(الطنطورة).. شاهد على الوحشية الإسرائيلية
يُعرف عن أحداث التاريخ طابع التكرار، ومنذ بداية الخطة الصهيونية المدعومة من بريطانيا وقت انتدابها فلسطين، وحتى وقتنا الحاضر، ما زالت محاولات قادة الكيان لتهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم تعمل بشكل دؤوب، ويُستخدم لتحقيقها مُختلف الأساليب، تتفق جميعها في التجرد من كافة معالم الإنسانية، ففي الماضي؛ ظهر ذلك في هجوم قوات الاحتلال على (قرية الطنطورة) الفلسطينية –وما جاورها من قرى- في العام (1948م)، وقتلها ما يربو عن (200) شخص من سكان القرية، عملت على دفنهم في مقبرة جماعية، مما دفع بالعديد من العائلات للنزوح عن أرضهم، ومنازلهم؛ حفاظاً على أرواحهم وما تبقّى من أفراد أسرهم.
وفي وقتنا الحاضر نرى الكيان يسعى لتحقيق ذات الأهداف في حربه على (قطاع غزة) والتي تقترب من إتمام عامها الأول، وعلى الرغم من بشاعتها؛ فإن مظاهر الدمار، وأعداد الضحايا التي أصبحت صعبة الحصر، تقع تحت أنظار العالم أجمع وهو عكس ما حدث في (قرية الطنطورة)، فلهذه المذبحة العديد من التفاصيل الخفية التي ما زال الكيان الصهيوني يعمل على طمس أثرها وجعلها في طي الكتمان، وهو الأمر الذي نسعى لبيانه فيما يلي.
أسرار وتفاصيل المذبحة
(قرية الطنطورة) هي واحدة من القرى الفلسطينية التي تقع على ساحل البحر المتوسط، بالقرب من مدينة (حيفا)، وكان معظم سكانها -البالغ عددهم في ذلك الوقت (1490) شخص- يعملون في الصيد، ولم يكن اختيار هذه القرية لتركيز الهجوم عشوائياً، بل إن مصيرها كان مقارباً لمصير ما يقارب من (450) قرية فلسطينية أخرى، إلا أن (الطنطورة) كانت أشد أهمية من غيرها، كونها تقع على بعد (35) كيلومتر فقط جهة الجنوب من ميناء (حيفا)، أحد أهم الموانئ البحرية بالنسبة للكيان الإسرائيلي، كما أن موقعها كان ضمن المنطقة التي قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام (1947م) بتخصيصها للدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم الجائر، وكان الحل الوحيد للحصول عليها في نظر قادة الاحتلال هو الإرهاب.
وقد كان… فبعد أسبوع واحد فقط من قيام (دافيد بن غوريون) بالإعلان عن قيام الكيان المحتل -والذي كان بمثابة إعلان للحرب، وأمرُ مباشر للعصابات اليهودية للتوجه للقرى الفلسطينية والعمل على طرد سكانها منها- وفي ليلة (22) مايو من العام (1948م)، بدأ تنفيذ الهجوم من قبل وحدات تتبع (لواء الكسندروني) -الذي كان تابعا في الأصل لعصابات الهاغاناه الصهيونية الإرهابية- عن طريق محاصرة القرية من كافة الاتجاهات بشكل بري، بالإضافة إلى مركبتين بحريتين مجهزتين بالعتاد الحربي اللازم، واستمرت عملية إطلاق النار طوال ساعات الليل، ومع انبثاق نهار (23) مايو، كانت القرية قد أصبحت في قبضة الاحتلال بشكل كامل.
عمدت القوات الإسرائيلية بعد دخول القرية لإجراء عملية فصل للرجال عن كل من النساء والأطفال وكبار السن، وعلى الرغم من سلميتهم وتجردهم من السلاح، واستسلامهم الطوعي للجنود العسكريين دون أي مقاومة تذكر، فقد اُرتكب في حق المدنيين العزل ثلاث عمليات تصفية بأعداد كبيرة وبشكل متزامن، تمت الأولى عن طريق القتل الجماعي على شاطئ البحر، والثانية عن طريقة تصفيتهم داخل منازلهم، والأخيرة، والأشد قسوة كانت من نصيب المجموعة التي تمت تصفيتها في المقابر، حيث طُلب منهم القيام بحفر قبورهم بأنفسهم ثم قام جنود الاحتلال بقتلهم فيها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن العديد من الجنود قاموا باستخدام مشاعل اللهب في حرق أجساد الرجال الفلسطينيين وهم على قيد الحياة، ومنهم من كان يتعامل مع المدنيين بكونهم طرائد للصيد فيتركون لهم فرصة للهرب ثم يقومون بالركض ورائهم حتى الوصول إليهم ومن ثم قتلهم، كما وضع العديد منهم داخل براميل مربوطي الأيدي، وأَجهز عليهم جنود الاحتلال بأسلحتهم من الخارج، حتى فاضت البراميل جراء كميات الدماء الغزيرة للضحايا، وشمل إجرام أفراد (لواء الكسندروني) عدد من عمليات الاغتصاب للفتيات والنساء تحت أنظار ذويهم قبل القيام بقتلهم.
بحسب شهادات الجنود الإسرائيليين أنفسهم فقد كانت جثث الضحايا كبيرة العدد، ومنتشرة في كل مكان في القرية، ولم يكن الاهتمام بدفنها أو العبء بمصيرها أمراً شاغلاً للجنود، بل إنهم قاموا بتكديس الجثث فوق بعضها البعض على إحدى العربات البدائية، وقاموا بتركها في المقابر الواقعة خلف القرية دون دفن، ولكن وبعد مرور يومين، بدأت الجثث في الانتفاخ، مما اضطرهم إلى الاستعانة ببعض الأشخاص من قرية (الفريديس) المجاورة (للطنطورة) للتعامل مع الأمر، وكانت النتيجة هي قبر جماعي دفنت فيه جميع الجثث، وبحسب شهادة من قاموا بالدفن فإن أعداد القتلى كانت بين (270:280) قتيل.
أما ما يتعلق بالنساء والأطفال، فقد تم تركهم مع جثث ذويهم لمدة يومين، قبل القيام بترحيلهم إلى قرية (الفريديس) المجاورة، ومن ثم إلى مختلف المناطق الفلسطينية، والبعض هاجر إلى الحدود السورية، وقد حرص الكيان الصهيوني على التخلص من أي آثار قائمة لهذه المجزرة، بدءً من الاستعانة بشركة (Metro Goldwyn Mayer) السينمائية لتصوير عملية نقل العرب للحدود الشرقية والتي كانت تتم بصورة نظامية وإنسانية، ليعتقد العالم أن ما حصل كان بالتراضي بين كل الأطراف المعنية دون أي إجبار أو عنف، تلاها قدوم العديد من الجرافات إلى داخل القرية، وقيامها بتسوية الأراضي الترابية، وإزالة مختلف الآثار التي تدل على المذبحة أو وجود ضحايا، في محاولة لطمس آثار المذبحة البشعة.
تيدي كاتس.. والطنطورة
في عام (1996م) قرر (تيدي كاتس) البدء في التحضير لأطروحة الماجستير الخاصة به، والتي كان من المقرر أن تكون دراسة تاريخية مصغرة، تتناول بعض ما جرى في القرى الفلسطينية خلال عام النكبة (1948م)، وفي سبيل ذلك وقع اختياره على خمس قرى فلسطينية تقع جميعها في الجزء الجنوبي من مدينة (حيفا) المطلة على ساحل البحر المتوسط، كان عنوان هذه الأطروحة هو (رحيل العرب من قرى سفوح جبل الكرمل)، وقد استمر عمله عليها لمدة عامين، سجل خلالها كاتس ما يزيد على (140) ساعة من المقابلات مع أشخاص يبلغ عددهم (135) شخص نصفهم من الفلسطينيين، والنصف الآخر كان مع جنود إسرائيليين، تُثبت جميعها حقيقة المجازر، والتطهير العرقي الذي حدث في هذه القرى وبشكل خاص قرية (الطنطورة)، التي كانت محور الفصل الرابع في الأطروحة، ونتيجة لجهوده، حصل (تيدي) على الماجستير بأعلى درجة يمكن تحصليها.. ولكنها كانت البداية.
في العام (1998م)، وبعد مرور عامين على أطروحة (تيدي)، عثر عليها الصحفي (أمير غيلات) في المكتبة الخاصة بجامعة (حيفا)، وقام بنشر ما ورد فيها عن تفاصيل مذبحة (الطنطورة) في صحيفة (معاريف) اليومية في صورة تقريرين متتاليين، كان الأول تحت عنوان (جيش الدفاع الإسرائيلي ارتكب مجزرة)، والثاني بعنوان (الطنطورة).
أثار نشر التقارير السابقة غضب الجنود القدامى في (لواء الكسندروني)، وقاموا على الفور برفع قضية قذف وتشهير ضد (تيدي)، وكان الهدف الأساسي من ذلك هو السعي لتجريد الأطروحة من صحتها، وتجريد الكاتب من أهليته الأكاديمية، وبدء باقي جنود اللواء في الضغط على زملائهم الذين سبق لهم التسجيل مع (تيدي) والاعتراف بما ارتكبوه من مجازر ، بالتوجه للقضاء وإنكار كافة ما سبق لهم الإدلاء به، وقد كان لهم ما أرادوا، وبمساعدة من إدارة الجامعة تم اتخاذ العديد من الإجراءات السريعة في حق (تيدي)، وطلب منه أن يقوم بتسليم تسجيلات المقابلات إلى المحامي الخاص بالجنود.
وبدلاً من السعي للتحقق من صحة ما جاء في تسجيلات الأطروحة، أصبح الهدف هو إنكارها دون بيّنة، بل والقضاء على مستقبل مؤلفها، عن طريق التمسك ببعض التناقضات الواردة فيها، سببها وجود كلمات أو عبارات غير واضحة في التسجيلات الخاصة بـ القرويين الفلسطينيين نتيجة لكبر السن، وعلى الرغم من كون هذه التناقضات قليلة العدد، وتكاد تكون هامشية عند مقارنتها بالأحداث الخاصة بالمذبحة، إلا أن المدعي العام في المحكمة، واللجنة الخاصة بالجامعة اعتبرت ذلك تلفيقاً للحقيقة يُسقط صحة الأطروحة بشكل كلي.
بعد جلسة المحاكمة الأولى تعرض (تيدي) لضغط كبير من قبل أفراد عائلته، والمحامي الخاص به، والمحامي الموكل من قبل الجامعة، من أجل التنازل عن القضية لصالح جنود (لواء الكسندروني)، مما اضطره للتوجه لمكتب المدعي العام، وكتابة رسالة اعتراف مفادها أنه قام باختلاق الأدلة التي وردت في الأطروحة الخاصة به فيما يتعلق بـ مذبحة (الطنطورة)، ولكنه تراجع عن ذلك معرباً عن ندمه بعد مرور (12) ساعة فقط من كتابتها، وقد قوبل هذا التراجع بالرفض من قبل قاضي المحكمة، بل وطُلب منه القيام بتقديم اعتذار علني عما قام به، واُلزم بدفع كافة التكاليف الخاصة بالمرافعات القضائية، ولكن ذلك زاد من تمسك (تيدي) بموقفه مما نتج عنه رفع القضية للمحكمة العليا التي أبقت الوضع على حاله.
قامت الجامعة ببذل الجهد الأقصى من أجل تجريد (تيدي) من أهليته، وأزيلت الأطروحة بشكل علني من مكتبة الجامعة، في رسالة واضحة، شديدة اللهجة لمصير كل من يحاول تحدي الرواية الصهيونية في عمله الأكاديمي مرة أخرى، كما تعرض لهجاءٍ شديد اللهجة من قبل العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية مثل صحيفة (هآرتس) الليبرالية، والعديد من المؤسسات الأكاديمية، ووصل الأمر في البعض منها حد اتهامه بالخيانة، ونتيجةً لذلك أصيب (تيدي كاتس) بسكتتين دماغيتين جعلتاه ملزماً بالجلوس على كرسي متحرك ما بقي من حياته.
وثائقي الطنطورة
أثناء عمله على فيلم يتناول حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، قرر المخرج الإسرائيلي (ألون شفارتس) أنه من الضروري أن يقوم بدراسة الأحداث التاريخية بشكل أكثر عمقاً، وبعد قراءة العديد من الدراسات التي تناولت أحداث النكبة وما جرى في قرية (الطنطورة) في العام (1948م)، قرر (شفارتس) التواصل المباشر مع (تيدي كاتس)، الذي قام بدعوته للحضور لمنزله وسلمه كل الوثائق والتسجيلات الصوتية التي حصل عليها خلال سعيه للحصول على الماجستير منذ (24) سنة.
قرر (شفارتس) إعادة إحياء الصورة مرة أخرى، وتوثيق اعترافات ما تبقى من جنود (لواء الكسندروني) -الذين وصلت أعمارهم إلى ما فوق التسعين- بالصوت والصورة، في البداية -عند مواجهة الجنود بوقائع المجزرة- كان الإنكار الشديد هو اختيارهم الأول، مما اضطر (شفارتس) إلى أن يقوم بإسماعهم اعترافاتهم الصوتية التي كانت بحوزته، ولم يجد الجنود في النهاية حلاً سوا التسليم بحقيقة الوارد في التسجيلات الصوتية الخاصة بـ(تيدي).
بدأ الأمر بذكر كل منهم واحدة فقط من الجرائم التي اُرتكبت خلال سعيهم للسيطرة على (الطنطورة)، ثم تطور الأمر بذكر عدد كبير المجازر التي اُرتكبت خلال أقل من (48) ساعة، وقد كان مبررهم لذلك أن انتصارهم في هذه الحرب، سيمكنهم من تأسيس الدولة الخاصة بهم، مما جعل لدى الجميع الاستعداد والقابلية للقتل، فذلك ما دربوا وربوا عليه، بل إن واحداً من الجنود عبّر عن القتل بكونه فعلاً «جيداً» يستحق الحفاوة!!
عندما سأل المخرج واحداً من جنود اللواء إن سبق له التحدث بالأفعال التي قام بها خلال اقتحام (الطنطورة)، كان رد المجند هو النفي القاطع، فسأله (شفارتس): «ولا حتى زوجتك التي قضيت معها معظم حياتك؟» فأجاب المجند: «بالطبع لا، ما الذي يمكن أن أخبرها به، أنني كنت قاتلاً»!!
بالإضافة إلى شهادات الجنود، تناول الفيلم رواية أربعة من المستوطنين الإسرائيليين –الذين كانوا سكاناً لأحد المخيمات الواقعة بالقرب من القرية- عن الكيفية التي أصبحوا بها من سكان قرية (الطنطورة)، فبعد خروج سكان القرية الأصليين منها، وانتهاء المجازر وإخفاء الأدلة، ومرور أسبوعين من إعلان (دافيد بن غوريون) عن قيام الدولة، وصلتهم التعليمات بالدخول إلى القرية، والبدء في الاستقرار في منازلها، وتحويلها إلى مساكن خاصة بهم، وهو ما قد كان دون محاولة منهم لفهم ما الذي حصل لسكان القرية الأصليين، وعندما سألهم (شفارتس) عن رأيهم في الأقوال التي تفيد بارتكاب مجزرة في (الطنطورة) قبل تمكنهم من الدخول إليها، كانت إجابتهم بين النفي، وعدم التصديق لإمكانية أن يكون الأمر واقعاً، أو أن تكون قوات جيشهم قد قامت بارتكاب مثل هذا الفعل!!
في الجزء الأخير من الفيلم تناول حكاية (تيدي كاتس) ورسالته للماجستير التي كانت بداية توثيق ما ارتكب من مجازر خلال اقتحام (الطنطورة)، وقد عبّر (تيدي) عن ما يشعر به قائلا:
«طوال حياتي كنت أفكر، ولا زلت إلى اليوم أفكر بأن أساس المأساة، أو ما يمكننا أن نسميه بأساس الدنس، كان حرب عام (1948م)، فحتى اليوم الغالبية العظمى لأحداث ذلك العام، لا يتم اخفاؤها فحسب، بل يتم السعي بشكل حثيث لإبادتها بشكل كلي».
وقد أجرى (شفارتس) مقابلة مع القاضية التي قامت بالحكم في القضية الخاصة بـ(تيدي)، وسألها عن مدى معرفتها الفعلية بالأحداث التي وقعت في (الطنطورة) خلال عام (1948م)، فأجابت بأنه لم يكن لديها أي معلومات عن ذلك خلال فترة المحاكمة، أما في الوقت الحالي فقد أصبح الجميع يدرك الحقيقة، فسألها المخرج عن مضمون تلك الحقيقة، فكانت الإجابة بأنه لم تحدث أي مجزرة في القرية خلال تواجد قوات (لواء الكسندروني) بداخلها، وقد استدلوا على ذلك من خلال التضاد الوارد في شهادة (تيدي) والتي ذكرت أن الجنود قاموا بوضع رجال القرية أمام «جدار» ثم قاموا بتصفيتهم، بينما كانت رواية الجنود هي أن السكان تم وضعهم أمام «الأسوار الشائكة»، أو في داخل «براميل» قبل القيام بقتلهم، مما جعل رواية تيدي –المقتبسة من شهادة السكان الفلسطينيين- غير واقعية، وتنافي الحقيقة!!
وعند سؤالها عن سماع اعترافات الجنود التي قام (تيدي) بتسجيلها، أنكرت معرفتها لوجودها من الأصل، فعرض عليها (شفارتس) سماعها، وكان التعليق أنه إذا ثبتت صحت هذه الأقوال فإن أٌقل ما يمكن وصفها به هو العار، وأنه كان من المفترض على (تيدي) أثناء المحاكمة تقديم هذا الدليل لإثبات صحة موقفه، وأن ذلك بالتأكيد كان سيغير من مسار المحاكمة.
يتناول الفيلم عدداً من التفاصيل الأخرى، مثل أحدث النكبة من خلال آراء عدد من أساتذة التاريخ، وعندما سُئل المخرج الإسرائيلي الصهيوني (ألون شفارتس) عن ما إذا كان الفيلم قد عرض كافة الشهادات التي تم تسجيلها، كان رده بالنفي، فخلال التحضير للفيلم تم تسجيل ما يزيد عن (200) ساعة، لم يعرض منها خلال الفيلم سوى (90) دقيقة فقط، وعند سؤاله عن شعوره تجاه ما قام باكتشافه قال:
«إن المجتمع الإسرائيلي الصهيوني يصعب عليه بشدة الاعتراف بأنه سبب النكبة، ولكن عند الاستماع إلى شهادات حقيقية تزيد مدتها عن (100) ساعة تدرك أهمية الحدث التاريخي بشكل أكبر، وهو حدث يدعو إلى الحزن، أرغب في البكاء بسببه، فنحن المسؤولون عن دمار قرية كاملة وتهجير سكانها، وأنا أعتقد أن هذا الفيلم شديد الأهمية بالنسبة للإسرائيليين واليهود، بالإضافة إلى العالم العربي أيضا، والعالم أجمع، وأتمنى أن يساهم هذا الفيلم في فهم الناس لكوننا نحن الإسرائيليون واليهود ملزمون بالاعتراف بهذا الفصل من التاريخ».
في النهاية.. فإن ما جرى مع “تيدي كاتس” لم يكن حدثاً استثنائياً، أو أمراً عابراً، فقادة الكيان الصهيوني حتى يومنا الحاضر ما زالوا يبذلون أقصى جهودهم في إنكار مجازر النكبة في العام (1948م)، ومما يثبت ذلك أنه بعد مرور (40) عاماً من النكبة، وفي عام (1988م) كان من المفترض الإعلان عن مختلف الوثائق السرية الموجودة في الأرشيف الإسرائيلي المرتبطة بأحداثها، وهو الأمر الذي رفضه قادة الكيان بشكل قاطع، بل وقاموا بوضع شروط تحدد نوعية الوثائق التي سيتم الإفراج عنها، فأي وثائق تثبت وقوع تهجير للعرب، أو حدوث تصفية للمجتمعات، أو أعمال عنف تتنافى مع اتفاقية جنيف، أو مؤشرات على عمليات اغتصاب، أو سرقة، أو نهب يحظر بشكل قطعي خروجها من الأرشيف الإسرائيلي.
ويرجع السبب وراء ذلك أن النكبة كانت الأساس الذي قام عليه الكيان الصهيوني، وقد سعى (دافيد بن غوريون) منذ البداية إلى ترسيخ الفكر القائل بأن القرى الفلسطينية كانت خالية بشكل كلي عندما قدم إليها المستوطنون اليهود، وأن ذلك كان بناءً على توجيهات وأوامر حصلوا عليها من قادتهم، وليس بسبب أعمال عنف أو تهجير قسري اُرتكبت على يد الجنود الإسرائيليين، ولذلك فإن أي تشكيك في هذه الرواية أو محاولة لإثبات عكسها، هو تشكيك في شرعية وحقيقة الكيان في الأصل، ولا يسري هذا التقييد على العالم الخارجي فقط، بل يسري على اليهود الصهاينة أنفسهم قبل الجميع، فيمكن لأي منهم أن ينكر أو يعترض على أي من أفعال وحروب الجيش الإسرائيلي، لكن تبقى أحداث النكبة حداً فاصلاً لا يمكن تجاوزه.
الوحشية الصهيونية لا تخفى على كل ذي بصيرة، أو من في قلبه بعض حياة، أو حتى بعض بقايا من الإنسانية، لكن واقعنا يطفح بكثير ممن انطمست بصيرتهم، ومُسخت فطرتهم، وانسلخوا من كل قيم وأخلاق بشرية، فيُقيّض الله من بني إسرائيل، وليس من غيرهم، من يفضح جرائمهم ويكشف وحشيتهم ويُعرّي أكاذيبهم.
قد لا تكون مجزرة الطنطورة أكبر جرائم الاحتلال الصهيوني ولا أبشعها، ولكن عودة الحديث عنها مرة أخرى، يضيف ندبة أخرى دامية لا تُمحى في الوجه البشع للصهاينة المحتلين، عسى أن يفيق المحبين للقتلة الصهاينة ويسارعون فيهم.
نختم بثلاثة مشاهد من وثائقي الطنطورة تكشف لنا عن بعض الوجوه القبيحة للقتلة المحتلين.
المشهد الأول.. (يوسف ديامانت) جندي صهيوني من لواء الكسندروني الذي شارك في المجزرة، يقول: «لقد كانت الطنطورة قرية غنية، بيوت جميلة، يعيشون كما الأوربيون، والنساء كن يرتدين ملابس أنيقة»!! وهو ما ينفى أكذوبة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!! ويقول: «قتلناهم وأحرقناهم أحياء واغتصبنا النساء، كان ذلك مريعا، ممنوع أن أتحدث عن ذلك، لأنه سيكون فضيحة كبرى»!!
المشهد الثاني.. بعض العجائز اليهود الذين حضروا المجزرة وسكنوا القرية بعد إبادة أهلها، تم سؤالهم: «ماذا لو أقيم نصب تذكاري لتخليد ذكرى الذين قُتلوا في الطنطورة؟»
المشهد الثالث.. (آدم راز) مؤرخ إسرائيلي في معهد “عكفوت” يكشف بالوثائق كيف أن دولة الكيان المختل، تخفي وتدمر كل الأدلة الرسمية التي تؤكد ارتكاب المجازر الجماعية للفلسطينيين، لكي تحافظ على «أسطورة الدولة والجيش الأكثر أخلاقية في العالم»!! وهذا كذب وتزوير للحقائق.
هوامش
- توثيق مؤسسة الدراسات الفلسطينية (Institute For Palestine Studies) لعدد من شهادات الناجين من مجزرة قرية الطنطورة في العام (1948م) يمكن الاطلاع عليها من خلال الرابط التالي.
- لقاء حواري مع المخرج الإسرائيلي (ألون شفارتس) تناول فيه تفاصيل فيلم (الطنطورة) يمكن مشاهدته من خلال الرابط التالي.
- إثبات مواقع المقابر الجماعية في (الطنطورة) من خلال رواية أحد الناجين يمكن مشاهدتها من خلال الرابط التالي.