كل ما يجب أن تعرفه عن اتفاق دايتون للسلام

بدأت حرب البوسنة سنة 1992م بعد أن أعلنت البوسنة استقلالها عن يوغسلافيا، وكانت هذه الحرب من حروب تفكك يوغسلافيا، دارت الحرب بين الصرب والكروات والبوسنيين، قاد القوات البوسنية رئيس البوسنة علي عزت بيغوفيتش رحمه الله، وقد شارك في هذه الحرب العديد من المجاهدين العرب بجانب البوسنيين، والذين سطروا بدمائهم ملاحمَ كتبوها بالدم ليثبتوا للعالم أن الأُخوَّةَ هي أُخوَّةُ الإسلام، وأن المسلم أخو المسلم بغض النظر عن لونه وعرقه وقوميته، انتهت الحرب سنة 1995م بعد أن شهد العالم أبشع أعمال التنكيل والتعذيب والقتل من قبل الصرب، انتهت الحرب باتفاق دايتون للسلام المريب، بعد نجاح المساعي الأميركية والأوروبية والروسية في دفع أطراف النزاع -خاصةً الصرب- إلى الذهاب إلى مفاوضات سياسية انتهت بتوقيع اتفاق دايتون هذا.

كنّا قد ذكرنا نبذةً عن هذا الاتفاق في تقريرنا السابق وسنورد هنا بعضًا من التفصيل .

ما أسباب اتفاق دايتون المريب؟

يوجد العديد من الأسباب لهذا التحرك الأمريكي الغير بريء قطعاً بهذا الاتفاق – خاصةً وقد كان موقف أمريكا في بداية الحرب موقف المتفرج –  من بين تلك الأسباب سببان رئيسان هما:

1- قرار مجموعة الاتصال الإسلامية والتي ضمت كلًا من: مصر وتركيا وإيران وماليزيا وباكستان والسنغال والمغرب بعدم الالتزام بقرار الأمم المتحدة بحظر توريد السلاح للبوسنة، والعمل على توريده لمسلمي البوسنة، وكان هذا القرار بعد المجزرة البشعة سربرنيتشا.

http://gty.im/173277258

2- تمكن الجيش البوسني من استرداد كثير من الأراضي البوسنية، و إنجاز تقدم واضح على قوات الصرب، وبخصوص هذا السبب الذي ذكرناه، يقول جميل رافائيل – أحد المتخصصين في شئون البلقان وأحد المشاركين في الحرب – :

” فعندما أصبح المسلمون أقوياءَ، قامت الولايات المتحدة بالإعداد لاتفاق دايتون، لأن المسلمين أصبحوا أقوياء، واستعجل الأمريكان في توقيعه، لأن المسلمين لم يبقَ أمامَهم إلا أيام ليسيطروا على مدينة بنيالوكا.. بنيالوكا هي عاصمة صرب البوسنة، وكان بإمكانهم خلال أسبوع السيطرة عليها، فأنذروهم وأرغموهم على وقف جيوشهم على بُعد-أظنُّ- نحو 40 كيلو مترًا عن مدينة بنيالوكا، وأنا شاهد على هذه القضية”.

كيف أجحف الاتفاق بحقوق مسلمي البوسنة؟!

جاء اتفاق دايتون بشقين من الاتفاق، شق عسكري وشق مدني، الشق العسكري أوقف القتال، ولم ينهِ الحرب، فبِوَقف القتال قُصِمَ ظهر الجيش البوسني وأُوقف زحفه لاسترداد باقي المناطق من أيدي الصرب والكروات، وكان ذلك في صالح الكروات والصرب 100%، لأن كلًا منهم مسيطرٌ على قرابة ثلثي أرض البوسنة، أما الجيش البوسني فقد استطاع استرداد ثلث أراضي البوسنة فقط أثناء مجريات الحرب حتى انتهاء الأعمال القتالية بين الطرفين.

الشق العسكري كان في صالح الصرب وكذلك الكروات، لأنه حَفِظَ لهم مكاسبهم، ولم يُنصف المسلمين، فجاء المسلمون ووافقوا على الاتفاق باعتبار أن الشق المدني سيعوضهم عن الشق العسكري.

هل عوض الشق المدني للاتفاقية البوسنيين ما فقدوه في الشق العسكري؟!

ونصت الاتفاقية على خمسة عناصر رئيسة هي:

  1. الالتزام بوحدة أراضي البوسنة.
  2. تقسيم البوسنة إلى قسمين: أحدهما ذو طابع فيدرالي للمسلمين والكروات، والثاني جمهورية للصرب.
  3. يحصل المسلمون والكروات على ثلثي مقاعد البرلمان، والثلث الثالث للصرب.
  4. الحكومة المركزية هي المسئولة عن السياسة الخارجية وقضايا المواطَنة والهجرة.
  5. عودة اللاجئين الذين شردتهم الحرب.
%d8%ae%d8%b1%d9%8a%d8%b7%d8%a9-%d8%ad%d8%af%d9%88%d8%af-%d8%af%d8%a7%d9%8a%d8%aa%d9%88%d9%86


يحكم البوسنة طبقًا للاتفاق مجلس رئاسي بدلًا من رئيس واحد، ويضم المجلس 3 رؤساء: أحدهم يمثل المسلمين، وآخر الكروات، و يجري انتخابهما من قبل سكان اتحاد البوسنة والهرسك، أي فيدرالية المسلمين والكروات، أما الثالث فهو صربي ينتخبه سكان جمهورية الصرب، مدة المجلس الرئاسي 4 سنوات ويتولى أعضاؤه الثلاثة الرئاسة بالمداورة لمدة 8 أشهر لكل منهم، فيترأس كل منهم البلاد مرتين.

جاءت الاتفاق متناقضاً مع نفسه، فكيف الالتزام بوحدة أراضي البوسنة، وكيف تقسيم البوسنة إلى قسمين!! بالإضافة إلى ذلك، فقد فرض ذلك المخطط نظامًا حكوميًّا معينًا في البوسنة، يستهدف بل يضمن ركودًا مستمرًّا سواءٌ على المستوى الاقتصادي أم المستوى السياسي، كما يضمن إضعاف النفوذ السياسي لدى المسلمين. فبالرغم من أن المسلمين يشكلون معظم سكان البوسنة، فإن الصرب والكروات لديهم أصوات متساوية مع أصوات الغالبية المسلمة.

ولمِا في هذه الاتفاقية من إجحافٍ في حق المسلمين، ومكاسبَ للصرب لم تكن تحلم بها، قرر صرب البوسنة رفض أي تغيير في اتفاق دايتون، ويصرُّون على البند الرابع في الاتفاق الذي يحيل أي تغيير لاتفاق داخلي، بين الكيانين الصربي والفيدرالي، و من ثم يرفضون فرض أي اتفاق لإصلاح دايتون.

لم يكن اتفاق دايتون سلامًا عادلًا، فقد أدى إلى إعطاء الصرب نصف مساحة أراضي البوسنة، وإلى منح الكروات 26%. وبهذا، لم يَتَبَقَّ للمسلمين في نهاية الأمر سوى ربع مساحة أرضهم، باختصار إن “مخطط السلام” الأمريكي أجحف بحقوق المسلمين الذين يُشَكِّلون قرابة نصف سكان البوسنة.

يا تُرَى ماذا كان الضمان لتطبيق اتفاق دايتون؟!!

إتفاق دايتون

مُنِحَت سلطات عليا وغير محدودة لممثلٍ سامٍ للمجموعة الدولية يُقيم في سراييفو، وله الحق في اتخاذ أيّ إجراء لضمان الاستقرار والتمثيل المتوازن للعرقيات المكوِّنة للاتحاد، كما له الحق في عزل كبار المسؤولين وسن وفرض القوانين، وتعمل تحت إمرة هذا المسؤول الدولي قوةٌ أوروبيةٌ من ستة آلاف فرد!!!

و وُّقِع رسميًّا على الاتفاق يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 في العاصمة الفرنسية باريس، وكخطوةٍ تطبيقيةٍ أولى نُشر ستون ألف عسكري من قوات حلف شمال الأطلسي( الناتو) في البوسنة لضمان الاستقرار وتوفير مناخ ملائم لتنفيذ الاتفاق، فوجود القوات الأجنبية هو ضمانة فقط لوقف القتال.

بعد اتفاق دايتون : هل حُلّت مشكلة اللاجئين وعاد البوسنيون إلى ديارهم؟

سُئل نجيب شاكر بيه – سفير البوسنة وصديق بيجوفيتش المقرب ورفيق زنزانته منذ أيام الشباب – في حوار أجراه موقع iviews  عمّا كان يقصده بيجوفيتش حينما قال: “إن المجتمع الدولي يدفع بالأمور في البوسنة إلى الأمام… على حساب الشعب المسلم”.

وجاء رد شاكر بيه يقول: “أن المجتمع الدولي لم يستخدم سلطته في إرجاع اللاجئين المسلمين إلى منازلهم في المناطق التي احتلها الصرب والكروات في البوسنة، الأمر الذي أدى إلى تدعيم حرب التطهير العرقي/ الإثني على حساب المسلمين، وبينما نجد الصرب والكروات يتجولون بمنتهى الحرية في أراضي المسلمين، نجد على الوجه المناقض وضع المسلمين في الأراضي الكرواتية والصربية يعكس الذل والهوان”.

المجاهدون العرب : ماذا كان مصيرهم بعد الاتفاق؟

لقد نص اتفاق دايتون ضمن بنوده على حل كتيبة المجاهدين العرب- الذين شاركوا في الحرب مع مسلمي البوسنة ضد الصرب- وإخراجهم من البوسنة، وهو ما حدث بالفعل ، ولم يبق في البوسنة سوى من تزوج من بوسنية وله منها أطفال ، ولا يستطيع العودة لبلاده لأن نظامها السياسي يعدُّه ارهابيًا، ما دام شارك في الحرب التي فُرضت على المسلمين في البوسنة. فلِله دَرُّ مجاهدٍ خرج بماله وعتاده، لا لشيء إلا لنصرة إخوان العقيدة من البوسنيين الذين قد تخاذل في نصرتهم بلدانُ المسلمين، فما يكون جزاؤه بعد الحرب من حكام بلاده إلا نعته بالإرهاب!! فلله دَرُّه حقًا!!

وقد دافع الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش – رحمه الله – بكل شجاعة وحزم عنهم طيلة فترة حكمه، دافع عنهم – أي المجاهدين العرب-  في وجه الضغوطات ، وأعطى الكثير منهم الجنسية البوسنية، ورفض تسليم أي منهم لأي جهة كانت وباسم القانون، لأنه لا توجد أدلة على تورطهم في أي أعمال ارهابية أو ما شابهها، لكن رحيل الرجل المفكر والسياسي غيَّر الأوضاع في البوسنة .

علي عزت بيجوفيتش3

بعد وفاة بيجوفيتش – رحمه الله- انتهزت القوى المناهضة للعرب، وهي الصرب والكروات وبعض الجهات الدولية مثل نائب المبعوث الدولي بالبوسنة رافي غريغوريان، فرصة موت القائد المدافع عن العرب طيلة فترة حكمه، فكونوا لجنةً لسحب الجنسية البوسنية من العرب الذين حصلوا عليها خلال وبعد الحرب.

وقد كُوِّنت اللجنة في نهاية 2005 م لمراجعة نحو 1500 شهادةِ جنسيةٍ سُحِب نحوُ 700 شهادة منها حتى الآن، ولم يسلم من ذلك حتى الشهداء، بل كانوا معينين بالدرجة الأولى و من هذا فالقضية لا تتعلق بالارهاب، وإنما الانتقام والتشفي من الدور الذي قام به المجاهدون في الحرب.

قال الناطق السابق باسم المجاهدين العرب أبو حمزة السوري لموقع ” المسلِم” وذلك قبل اعتقاله وإيداعه في سجن لوكافيتسا بمناطق صرب البوسنة، قال :

 “سُحِبَت الجنسية حتى من الذين انتقلوا إلى لقاء ربهم وهم يحملون أجسادهم المثقلة بجراحهم ودمائهم التي قدموها قرابينَ لله تعالى؛ لمساعدة إخوانهم المسلمين في حرب الإبادة التي تنكر فيها الغرب لهم، ولم يقف معهم إلا إخوانهم من الدول الإسلامية والعربية”.

ما هو مصير مسلمي البوسنة الآن؟

القارئ لما حدث لأهلنا من مسلمي البوسنة في حرب 1992م، وتأثيرات هذه الحرب عليهم في أثناء الحرب، سيجد أنهم كانوا في غفلة قبل هذه الحرب، غفلة عن دينهم، فقد كان هناك من المسلِمات من تزوج بنصارى الصرب والكروات وهن مسلمات!!، تيقَّظ مسلمو البوسنة بهذه الحرب، وقرروا الرجوع إلى دينهم مرة أخرى وإلى التمسك بسِرّ عزة المسلمين متى تمسكوا به، فاستطاعوا أن يجتازوا محنتهم، ولكن أنّى للغرب وأمريكا أن يسمحوا بهذا!! أنّى لأمريكا والغرب أن يسمحوا لدولة مسلمة في أوربا أن تقوم!! كان اتفاق دايتون من المكبلات التي فرضت على البوسنة اتجاهاً معيناً لا تحيد عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الآن عادت العلمانية وبقوة في المجتمع البوسني، لكن على ما يبدو أن بها لمحةً أتاتوركيةً من ناحية القضاء، فقد أصدر القضاء حكمه في (فبراير الماضي) بحظر ارتداء الحجاب وكل الرموز الدينية في المؤسسات القضائية، والرموز تعني ما يصنِّف أتباعَه ويُعرفون بتدينهم “كالصليب المسيحي-والطاقية اليهودية-والحجاب الإسلامي” وهو ذات القرار الذي اتخذ في فرنسا وبعض دول أوروبا منذ سنوات، وبسببه احتشد المسلمون في الشوارع احتجاجًا على ما أسموه “بالقمع للدين”.

وكذلك من خلال التعنت في بناء المساجد والمراكز الإسلامية، فقد جاء على لسان مفتي مدينة مستار الشيخ سعيد سمايكيتش قوله : ” منذ 10 سنوات ونحن ننتظر الموافقة على بناء المركز الإسلامي”.

فالبوسنة والهرسك التي ارتبط اسمها بالجهاد جاء اتفاق دايتون وما بعده بما لا تشتهيه الأنفس، فأصبح هذا حالها.. أصبحت كالشيشان التي جاهد من أجلها أهلُها ثم فُرِض على شعبها العلمانية والولاء لروسيا. في النهاية، الوضع تغير في البوسنة، فلم تعد قيم الإسلام التراثي حاضرةً في الوعي الأممي للبوسنيين.

لقد تآمرت على البوسنة قوى البغي الشريرة حتى لا تقوم دولةٌ مسلمةٌ في أوروبا، دولةٌ تجسد العطاء الحضاري للإسلام في هذا الجزء من العالم، فكانت النتيجة ما نراه من حال البوسنة المؤلم اليوم.

كلمة أخيرة

فمما سبق يمكننا القول أن الاتفاقات الدولية التي يكون أحد طرفيها دولة مسلمة، يُفرض على المسلمين الخضوع لها والالتزام بها، يُلزَمون بها حتى وإن كانت مجحفةً هاضمةً لحقوقهم مقابل وعود خادعة وكاذبة، وما اتفاقات دايتون وأوسلو وكامب ديفيد عن ذلك بعيدةٌ، فالحال المزري الذي وصلت إليه البوسنة اليوم؛ ما هو إلا نتاج اتفاق دايتون، وما حال فلسطين الحبيبة بعد أوسلو وحال مصر بعد كامب ديفيد بأقل سوءاً من البوسنة اليوم.

المصادر

عمّار إسماعيل

المستقبل ليس سيناريو مكتوبًا وعلينا فقط أن نقوم بتمثيله؛ بل هو عمل يجب أن نصنعه… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى