عناصر الاستجابة، والتي تمكنهم من التحليل الصحيح ثم التفاعل الصحيح مع التاريخ، ثم إعادة إخراجه كزاد للأمة في طريقها.
وقد قدم الكاتب معالم لهذا المنهج، باعتبار تاريخ الإسلام جزءًا من التاريخ البشري، وفاعلاً بارزاً في هذا التاريخ، فلا بد إذن من الإلمام بالتجارب البشرية، والصورة التي انتهت إليها الإنسانية قبل ولادة الإسلام، بكل ما تحتويه هذه الصورة من أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية وعقائدية…، ثم الصورة التي كانت عليها الجزيرة العربية، والتي لم يكن من الصدفة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منها، بالتالي يكون من معالم المنهج دراسة «محمد الرسول»، وكل ما يتعلق ببيئته ونسبه، ثم دراسة الحدث الانقلابي العالمي ببعثته صلى الله عليه وسلم، ومدى الاستجابة التي تحققت بعد ذلك، ثم دراسة «الإسلام على عهد الرسول» صلى الله عليه وسلم، وما فيها من دروس عن رجال الدعوة الأولى من الصحابة وخصائصهم وعن كيفية بناء الرسول للنظام الجديد، ثم تجيء المرحلة الثالثة مرحلة «المد الإسلامي»، وذلك عندما انساح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. عندما فاض ذلك الفيض الانفجاري العجيب الذي لم يعرف العالم نظيرًا في سرعته وقوته»[4]، ثم تأتي مرحلة «انحسار المد الإسلامي» الذي يمكن من خلال العناصر السابقة التعرف على عوامل وقوعه الداخلية والخارجية وطبيعة هذا الانحسار، ثم يتهيأ الأمر للحديث عن «العالم الإسلامي اليوم» بناء على ما سلف من وضوح للرؤية وتشابك المراحل، ليكون جليًا فهمُ دور الإسلام في الماضي والحاضر واستشرافه للمستقبل..
الخاتمة
لقد أنتج تشويه التاريخ، تحريفًا كبيرًا في الوعي المعاصر، بل «إن أخطر وأعظم ما حدث للعقل المسلم فى القرنين الماضيين هو أنه أصبح ينظر لنفسه وللمسلمين من حوله من خلال نظرة أعدائه له ولدينه!»[5]، وإن العمل على إعادة إحياء الذاتية التاريخية بين المسلمين، وبث روح العزة والإباء، والاستقلال الفكري، وتبيين الطريق، لَعواملُ مركزية في وقوف هذه الأمة من جديد، واستعادة مكانتها.
إن الطريق الصحيح هو أن تنطلق هذه الأمة من شخصيتها الحضارية، المرتبطة بقيمها، لا أن تكون رهينة لمعسكر غربي أو تابعة لمعسكر شرقي، إن الطريق هو طريق التحرر الواعي والشامل.
المصادر
[1]كتاب في التاريخ عبرة ومنهاج لسيد قطب، طبعة دار الشروق، ص .12 [2] نفس المصدر ص 37. [3] نفس المصدر ص 38. [4] نفس المصدر ص 52. [5] اقتباس من مقال للدكتور حسام أبو البخاري بعنوان: هم من قتل ونحن من استشهد