المقاطعة في ماليزيا: قوة المستهلك في مواجهة العولمة والتحديات التنموية

على وقع الأحداث الدامية في قطاع غزة وعلى مدار 15 شهرًا، تحولت شوارع ماليزيا، بعيدًا عن هدير السياسة المعتاد، إلى مسرح يعج بأصوات المقاطعة الشعبية ضد العلامات التجارية المتهمة بدعم إسرائيل، فإعلان مثل إغلاق 50 فرعًا من سلسلة مقاهي ستاربكس في ماليزيا1 خلال الربع الأول من السنة المالية 2025 لم يكن مجرد قرار تجاري، بل انعكاسًا لقوة المواقف الأخلاقية التي تتقاطع مع الاقتصاد والسياسة بشكل عميق.

تمثل هذه التطورات اختبارًا حقيقيًا لمدى تأثير قرارات المستهلك الفردية على كيان الشركات متعددة الجنسيات، تلك التي طالما بدت محصنة أمام تحولات المزاج العام. ولكن الأرقام تثبت العكس، فقد انخفضت إيرادات الشركة المشغلة لستاربكس فى ماليزيا بنسبة 55.4%، لتصل إلى 124 مليون رينجيت ماليزي، مع تسجيل خسارة صافية بلغت 33.68 مليون رينجيت.2

أداة ضغط شعبية فعّالة

المقاطعة في ماليزيا

اللافت أن الأضرار لم تقف عند حدود ستاربكس وحدها، فشركات كبرى أخرى مثل ماكدونالدز وكنتاكي واجهت مصيرًا مشابهًا، مع اضطرار الأخيرة إلى إغلاق أكثر من 100 فرع بشكل مؤقت.3 هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات مالية؛ إنها شواهد على قدرة المجتمعات على فرض إرادتها عبر سلوكيات استهلاكية واعية، خاصة في القضايا التي تلامس وجدانها الجمعي.

لكن، هل يمكن للمقاطعة أن تستمر كأداة أخلاقية ناجحة دون أن تتحول إلى ممارسة عشوائية؟ يرى مفتي الولايات الفيدرالية في ماليزيا لقمان عبد الله، أن المقاطعة يجب أن تتم ضمن حدود أخلاقية وقانونية واضحة.4 ففي وقت تصدح فيه أصوات الرفض، تقع أحيانًا تجاوزات تعكس انقسامات داخل المجتمع، كما حدث مع شتائم طالت زبائن مطاعم مثل ماكدونالدز، ما أثار مخاوف من تسييس المقاطعة محليًا بشكل مفرط.

وعلى الجانب الآخر، يبدو أن الشركات لا تستطيع تجاهل الرسائل الشعبية، ففي مواجهة تداعيات المقاطعة، لجأت شركة ماكدونالدز في ماليزيا إلى تسوية قضائية مع حركة المقاطعة الماليزية Malaysia BDS، أسقطت على إثرها دعوى تشهير كانت قد رفعتها.5 هذا التحرك يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الشركات بضرورة التفاعل مع التغيرات الثقافية والسياسية، بدلًا من مواجهتها بالإنكار أو التجاهل.

أخلاقيات المستهلك تُعيد تشكيل الأسواق

من الناحية الاقتصادية، تثير هذه الحملات أسئلة أوسع حول هشاشة نموذج العولمة الاقتصادية، فالشركات التي بَنَت نماذجها على أساس تحقيق مكاسب عالمية قد تجد نفسها مجبرة على مواجهة تحديات محلية، لا تتعلق فقط بالربح والخسارة، بل بإدارة سمعتها في سوق عالمي شديد التشابك. ومن هنا، يمكن النظر إلى تراجع أرباح ستاربكس على أنه انعكاس لديناميكيات جديدة تبرز فيها “الأخلاق” كعامل مؤثر في قرارات المستهلكين.

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لطالما شدد على أن «الحرية هي القدرة على اتخاذ المواقف التي تعكس القيم»، وهو ما يبدو حاضرًا في هذه الحالة. فاختيار المقاطعة في جوهره، ليس فقط قرارًا استهلاكيًا بل هو تعبير عن موقف سياسي وأخلاقي يحمل رسالة ضمنية بأن القضايا الإنسانية لا يمكن فصلها عن القرارات اليومية.

ورغم كل ذلك، فإن التساؤلات حول استدامة تأثير المقاطعة تظل قائمة، حيث أن التجارب السابقة في ماليزيا تشير إلى أن تأثير الحملات الشعبية قد يكون محدودًا بالوقت والأحداث الراهنة، إلا أن استمرار انخفاض المبيعات وتراجع الخطط الاستثمارية يشير إلى إمكانية تحقيق تأثير أطول مدى.

في السياق ذاته، تحاول الشركات المتضررة التكيف مع الوضع الجديد. هناك تحليلات مصرفية، مثل تلك الصادرة عن مصرف MayBank ترى أن العلامات التجارية المتهمة بدعم إسرائيل قد تواجه صعوبة في استعادة جاذبيتها على المدى الطويل.6 وفي هذا الإطار، يصبح السؤال عن قدرة هذه الشركات على تجاوز الأزمة دون مراجعة سياساتها أو تعديل توجهاتها أمرًا مفتوحًا للنقاش.

دور المستهلك في التحول الاقتصادي

أثر المقاطعة في ماليزيا

التجربة الماليزية في هذا السياق لا تُقدم إجابات نهائية، بقدر ما تُثير مزيدًا من التساؤلات حول دور الفرد في تشكيل الاقتصاد العالمي. هل يمكن للمستهلك أن يُعيد صياغة قواعد اللعبة الاقتصادية من خلال اختياراته اليومية؟ وهل تكون هذه الحملات الشعبية نموذجًا يُحتذى به في دول أخرى؟

الإجابة ليست بالضرورة في متناول اليد، لكنها تحمل الأمل في قدرة المجتمعات على إحداث تغييرات حقيقية، إذا ما تسلحت بالوعي واستندت إلى قيم واضحة. وكما قال المهاتما غاندى: «في قدرتنا على التحكم برغباتنا تكمن قوتنا الحقيقية». ويبدو أن هذه الرغبة، في ماليزيا، قد بدأت تؤتي أكلها.

هامش

  1. Boycott Forces Starbucks Malaysia To Close 50 Stores ↩︎
  2. Starbucks Malaysia operator’s losses continue in 1Q, one year into boycott ↩︎
  3. Local boycott forces closure over 100 KFC stores ↩︎
  4. Don’t go overboard in boycott, mufti says after McD’s threat case ↩︎
  5. McDonald’s Malaysia drops RM6m defamation suit against local chapter of boycott movement BDS ↩︎
  6. Starbucks Malaysia confronts long-term sales decline from anti-Israel boycott ↩︎

عبد الله بوقس

صحفي وكاتب مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى