الموضة والتلوث وجهان لعملة العولمة

أصبح الانسياق وراء الموضة والملابس الجديدة منهج الريادة الذي ساد بلدان العالم، خاصة مُدعي التقدم منهم، فقد بلغ ما اشترته عائلة ألمانية واحدة من الملابس 200 كيلوغرام، أي ما يفوق حاجتها بست مرات، وذلك كله تحت عنوان «موضة جديدة»، والغريب أنها لم تدفع مقابل ذلك إلا مبلغًا زهيدًا، فهل حقًّا هذه الرفاهية دون ثمن؟ وهل يمكن أن تكون هذه الرفاهية قناعًا يخفي الاستغلال والاستعباد وراءه؟ وكيف كانت العولمة المسببة لذلك؟ وهل حقًا العولمة الاقتصادية متسببة بالتلوث والدمار البيئي؟ 

انخفاض أسعار الثياب… ليس بالمجان!

وفق منصة (يوروستات) فإن أسعار الشراء للملابس تتجه نحو الانخفاض السريع والواضح في السنوات الأخيرة في أوروبا، فقد وجد وخلال أربع سنوات فقط من 2014 حتى 2018 أن سعر الشراء لكل كيلو من الثياب انخفض بما يقارب 57 دولارًا، فما هو السبب وراء ذلك؟ وهل هذا الانخفاض دون ثمن؟ وكيف كانت العولمة الممهد لذلك؟ 

العولمة الاقتصادية كما عرَّفها البعض أنها انفتاح تجاري يلغي القيود التجارية ويوفر فرص التبادل التجاري الواسع بين بلدان العالم، لكنّ الحقيقة أن هذا التعريف ليس إلا قناعًا يخفي وراءه صورة الاستعباد الجديد، فبدلًا من أن تقوم الدول المُدَّعِية للتقدم ببناء مصانع ومعامل على أراضيها وتلوث بيئتها، فإنها تلجأ إلى استغلال دولة أخرى لهذه المهمة، فهذا أيسر وأوفر لها، فبدأت باسم «العولمة الاقتصادية» التعاقد مع دول نامية، بحد زعمها لها، فجعلتها معملًا لمنتجاتها، تبني المصانع والمعامل على أراضيها، وتسخّر سكان هذه الدول للعمل لها بأبخس الأجور، ومن ثم تشتري منتجاتها بأرخص الأثمان، وتلصق عليها اسم ماركة عالمية، لتُنسب لها وليس للدولة المصنعة!

كيف لا يكون هذا أبشع صورة من صور الاستغلال، فقد استعبدت الدول المُدعِيّة للتقدم سكان بَلد آخر، واستغلت خيراتهم وأراضيهم، ولوثت أنهارهم وبيئتهم، لتنتهي إلى سرقة منتجاتهم وتنسبها إلى اسمها؛ وتبيعها في أسواقها بالثمن الذي تريده!

وبذلك نجد أن هذا الانخفاض في الأسعار لم يكن بلا ثمن، فهو ذو ثمن غال، فثمنه بلدان بأكملها، فمن أجل أن يجد المواطن الأوروبي «المتحضر» جميع ما يحتاجه متوفرا في الأسواق، ضحت دولته بدول كاملة، تستنزف خيراتها وتنتهك بيئتها وتموّت سكانها، نعم، إنها الحضارة السوداء، التي تظهر ما لا تخفي، وتهدف للصعود ولو على أكتاف الآخرين.

ألمانيا وبنغلاديش… مصاصُ دماءٍ وضحيتُه

ثمن الرفاهية

هذه الفقرة ليست إلا أحد الأمثلة التي نستطيع بها أن نوضح قبح الاستغلال الكامن وراء الموضة السريعة، والصورة الحديثة لاستعباد الدول واستغلال الشعوب، فلو أننا جبنا بين المدن الألمانية، لانْبهرنا من شدة جمال الطبيعة فيها، ورأينا الأناقة في معمارية مدنها، وفوجئنا من العروض المتوفرة في أسواقها، التي مُلئت بكل شيء، فببعض الدولارات تستطيع شراء ما يكفيك من الملابس وبأجود الخامات وأفضل الماركات.

لكن هذه الرفاهية الخادعة والحضارة الكاذبة لم تقم إلا على ضحايا، تمتص دماءهم باستمرار ولآخر قطرة بهم، فها هي بنغلاديش، ثاني أكبر دولة في تصدير الملابس، قد حُولت إلى معمل كبير للملابس، فأرضها المعمل وسكانها العمال وأنهارها مكب القمامة.

أنهار بنغلاديش تصبح زهرية!

يكفيك دليلًا على ما ذكرنا، أنك لو كتبت على محرك البحث كلمتين «أنهار بنغلاديش» وفتحت الصور فإنك لا تكاد ترى صورة واحدة لماء أزرق اللون، فماء الأنهار عندهم لم يعد أزرق، وإنما بني وأخضر وفي بعض الأحيان زهري!، ولو أنك أكملت بحثك وأضفت كلمة تلوث، فأصبحت «تلوث أنهار بنغلاديش»، لاندهشت من كمية القمامة الملقاة في الأنهار، ولتساءلت «كيف يمكن أن يحيا إنسان بالقرب من هذه الأنهار فضلًا عن سمك فيها؟».

وهذا التلوث ليس إلا من المعامل والمصانع التي وجدت بها، والتي تعمل على صنع ملابس الدول المتقدمة، التي تظهر خوفها على الطبيعة، وتدعي حرصها على الحزام الأخضر للأرض، لكن الحقيقة أنها لا تهتم إلا بأرضها، ولو كان ثمن هذا الاهتمام دمار شعوبٍ ودول.

عندما نسي الإنسان ربه

نعم، إن التلوث الحاصل في بنغلاديش وغيرها ليس إلا ثمن الرفاهية التي يعيشها سكان أوروبا مُدعِي التطور والتقدم، حقًّا لا يَصْدق عليهم إلا وصف «مصاص الدماء وضحيته»، وكيف يكون هذا بالعجيب، وهؤلاء القوم قد بنوا بلادهم على أساس أنهم يعيشون في هذه الأرض لا إلى رحيل، بنوها ظانين أنهم أفضل الناس وأسيادهم، فمن منطقهم كيف لا يمكن للسيد أن يستغل عبده!

فمن نسي أن لهذه الأرض خالقًا، ولهذا الكون بارئًا، فكيف يمكن أن يمكن يعدل في أموره، ويأخذ كل أمر بحقه، فهم يبنون ولو على أكتاف الآخرين، ويصعدون ولو على ظهور المحتاجين؛ هدفهم الوحيد نيل الرفاهية وسيادة العالم.

كيف النجاة؟

أوروبا تقف أمام التلوث ومع الشعوب!

الحقيقة أن النجاة تبدأ من الوعي بالمشكلة، فأوروبا مثلا على الرغم من كونها المسبب الأول للتلوث، إلا أنها تعي هذه المشكلة، وتسعى لحلها بطريقة عجيبة، فبدلًا من أن تلغي مصانعها في تلك الدول، أو أن تعطي شعوب تلك الدول تعويضًا عن تلويثها إياها، لجأت بعض الجهات في أوروبا إلى تأكيد أهمية تقليل الملابس التي يشتريها المواطن الأوروبي لتنخفض كمية الإنتاج!، ولربما لجأت في بعض الأحيان إلى إرسال مساعدات من باب الإنسانية والرأفة.

أليس هذا هو العجب، فبدلًا من أن يطلق المجرم ضحيته، أو يعتق السيد عبده، يقوم السيد بتخفيف عمل عبده لكيلا يهلك بسرعة فيتضرر السيد لحين أن يستعبد غيره! وإذا وجده قارب على الهلاك كافأه بقطعة خبز تالف أو قطرة ماء نتن! نعم هذه هي الرأفة الكاذبة والإنسانية الخادعة التي نحيا بين أيديها اليوم.

الوعي يأتي في أول طريق النجاة

النجاة لا تبدأ إلا بالوعي، فلا تنحل أي مشكلة كبرت أو صغرت إلا بالتنبّه لها أولًا ومن ثم حلها، ولذا علينا أولًا بالوعي بهذه العولمة وبعدها توعية من حولنا لها، وعندها نستطيع النجاة، فبالتوعية نستطيع أن نخَرج من كوننا مجتمعًا لا يسمع ولا يرى، وبعدها نستطيع أن نسعى لإيجاد الحلول والبحث عن العلاج.

التوعية تحتاج لكسر الجدار 

عندما نتكلم عن التوعية، يبرز أمامنا أهمية كسر الجدار الوهمي بين المثقف والعامي، فقد صنع بعض المثقفين جدارًا يعزلون أنفسهم به، وذلك باستخدامهم كلمات باردة لا يفهمها إلا هم، فإذا ذكرت كلمة «العولمة» مثلا أمام من يجهل معناها، لم تجد منه أي اهتمام ولا رغبة لإكمال الحديث أو قراءة المقالة أو شراء الكتاب، وكأننا ذكرنا أمامه نظرية في الفيزياء أو معادلة في الرياضيات لا يهتم بها إلا من اختص بها، وذلك لجهله أنه ليس إلا ضحية للعولمة ومستغَلًّا بها، وقد صدق من قال: «إذا لم تستطيع شرح أمر ما ببساطة، فهذا يعني أنك لا تفهمه».

المصادر:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى