بيجوفيتش رئيس البوسنة والهرسك المناضل
إن أول ما يخطر ببالنا عند سماع اسم بيجوفيتش هو الكتاب الرائع “الإسلام بين الشرق والغرب ” الذي يعده البعض مرجعًا، لكن الأكثر عدلًا وإنصافًا أن يرتبط اسم بيجوفيتش بالجهاد والنضال في بقعة من أرض المسلمين لم نأبه كثيرًا لها وهي دولة “البوسنة والهرسك”، وكما يقول رئيس العلماء بالبوسنة الدكتور مصطفى تسيريتش: “علي عزت بيجوفيتش كان رجلًا عظيمًا سنذكره باستمرار ليس من أجله، بل من أجلنا نحن، من أجل ماضينا ومستقبلنا، من أجل حقوقنا وحريتنا، من أجل ديننا ووطننا. حقنا في تذكر علي عزت هو حقنا في الحرية. لأن علي عزت بيجوفيتش رحمه الله كان أكثر من رئيس للبوسنة والهرسك، لقد كان رمزًا لتصحيح مسارنا، ولبقائنا، ولذلك هو في الذاكرة دائمًا”. ولنبقيه في ذاكرتنا أيضًا سنتحدث عنه في تلك السطور.
من هو علي عزت بيجوفيتش؟
تعَلمتُ أن سيرة أحدهم لا يجب أبدًا أن تُروَى كقصة نتناولها ونسمعها قبل النوم ونتفاخر بمآثرها؛ ذلك لأننا أمة لم تتربى على خلق الكهنوت وتمجيده، ولا دحر الحق أيًا كان من يحمله؛ لذلك كان من الأفضل إفراد الجزء الأكبر للحديث عن أفكار بيجوفيتش وليس عن شخصه وتاريخه ونشأته. هذا ليس تقليلًا أبدًا من شخصه، ولكن تمجيدًا لأفكاره ومواقفه، فالأفكار هي الأقوى والأطول عمرًا.
نشأته
وُلِد بيجوفيتش في 18 محرم 1344 هـ / 8 أغسطس 1925 في مدينة بوسانا كروبا البوسنية عندما كانت البوسنة جزءًا من يوغسلافيا والتي كانت تحكم من أسرة ليبرالية، ولكن كالعادة تلك الليبرالية المزعومة هي فقط ضمان لحرية الأقوى وأصحاب الأموال وليست للأقليات؛ فمع كون بيجوفيتش من أسرة مسلمة تمتد أصولها للوجود التركي في البوسنة إلا أن ذلك لم يضمن له حق تلقي التعليم الإسلامي في بلده ذات الطابع الليبرالي.
ولعل ذلك ما دفعه مع مجموعة من أصدقائه لتكوين جمعية للمناقشات الدينية أطلقوا عليها اسم “ملادي مسلماني” أي الشبان المسلمين. تخرج بيجوفيتش في جامعة سراييفو فيما تخصص القانون وعمل مستشارًا قانونيًا، عاش بيجوفيتش تحت الحكم النازي الألماني عندما سيطرت النازية على يوغسلافيا، وكذلك تحت الحكم الشيوعي عندما كانت يوغسلافيا جمهورية اشتراكية. ولأن بيجوفيتش لم يكن يروقه تلك الأنظمة الفاشية عارضها كثيرًا؛ مما ضمن له الاعتقال عدة مرات.
لم يعش تلك الحياة السياسية عبثًا فقد تمكن بيجوفيتش من أن يكون أول رئيس جمهوري لجمهورية البوسنة والهرسك، كما أمدته تلك الحياة السياسية بسعة في الأفق وانفتاح على أكثر من ثقافة كثقافة الصرب والكروات الذين كانوا يعيشون معه على أرض يوغسلافيا، مما مكنه من إخراج ذاك العمل الرائع “الإسلام بين الشرق والغرب”. توفي بيجوفيتش في 23 شعبان 1424 هـ / 19 أكتوبر 2003 بعد تاريخ حافل بالنضال والجهاد ضد الكاثوليك والأرثوذكس في حرب البوسنة والهرسك الشهيرة.
عوامل تكوين فكره
1- تعرضه لأكثر من ثقافة ومنهاج للفكر: ولد لأسرة عريقة في الإسلام، كما أنه نشأ في يوغسلافيا تحت الحكم الليبرالي، وعند إعلان والده الإفلاس تلقى التعليم العلماني وعاش في ظل الفاشية النازية، وكرد فعل لتلك النازية زادت الدعاية للشيوعية مما جعله يتأثر بها كثيرًا، كما أنه حضر مدرسة البنين الأولى والتي اشتهرت بكونها مدرسة اشتراكية.
2- إنشاؤه جمعية الشبان المسلمين: زادت هذه الجمعية من تعامله مع مزيد من المسلمين وسماع افكارهم ومناقشتها، كما أنها عرضته للاحتكاك بالسلطات والدخول للحياة السياسية بشكل أكبر وأكثر عمقًا، كما أن تلك الجمعية لم يقتصر دورها على مسلمي البوسنة وحسب، بل امتدت لمساعدة اللاجئين ورعاية الأيتام خلال الحرب العالمية الثانية.
3- حصوله على دكتوراه في القانون وشهادة عليا في الاقتصاد.
4- تعرضه للاعتقال: والذي كان أحد أسبابه نشر عدد من المبادئ الإسلامية والتي وصفت على أنها جرائم “كما يحدث اليوم تحت مسمى الإرهاب”.
أفكاره الناتجة عن تلك العوامل
1- تعرضه لأكثر من ثقافة ومنهاج للفكر: جعله شخص لديه إلمام بكثير من الثقافات حتى إن الجماعة التي كونها كانت تتضمن برنامجًا لبناء الشخصية. مر بفترة من التردد الروحي وصراع مع مبادئ الإسلام التي حملها بالوراثة ومبادئ الشيوعية التي كانت ناجحة جدًا في مواجهة النازية؛ مما جعله يعيد التفكير في إسلامه بطريقة جديدة جعلته يتبنى عقيدته الإسلامية عن رسوخ وإيمان كامل، مكنه من المقارنة بين الثقافات الغربية والشرقية ومدى تفوق الإسلام عليهما وظهر ذلك في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” وأيضًا “الإعلان الإسلامي” -والذي حرفه الصرب فيما بعد ليظهروا للعالم أن بيجوفيتش عبارة عن فاشية جديد- كما أنه صرح بأن ثبات إيمانه نتيجة شكوك الشباب.
2- إنشاؤه جمعية الشبان المسلمين: ترتب عليه فهمه لذلك الواقع السياسي والانخراط فيه بشكل أكبر مما مكنه من بناء علاقته الخارجية مع المسلمين العرب ومساعدته لهم خلال الحرب العالمية الثانية وخلال أكثر فترات التضييق عليه. بناؤه لمسار ثالث لا يخضع لقوانين بلاده وإعلانه عدم الخضوع للخدمة العسكرية تحت حكم تلك الفاشية العرقية؛ فهو لم يردد تلك النغمة “الجندي الغلبان” ولم يقع في قتل أنفس بريئة بحجة “الأوامر”.
3– حصوله على دكتوراه في القانون وشهادة عليا في الاقتصاد: مكنه من العمل كمستشار قانوني لمدة 25 عامًا إلى أن اتجه للكتابة والبحث مما مكنه فيما بعد من الدفاع عن نفسه خلال المحاكمات الوهمية التي تعرض لها أثناء فترة اعتقاله، دراسته للقانون مكنته من فهم عوار تلك الأنظمة البشرية ومدى هشاشتها في مقابل المنهج الحق الذي ارتضاه لنا ربنا، مما عرضه للاتهام بحجة أنه مسلم أصولي.
4- تعرضه للاعتقال: والذي أوضح له حقيقة تلك الأنظمة وطريقتها في الحكم والتي تعتمد في الأساس على المصلحة؛ فعند تعرضه للسجن في المرة الأولى عند نشره لبعض المبادئ الإسلامية لم تحرك تلك الدول ساكنًا ولم يُسمع صوت لتلك المنظمات المسماة حقوقية. بينما عندما تعرض للاعتقال من قبل نفس السلطات الشيوعية لحضوره المؤتمر الاقتصادي في إيران أدين الحكم وبشدة من المنظمات الحقوقية ومن بعض الدول ومعظم مؤسساتها الحقوقية؛ لأن الأمر في هذه الحالة كان متعلقًا بدولة شيوعية اشتراكية يريد الغرب تصويرها على إنها ليست بديل للنظام الليبرالي والرأسمالية، ولكنها نظام فاشي لا يضمن الحقوق أو الحريات.
5– كانت ثقافاته المتعددة مرشدًا له خلال مسيرته في الكتابة فكانت لديه فكرًا رصينًا إلى جانب بصيرته الفطرية؛ فمكنته من تأليف بعض المراجع التي تعد حجة في مجالها ولعل أشهرها على الإطلاق “الإسلام بين الشرق والغرب” والذي أوضح فيه أن الإسلام دعوة عالمية وطريقة للحياة، و”الإعلان الإسلامي”، بالإضافة إلى كتابه “هروبي إلى الحرية” والذي كتبه عندما كان يقبع في سجن فوتشا في الفترة ما بين (1983 – 1988) ، وأيضا “عوائق النهضة الإسلامية” والذي يعد الدليل الأكبر على أن بيجوفيتش لم يكن شخصًا قوميًا لا يهمه إلا مصلحة بلده فحسب لكنه كان مسلمًا بحق يجمعه مع إخوانه في البلاد الأخرى رباط الإسلام.
6- من ظواهر نبوغه وفهمه لحقيقة الواقع إجابته عندما سُئل عن سماحته والصحوة الإسلامية في البوسنة وهل هي مجرد شائعات. فقال: “سوف أكون معك شديد الصراحة وأقول لك: لا ليست هذه شائعات، بل حقيقة، فالعودة إلى الدين أصبحت ظاهرة عالمية ففي كل مكان تمكّن الشيوعيين فيه من قمع الدين، على مدى خمسين إلى سبعين سنة ماضية.
نعم هناك أسلمة في البوسنة كما تسميها، وهي صحوة إسلامية، ولكن هناك في البوسنة بنفس القدر صحوة أرثوذكسية وصحوة كاثوليكية، والفرق أن عودة المسيحيين إلى دينهم لم تلفت نظر أوروبا المسيحية، وهذا أمر أفهمه ولا ألومها عليه، ولكنني أود فقط أن أصحّحك في نقطة واحدة وهي أن تسامحي الذي تتحدث عنه ليس مرده إلى كوني أوروبي وإنما مصدره الأصيل هو الإسلام، فإذا كنتُ متسامحًا حقًا كما تقول فذلك لأنني أولًا وقبل كل شيء مسلم ثم بعد ذلك أوروبي.”
حرب البوسنة والهرسك
ما أذكره عن هذه الحرب في هذا المقال لا يعد مرجعًا أبدًا ولكنه مجرد رأي في بعض النقاط الهامة في الحرب. في عام 1990 عندما ضعف الحزب الشيوعي في يوغسلافيا وبدأت الاشتراكية في الضعف وعدم القدرة على السيطرة على الشعوب كما كانت، فاضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية فاستغل بيجوفيتش هذه الفرصة وأنشأ حزب “العمل الديمقراطي” ولكن هذه الخطوة أراها لم تكن موفقة من بيجوفيتش فلقد كانت لديه جمعيته التي خرجت عن مسار تلك الفاشية ولم تخضع لقوانينهم، لكن بيجوفيتش مع هذه الخطوة أعاد نفسه مرة أخرى إلى سيادة قوانينهم التي لا تنصر إلا ما هو في صالح الدول القوية ولا تراعي حقًا للمسلمين إلا إذا كان ذلك الحق يتوافق مع مصالحهم. فأنشأ بيجوفيتش الحزب وخاض الانتخابات، وفاز فيها، وصار رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك، في نوفمبر 1990.
وبعد وصوله للحكم أجرى استفتاء شعبيًا لاستقلال البوسنة والهرسك والذي ضايق الصرب الأرثوذكس كثيرًا فلم يشاركوا فيه وكانت نتيجة الاستفتاء 99% لصالح الاستقلال بنسبة مشاركة 63% وانتزاع الاعتراف بدولة البوسنة والهرسك من الأمم المتحدة، ولكن تأخر الأمم المتحدة في الاعتراف جعل الصرب ينقضّون على دولة البوسنة والهرسك، فوجدت الدولة الناشئة نفسها بين فكي الرحى وبدون حاضنة عسكرية للدفاع عن نفسها وهنا نعود إلى ما تحدثنا عنه من خطأ بيجوفيتش في تأسيس حزب سياسي، أما كان يجدر به أن ينشأ وحدة عسكرية تحسبًا لتلك اللحظة فما من ثورة إلا وحسمتها قوة ما في النهاية، وخاصة مع علم بيجوفيتش بتلك الحرب وإمكانية حدوثها في أي لحظة منذ 1980 حسب قول حارث سيلاجيتش:
نهاية 1980 وبداية 1990 من القرن الماضي كانت واحدة من أصعب الحقب التي مرت بها البوسنة في تاريخها، ففي هذه الحقبة تم وضع مخطط الإبادة، وإقامة معسكرات الاعتقال، والإزالة العرقية، وتدمير المدن.
وتابع “في هذه الفترة كان علي عزت بيجوفيتش، يدرك أن معركة البقاء يجب أن يدفع ثمنها، لأن العدو يستهدف الوجود البيولوجي للمسلمين في البوسنة والبوسنة كدولة ذات سيادة بحدود دولية على مدى يزيد عن الألف عام.” وأكد سيلاجيتش على أنه منذ الوهلة الأولى ” كان هناك إدراك بأن العدوان سيستهدف المدنيين، وأن المعركة لن تكون متكافئة وباهظة الثمن.”
استوعب بيجوفيتش الدرس في لحظة متأخرة فبدأ بتكوين جيشه العسكري، ولكن الأمر ازداد سوءًا عندما فرض حظر التسليح على الطرفين، فبذل بيجوفيتش ما بوسعه لتجميع السلاح حتى من أيدي الصرب أنفسهم، في هذا الوقت عرضت إيران على بيجوفيتش المساعدة في مقابل السماح للإيرانيين بنشر عقيدتهم الدينية في البوسنة، ولكن بيجوفيتش رفض ذلك بشدة وقال:
لن نبيع الآخرة من أجل الدنيا ولن نبيع إسلامنا من أجل حفنة من المساعدات.
وتكون الجيش وأصبح ينمو في وقت قياسي فيما انضم له مجاهدون عرب وتذكر صحيفة ألمانية أن “بن لادن ” قام بزيارة بيجوفيتش في 1993 لإعطائه بعض النصائح عن كيفية إدارة مثل تلك الصراعات.
كما أنشأ بيجوفيتش الأكاديمية العسكرية في سراييفوا والتي لم تقتصر على المحاضرات العسكرية والتدريب، ولكن أيضًا شملت على برامج تربوية ودينية وأخلاقية، كانت نصيحته المتكررة لضباطه أن لا يقتلوا مدنيًا أو يمثلوا بجثة أو يجهزوا على أسير مجروح وأن لا يمارسوا العقوبات الجماعية وأن لا يحرقوا البيوت أو الزرع كما يفعل الصرب، وأن لا يقتلوا الحيوانات ولا يروعوا راهبًا في ديره ولا امرأة في بيتها.
اتفاق دايتون
ومع حلول 1994 بدأ يحقق انتصارات ملحوظة مع فرار جنود الصرب من مواجهة البوشناق -مسلمو البوسنة- واستطاع أن يقنع قوات كروات البوسنة بالتحالف مع القوات البوشناقية في حصار مدينة (بانيالوكا) مقر قيادة القوات الصربية. وعندما وجد الغرب بقيادة الأمم المتحدة -التي لم تحرك ساكنًا تجاه الاعتداءات والمجازر الجماعية من قبل الصرب- أن الأمر يصب في مصلحة المسلمين وأصبحت الكلمة العليا لهم، تدخلوا بسرعة لوقف إطلاق النار وإجبار المسلمين على الموافقة على اتفاقية دايتون. فوجد المسلمون أنفسهم أمام خيارين:
- الاستسلام لتلك الاتفاقية والتوقيع عليها.
- مواجهة قوات الغرب وهم لا طاقة لهم بتلك القوات.
فاضطروا للموافقة على تلك الاتفاقية المنحازة لجنود الصرب.
وبعد هذه الاتفاقية عاش أهل البوسنة والهرسك تحت حكم المجلس الرئاسي الذي يضم ممثلًا عن البوشناق وكذلك الصرب والكروات؛ وبهذا اطمأنت أوروبا المسيحية وكذلك أمريكا أن كلمة المسلمين في الهرسك لن تكون العليا هناك، فلقد أقاموا قوتين تضمنان ألا يكون هناك كلمة مطلقة للمسلمين على أرض أوروبية.
وهنا انتهى تاريخ بيجوفيتش المسلم المجاهد المفكر المناضل والسياسي، ولكن كما ذكرنا أن الأفكار دائمًا أقوى وأطول عمرًا فلقد ظلت أفكار بيجوفيتش في البوسنة طريقًا لهم ومصدر فخر دائم، وشهدت كتابته على عقلية فذة في تاريخنا استطاعت مواجهة الحجج بالبراهين والقوة بالقوة والاعتداء على الحرمات بالجهاد وإرهاب العدو. قليلة هي حقًا تلك العقول التي تستطيع أن تدير واقع أمة على أكثر من جبهة وتنجح فيها، وقليلة هي الشعوب التي تستجيب لنداءات قادتها. فالعبرة ليست في جهاد بيجوفيتش وحده، ولكن في البوشناق الذين لبوا نداء الجهاد.