السر الإسرائيلي المكتوم.. مراجعة كتاب التطهير العرقي في فلسطين لإيلان بابه

عندما تلمح عنوان هذا الكتاب (التطهير العرقي في فلسطين) فلن تصدق للوهلة الأولى أن كاتبه إيلان بابه يهودي، قد وُلِدَ في حيفا شمال فلسطين المحتلة سنة 1954، وهو مؤرخ إسرائيلي بارز وناشط اشتراكي، عمل أستاذًا بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة، وهو مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة نفسها، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية.

ليس بإمكان المرء أن يصدق الأحداث التي ذكرها إيلان بابيه في كتابه، لكن ما نشهده من جرائم أفظع في زماننا يجعل من تصديق أحداث الكتاب أمرًا ممكنًا، فالمجرم تتنوع أساليبه وتتعدَّد أدواته، لكن سمة الإجرام تظل هي السمة البارزة له في كل زمان.

حول الكاتب والكتاب

إيلان بابه مؤلف كتاب التطهير العرقي في فلسطين
إيلان بابه

قام إيلان بابه على مدار المحطات المختلفة من حياته بدراسة الوضع الإسرائيلي والصهيونية بعقل سليم نتج عنه بحث شامل يصوِّر الحقيقة، مفاده أن عملية التطهير العرقي لفلسطين تمَّ التخطيط لها بصورة مسبقة وواعية، وقد ركَّز في أبحاثه بالأساس على ما يُعْرَف بخطة “دالت” التي انتهجتها الوحدات العسكرية الإسرائيلية عام 1947، لاحقًا وبعد أن اطَّلعَت الكاتبة الفلسطينية غادة الكرمي على نتائج أبحاثه ومؤلفاته؛ أشادت إشادة عظيمة بالدور الذي قام به إيلان، حيث قالت: «بحث رائد في سر إسرائيلي مكتوم بحرص، وإنجاز علمي تاريخي يعالج موضوعًا حُرِّمَ البحث فيه».

استعان إيلان بابيه في كتابة مؤلفاته عمومًا وفي هذا الكتاب بالأخص بمؤرخين فلسطينيين وآخرين إسرائيليين، كما استند إلى مصادر متنوعة أبرزها يوميات أهم مؤسسي دولة الاحتلال، أدهى المجرمين والرأس المدبر “بن غوريون”، وكذلك رئيسة الوزراء السابقة “جولدا مائير” وغيرهما، بالإضافة إلى شهادات شفوية وأرشيفات عسكرية تابعة للمخابرات والجيش الإسرائيلي، استطاع الكاتب الوصول إليها بعد عناء ورحلة بحث كلفته الكثير في سبيل تقديم بحث يستند على وقائع حقيقية، دون انسحاق وراء الرواية الصهيونية التي تنتشر هناك.

الازدواجية الغربية.. التطهير العرقي ليس صهيونيًا!!

بدأ الكاتب بتعريف التطهير العرقي، ثم جَرَدَ في أغلب الفصول أوجه التشابه بين ما اعتُبِرَ تطهيرًا عرقيًّا على مر التاريخ -كإبادة الأوروبيين للهنود الحمر في أمريكا- وبين الاحتلال في فلسطين، ذلك الاحتلال الذي أغمضت المؤسسات الدولية أعينها عنه، واعتبرته حدثًا عابرًا لا يستحق المحاكمة والعقاب.

لم يحدث ذلك صدفة! فقد سلك مؤسسو الصهيونية مسلكًا مدروسًا مكَّنَهم من الإفلات من المساءلة أمام القانون الدولي، بل واعْتُبِرُوا أيقونات وشخصيات عظيمة وتوطدت علاقتهم مع المؤثرين على صناعة القرار في هذا العالم، ما أكسبهم ثقةً وتأييدًا جعلهم يستمرون في ارتكاب أبشع الجرائم إلى يومنا هذا، يؤكد إيلان على أن الاحتلال الصهيوني قد نهج منهجًا مدروسًا وسِرِّيًّا لتطهير قرية تلو الأخرى، بعد جرد أدق التفاصيل عنها من جهة، والحفاظ على صمت المجتمع الدولي من خلال التفاوض مع الأردن، وارتداء ثوب ضحايا الهولوكوست أمام الغرب من جهة ثانية، يؤكد هذا ما تطمح إليه الصهيونية من رغبةٍ دائمةٍ في احتكار المآسي والتقليل من شأن كل جريمة تقوم بها المؤسسات اليهودية.

أما بريطانيا والأمم المتحدة التي كان قد مرَّ على إنشائها سنتان فقط فقد خذلوا الفلسطينيين وتخلوا عنهم، بدلًا عن الحماية المزعومة التي كانوا قد دعوا إليها، ما جعل الصهاينة يتجرؤون على المجتمع الدولي ويطالبون جهرًا بطرد الفلسطينيين بالقوة والعنف على مسمع ومرأى من العالم ضمن الخطة «دالِت» التي أشرنا إليه سابقًا، هذه الخطة كانت تهدف إلى وضع الفلسطينيين تحت الأمر الواقع والسيطرة على أكبر نسبة ممكنة من الأراضي بكل الطرق الحاصلة، مشروعةً كانت أو غير مشروعة.

صور لن تُمحى

التطهير العرقي في فلسطين

لم تكن القرى التي دُمِّرَت واحْتُلَّتْ إثر ذلك مجرد أرقام أو أنقاض بُنِيَتْ عليها المنتزهات الصهيونية، بل كانت عالمًا كاملًا يعجُّ بالحياة، كان لها أسماء، وبها سكان يحملونها في ذاكرتهم، ومدارس حديثة الإنشاء ومزارع.. ويا لسخرية التاريخ، إذا بحثت عن بعض القرى المذكورة في الكتاب، فستجد أن أغلب المواقع الشهيرة والأكثر تصفُّحًا تُعَرِّفُها كالتالي: «قرية فلسطينية أُخْلِيت من السكان في الحرب الأهلية سنة 1948»؛ لكن الواقع على خلاف ذلك تمامًا، فلم تكن الحرب الأهلية هي السبب في مثل هذه الإبادات، أما الحقيقة الصادمة فهي أن هذه القرية ومثيلاتها قد نُسِفَت بيوتها في سواد الليل بينما كان سكانها يغطون في النوم، كما ذكر الكاتب!

اقرأ المزيد: (الطنطورة).. شاهد على الوحشية الإسرائيلية

تضمَّنَ الكتاب صورًا مُوَضِّحَةً لبعض الأحداث المذكورة، كالهروب الجماعي من القصف عن طريق الشاطئ، وغرق البعض أثناء ذلك، قد تحاول التماسك أثناء قراءتك للأحداث وذلك لاعتيادنا على قراءة مثل هذه الأخبار دون إمعان نظر فيها، لكنك حتمًا ستتوقف طويلًا أمام الصور، وقد تسكن فيها لوقت طويل، ذلك أن فيها تجسيدًا مُرَوِّعًا لجزء من معاناة الفلسطينيين وتطهيرهم العرقي المسكوت عنه!

أقنعة زائفة

ازدواجية المجتمع الدولي

لم تنتهِ معاناة الفلسطينيين بانتهاء النكبة خريف 1948، بل استمرت في صور أخرى متعددة: اعتقالات لا إنسانية دون أي تُهَمٍ واضحة، الإساءة والاعتداء اللفظي والجسدي والجنسي على المواطنين، تدنيس المقدسات الدينية عمومًا والإسلامية خصوصًا.

لكن عمل الصهاينة لم يتوقف عند هذا، بل يؤكد الكاتب على فكرة محو ذاكرة النكبة التي عمدت إليها الحكومات الإسرائيلية، وذلك عن طريق كسب تعاطف المجتمع الدولي وعقد عمليات السلام المُضَلِّلة والتي أنكرت جرائم 1948، فعلت إسرائيل كل ذلك وغيره لكي تُهدهد منظمات حقوق الإنسان التي تدَّعِي الحفاظ على حقوق الإنسان -كل إنسان-، وتُخَدِّر بها الرأي العام الذي يتأثر بالصحف والمجلات دون استرعاء انتباه للوقائع التي شهدت عليها هذه الأرض.

خَصَّص إيلان بابيه جزءًا كبيرًا من كتابه لإيضاح مصادر بحثه، كما جاء كتابه مُطَعَّمًا بالتوضيحات والخرائط والصور والتواريخ المهمة، فهو كتاب علمي رصين، كما أنه كتاب عمليٌّ مؤثر رغم كثافة المعلومات، وقد جاءت الترجمة سلسة واضحة المعالم، مع لغة منضبطة.

يقول الكاتب: «ولا يُساورني أي ظن في أن هذا الكتاب يمكن أن يُغَيِّر واقعًا يُشَيْطِنُ شعبًا استُعمِر وطُرِد واحتُلَّت أراضيه، ويُمَجِّدُ -بالذات- الشعب الذي استَعْمَر وطَرَد واحتَلَّ أراضي الشعب الآخر!»

يمكن القول إن هذا الكتاب هو واحد من هذه الكتب التي أَرَّخَتْ لهذه الإبادة العِرْقِيَّة وقدَّمَت أدلة دامغة على ما ارتكبه هذا الاحتلال الغاشم من مجازر، مُظهرًا في طياته الوجه الحقيقي والقبيح لدولة تدَّعِي أحقيَّتَها في أرض كانت وما زالت مُحْتَلَّةً من مجرمي حرب.

مراجعة: ريم ايت الحاج وسعيد

أفراس - Afras

«سرديتنا هويتنا» مشروع رقمي تطوعي يهتم بصناعة المعرفة. المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى