مسلمو البوسنة وتاريخ من المعاناة
ينحدر شعب البوسنة والهرسك من العرق السلافي، وخلال الحكم العثماني (1463م-1878م) أسلم جزء من البوسنيين أُطلق عليهم اسم البوشناق، وقد أخذوا كثيرًا من حياة الأتراك وطبائعهم، وخاصة أن الأتراك هم النافذة الأولى التي أطلوا منها على الإسلام.
ومع ضعف الدولة العثمانية، احتلت قوات النمسا والمجر أراضي البوسنة، وعانى المسلمون كثيرًا في ظل هذا الاحتلال من عمليات التنصير والاضطهاد، ولم يرضخ المسلمون في البوسنة لهذه الممارسات الوحشية بل ثاروا على الحكم النمساوي عام (1900) بزعامة (علي فهمي جابيج) واستطاعوا أن يحصلوا على الحكم الذاتي في الجوانب الدينية عام (1909).
وقد تعرض مسلمو البوسنة في الحربين العالميتين (الأولى والثانية) إلى أشد حالات التعذيب والاضطهاد من جانب المسيحيين الأرثوذكس، كما تعرضوا أيضًا لأشد درجات العنف من المسيحيين الكاثوليك بعد الحرب العالمية الثانية على يد اليوغسلافي (تيتو) الذي قضى على أكثر من ربع مليون مسلم في الفترة من (1941-1945). ومع أنه سبق وأن وعدهم في حالة وقوفهم بجانبه في حرب التحرير الشعبية اليوغوسلافية-التي تكونت على إثرها دولة يوغسلافيا من أعراق البوشناق والكروات والصرب-وعد البوسنيين أن يمنحهم حقوقهم الدينية، فإنه وفور توليه الحكم صادر كل أوقافهم الإسلامية، وأغلق كل مساجدهم، وراح يحولهم من مواطنين أصليين إلى لاجئين، وطردهم خارج حدود الدولة.
واستمرت معاناة المسلمين البوسنيين من الاضطهاد والتضييق عليهم في ممارسة شعائرهم في يوغسلافيا-أبرز مؤيدي السوفييت-إلى أن انهارت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق، الأمر الذي هز كيان الشيوعية في أوروبا الشرقية كلها، بما فيها الاتحاد اليوغوسلافي، مما دفع المجلس النيابي الأول للأقليات الإسلامية في جمهورية يوغوسلافيا في أبريل (1990) إلى الإعلان عن دستور للمسلمين ينضم إليه جميع المسلمين في يوغوسلافيا.
جزء من معاناة مسلمي البوسنة أثناء حرب البوسنة
فكرت البوسنة في أن تستقل بنفسها عن الاتحاد اليوغوسلافي على غرار الصرب والكروات، اللذان أرادا الاستقلال أيضًا عن يوغسلافيا، إلا أن صربيا ساندت مواقف صرب البوسنة في عدم الانفصال باعتبار أن المسلمين هم في الأصل من الصرب، واعتنقوا الإسلام خلال الحكم العثماني، وهذا الانتماء الديني المخالف لعقيدة صربيا (الأرثوذكسية) لا يستوجب إعطاء المسلمين الحكم الذاتي في يوغوسلافيا، ومن هنا بدأت الكارثة المسماة بحرب البوسنة بين الصرب والمسلمين.
لقد ذاق مسلمو البوسنة والهرسك أبشع أنواع التعذيب التي لم يشهد التاريخ مثلها من قبل على يد القوات الصربية، لدرجة أن جملة النساء المسلمات اللائي اغتصبن في العام الأول من حرب البوسنة والهرسك قد بلغت (50) ألف فتاة بحسب مصادر، وكثيرًا ما كان يجري هذا الاغتصاب بصورة جماعية، إضافة إلى ذلك أُزهق في هذه الحرب أكثر من 250,000 روح مسلمة، وقُتل 20,000 طفل، و8,000 مختفٍ قسريًا، وأكثر من مليون لاجئ مسلم، وهُدِّمت مئات المساجد والمنشآت الإسلامية من مدارس شرعية ومبان للمشيخة الإسلامية والأوقاف، كما أن الخسارة المالية تقدر بحوالي 300 مليار دولار.
ولم تدلل تلك الأرقام من المآسي التي عاشتها البوسنة، إلا عن حقد دفين من قِبل الصرب تجاه مسلمي البوسنة، وقد ظهر هذا جليًا في تصريح ” فيليبور أوسكويتش” وزير الإعلام في حكومة الصرب، حيث صرّح والحرب دائرة في البوسنة لوكالات الأنباء بالآتي:
إن الصرب هم حملة لواء الحروب الصليبية الجديدة لإنقاذ أوروبا من الإسلام، وأن بلاده تحارب مؤامرة إسلامية للسيطرة على العالم”، ووصف الوزير الصربي الحرب الدائرة في البوسنة والهرسك بأنها “حرب دينية”!
هنا يأتي سؤال هام على الأذهان ألا وهو: أين كان دور الدول الإسلامية فيما حدث لمسلمي البوسنة؟!!
دور الدول الإسلامية تجاه مآسي البوسنة
إذا كان التصريح السابق تعبيرًا عن الموقف الرسمي الصريح للصرب تجاه المسلمين، فهل كان للدول الإسلامية موقفٌ صريحٌ وواضحٌ ضد انتهاكات الصرب ضد المسلمين!! فالإجابة مع الأسف: لا!!
قامت بعض الدول الإسلامية بالمساعدة المادية بإرسال مساعدات وجمع أموال للبوسنة، وكذلك سحبت بعض الدول سفراءها من بلجراد عاصمة يوغسلافيا الداعم الرئيس لصرب البوسنة، وبالطبع لا يمكن نسيان خطابات الإدانة والقلق والاستنكار من الدول الإسلامية تجاه ما حدث في البوسنة، خطابات الإدانة والاستنكار كالتي نشاهدها اليوم تجاه أي كارثة تصيب بلدان المسلمين!!
كذلك عُقد مؤتمر طارئ لوزراء خارجية الدول الإسلامية في 16 يونيو 1992م بإسطنبول، وقد دعا المؤتمر الإسلامي الأمم المتحدة إلى القيام بدور أكبر من أجل إحلال السلام في البوسنة والهرسك، وأبدى المؤتمر في الكلمة الافتتاحية استعداد الدول الإسلامية لإرسال قوات عسكرية إلى منطقة الصراع في حال طلب الأمم المتحدة ذلك!!!
على إثر المجازر التي حدثت في الحرب، حثّ وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي الأمم المتحدة على بحث اتخاذ إجراء عسكري، إذا فشلت العقوبات الاقتصادية في وقف هجمات الصرب على جمهورية البوسنة والهرسك.
الأمم المتحدة في البوسنة أثناء الحرب
لا أدري أين كان الدور المستقل للدول الإسلامية في ذلك الوقت؟ وهل التحرك العسكري من الدول الإسلامية لنجدة إخوانهم في العقيدة يحتاج إلى طلب من الأمم المتحدة!!
أليس هؤلاء إخوة في العقيدة والدين، ونجدتهم واجب وفرض عين على كل مسلم، أليس ديننا الذي يأمرنا بذلك أم أننا بحاجة إلى موافقة الأمم المتحدة أولًا؟! ألم يقل رسولنا الكريم-صلى الله عليه وسلم -:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
ألم تكن هذه الأمم المتحدة التي قال عنها المتحدث باسم حكومة البوسنة والهرسك:
إن قوات الأمم المتحدة تتغاضى عن الأعمال الوحشية التي ارتكبتها قوات الصرب في العاصمة البوسنية سراييفو مشيرًا إلى أن دبابات الصرب تقصف مطار المدينة بينما يكتفي جنود المنظمة الدولية-الأمم المتحدة-بمتابعة ما يجري دون أن يحركوا ساكنًا.
فماذا كان سيحدث لو أعلنت الدول الإسلامية مُجتمِعةً إرسال قوات عسكرية لمساندة المسلمين في البوسنة؟ أليس كان بإمكان ذلك أن يغير الوضع ويضع حدًا لهذه المأساة التي حدثت؟!
المجاهدون العرب مثال لإخوة العقيدة
وهنا لا نستطيع أن ننكر أن بعض مسلمي العالم الإسلامي قد أثرت في نفوسهم ما شاهدوه وسمعوا بما حدث بالبوسنة، فهبوا ليلبوا نداء الجهاد لنصرة إخوانهم في البوسنة، فقد شارك في هذه الحرب العديد من المجاهدين العرب بجانب البوسنيين والذين سطروا بدمائهم ملاحم كتبوها بالدم ليثبتوا للعالم أن الأخوة هي أخوة الإسلام، وأن المسلم أخو المسلم بغض النظر عن لونه وعرقه وقومتيه، هذا في ظل تواطؤ من الحكومات العربية والإسلامية كالعادة.
مستجدات الحرب: تجريد مسلمي البوسنة من السلاح والحماية
بدأ العدوان الصربي على البوسنة في أبريل 1992م، وبالتالي أصبح فرض عين على مسلمي البوسنة جهاد العدوان الصربي الخسيس، خاصة مع خذلان العالم أجمع تجاه المذابح والمجازر التي حدثت.
بلا شك إن وضع المسلمين في البوسنة قبل الحرب كان الأضعف لأنهم لم يكونوا مسلحين، ولم يكونوا مستعدين، ولم يكن خلفهم أي جهاز معين يمكن أن يمدهم بالمال والسلاح والتدريب، على العكس تمامًا فالصرب كانوا هم المسيطرين على الجيش اليوغسلافي إجمالًا، أما الكروات، فكرواتيا كانت تقف خلفهم وتمدهم بالسلاح، إذن الأضعف كانوا المسلمون، طالب المسلمون بتسليحهم للدفاع عن أنفسهم، فجاءت أوروبا وأميركا والعالم كله ففرضوا حظر توريد سلاح على يوغسلافيا بما فيها البوسنة والهرسك، لكن الصرب تمكنوا من الحصول على سلاح من يوغسلافيا بطرق غير مباشرة، والعالم كله كان يدري بذلك.
طالب مسلمو البوسنة باستثناء المسلمين من هذا الحظر ليتمكنوا من رد الهجمات الصربية الشرسة، ولكن ما من مجيب!! فشلوا في الحصول على السلاح، فطالبوا بالتدخل الدولي لحمايتهم من الصرب، لكن المجتمع الدولي رفض في البداية، فاستمرت الحرب ثلاث سنوات ومئات الألوف من الضحايا البوسنيين، لأن المجتمع الدولي في ذلك الوقت وتحديدًا أميركا-التي كانت بإمكانها أن تقول الكلمة؛ سواء بإلغاء الحظر على المسلمين في البوسنة أو بالتدخل لمنع الصرب من ارتكاب ما ارتكبوه-لم تتقدم بأي شيء.
انتصارات مسلمي البوسنة في الحرب
وكما يقول القائل: كلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت، استطاع مسلمو البوسنة في مقاطعة “بيهاتشي” تكوين نواة جيش للمقاومة تحت إشراف حكومة البوسنة، وحققت قوات المسلمين في البوسنة انتصاراتها رغم افتقارها للأسلحة التي حُظر توريدها لجمهورية البوسنة والهرسك من قِبَل الأمم المتحدة، وتمكن مسلمو البوسنة من استرداد بعض المدن، وعدد كبير من القرى ذات المواقع الاستراتيجية الهامة في البوسنة، ونتج عن هذه الانتصارات حصول المسلمين على المزيد من الأسلحة التي تركها الصرب، منها: الدبابات والمدافع الثقيلة وأسر مئات من جنود الصرب.
على ضوء هذه الانتصارات تغيّرت خريطة النزاع في البوسنة والهرسك، ودخلت المشكلة مرحلة جديدة.. ليكسب المسلمون مساحة كبيرة من تأييد الرأي العام العالمي إلى جانب الأراضي المحررة، وعلى إثر ذلك حددت الأمم المتحدة 6 مناطق آمنة داخل البوسنة يُمنع دخول قوات الصرب إليها، ولكن لم تلتزم القوات الصربية بذلك، وارتكبت مجزرة من أبشع المجازر التي نالت من مسلمي البوسنة وذلك في مدينة “سربرنيتشا“-إحدى المناطق الست الآمنة-في 11 يوليو 1995م. أعلن عقب تلك المجزرة البشعة محقق الأمم المتحدة في انتهاكات حقوق الإنسان استقالته؛ متهمًا الأمم المتحدة بالتخاذل في الدفاع عن البوسنيين.
قرار جريء ومستغرب من مجموعة الاتصال الإسلامية
على إثر مذبحة سربرنيتشا، اتخذت مجموعة الاتصال الإسلامية المكونة من وزراء خارجية كل من: مصر وتركيا وإيران وماليزيا وباكستان والسنغال والمغرب، قرارًا باعتبار الدول الإسلامية غير ملزمة بقرار حظر الأسلحة عن البوسنة. هذا القرار في رأيي قرار شجاع وجريء، ولكنه جاء متأخرًا جدًا وانتظره المسلمون طويلًا، انتظره المسلمون طويلاً لأنه جاء بعد مذبحة سربرنيتشا مباشرةً، ولا شك أن مذبحة سربرنيتشا كانت من البشاعة ما حرّك مشاعر البشرية جمعاء، ولكن أين كانوا من المذابح التي سبقت “سربرنيتشا” والتي حصدت أرواح مئات الآلاف من مسلمي البوسنة وجرحاهم واغتصاب النساء، هل كل هذا كان سرابًا لم يُرَ من قِبَل الدول الإسلامية!! حقًا لا أدري.
اتفاق دايتون وخديعة مسلمي البوسنة
بعد القرار الجريء لمجموعة الاتصال الإسلامية، وعندما بدأ مسلمو البوسنة يقفون على أرجلهم بثبات وبدأ السلاح يصل إليهم بطرق معينة أصبح الأمر مختلفًا، وهنا رأينا التدخل قد حدث من قِبَل الولايات المتحدة-رأس الأفعى-، فقد نجحت المساعي الأميركية والأوروبية والروسية في دفع أطراف النزاع-خاصة الصرب-إلى الذهاب إلى مفاوضات سياسية انعقدت في القاعدة العسكرية “دايتون” بالولايات المتحدة الأميركية بين الأول والخامس والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1995م، حضر المفاوضات الرئيس اليوغسلافي الصربي ميلوزيفيتش والكرواتي توجمان والزعيم البوسني المسلم الراحل علي عزت بيجوفيتش-رحمه الله-.
وأُجبر الزعماء في دايتون على أن يدخلوا إلى القاعدة العسكرية، وقُفلت عليهم الأبواب، ومُنع خروج الرؤساء إلى أن يوقعوا على الاتفاقية، ووقعوا بالفعل.
على كلٍ جاءت اتفاقية دايتون بنصوص غير مرضية للمسلمين، ولكن وقتها قال الرئيس البوسني الراحل عزت بيجوفيتش: إن اتفاقًا غير منصف خيرٌ من استمرار الحرب. فربما تهديد الصرب له بتصعيد المذابح على غرار مذبحة سربرنيتشا هو الذي اضطره للتوقيع على الاتفاق.
هذه نبذة بسيطة عن اتفاق دايتون المؤلم، وفي تقريرنا القادم سنتحدث بالتفصيل عن هذه الاتفاقية مُبيِّنين ظروف وأسباب ونتائج هذا الاتفاق…. فانتظروا تقريرنا القادم قراءَنا الكرام.
المصادر
- كتاب البوسنة والهرسك قصة شعب مسلم يواجه العدوان.
- كتاب البوسنة والهرسك نكبة المسلمين المعاصرة.
- حلقة تلفزيونية بعنوان: البوسنة بعد اتفاق دايتون.