بنو الأفطس في بطليوس
بعد سقوط الدولة العامرية والخلافة الأموية في الأندلس وفي نهاية حكم الأمويين للأندلس تفككت وتقسمت البلاد فأصبحت كل أسرة معروفة ومرموقة تحكم الأرض التي بها، وكانت المملكة الواحدة في ذلك الزمان إذا مات حاكمها تنقسم إلى مملكتين أو ثلاث، وتفككت الأندلس إلى 22 دويلة، وعُرفت تلك الفترة بعهد ملوك الطوائف أو دُويلات الطوائف 422-479ه، فحكم بنو جهْور قرطبة وحكم إشبيلية بنو عبَّاد وفي طليطلة حكم بنو ذي النون، أما في بطليوس فحكم بنو الأفطس؛ فكانت مهدًا للعلم والحضارة وكثر فيها الأدباء و الشعراء.
ابتداء دويلة بني الأفطس
بطليوس مملكة تقع في شمال إشبيلية وغرب طليطلة وجنوب ليون وجيليقية، وتعد بطليوس موقعًا ومكانًا مهمًا واستراتيجيا في الأندلس، وكان سابور العامري هو حاكم بطليوس في آخر العهد الأموي، وحينما انتهت الخلافة الأموية وبدأ عصر ملوك الطوائف أعلن سابور العامري استقلاله ببطليوس لكن سابور لم يكن لديه تلك الخبرة في الحكم وشؤونه فوَكَلَ الكثير من أعمال الحكم الى وزيره عبد الله بن محمد بن مسلمة الأفطس فأصبح ابن الأفطس الحاكم الفعلي لبطليوس.
فلما توفي سابور العامري أعلن عبد الله بن محمد بن الأفطس استقلاله بالحكم وتلقَّب بالمنصور.
ولقد كان عبد الله بن محمد بن الأفطس من أهل العقل والدهاء والسياسة، وفي عهده واجه عدة مشاكل منها ثورت أبناء سابور العامري (عبد العزيز وعبد الملك) وحربِ القاضي أبي إسماعيل بن عبَّاد حاكم إشبيلية على بطليوس.
ثورة ابني سابور العامري (عبد العزيز وعبد الملك)
أعلن عبد العزيز بن سابور العامري الثورة على ابن الأفطس في لشبونة، لكن ثورته لم تطل بسبب وفاته. ثم أعلن أخوه عبد الملك بن سابور العامري الثورة لكنه لم يكن مثل أخيه في السياسة والدهاء فلم يقتنع به أهل لشبونة فراسلوا عبد الله بن الأفطس سرَّا ليرسل إليهم واليََّا فأرسل لهم جيشًا عليه ابنه محمد بن عبد الله بن الأفطس فدخل لشبونة بلا قتال يذكر، وحينما رأى عبد الملك هذا الجيش استسلم وطلب السلامة له ولأهله.
الحرب بين بطليوس وإشبيلية
كان القتال في عهد عبد الله بن الأفطس مريرًا وكان القاضي ابن عباد يريد التوسع والسيطرة على باجة فأرسل جيشًا بقيادة ابنه إسماعيل إلى باجة، وأرسل إلى حليفه صاحب قرمونة محمد بن عبد الله البرزالي يطلب منه المدد للقتال (كانت علاقة ابن عباد بالبرزالي علاقة مصالح فقرمونة تمثل حصنا شماليا لإشبيلية، وإشبيلية تمثل درعا وحليفا لقرمونة في حال نشوب حرب)، وقابل هذا الجيشُ جيشَ بطليوس الذي على رأسه محمد بن عبد الله بن الأفطس فحصلت مذبحة عظيمة وقتل فيها الكثير وأُهدرت الدماء وأسر فيها محمد بن عبد الله بن الأفطس وأُرسل إلى قرمونة بجانب محمد بن عبد الله البرزالي وأُطلِق سراحه بعد فترة.
واستمر عبد الله بن محمد بن الأفطس بتقوية دولته إلى أن توفي في جمادى الأول سنة 437هـ، وخلف من بعده ابنه محمد بن الأفطس.
المظفر بن الأفطس
كان المظفر سيف الدولة أبو بكر محمد بن الأفطس داهيَةً ومحنكًا مثل أبيه، وكان شاعرًا وأديبًا فمن شعره:
أَنِفْتُ مِنَ الْمُدَامِ لأَنَّ عَقْلِي *** أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ أُنْسِ الْمُدَامِ
وَلَمْ أَرْتَحْ إِلَى رَوْضٍ وَزَهْرٍ *** وَلَكِنْ لِلْحَمَائِلِ وَالحُسَامِ
إِذَا لَمْ أَمْلِكِ الشَّهَوَاتِ قَهْرًا *** فَلَمْ أَبْغِي الشُّفُوفَ عَلَى الأَنَامِ
و من شعره في النسيب:
يا لحْظَه زدْ فتورا *** تزد عليَّ اقتدارا
فاللّحظُ كالسيف أمْضا *** هُ ما يَرقُّ غرَارا
ولقد عمل في عهده على تثبيت وتوطيد الحكم والنظام واستطاعت بطليوس في عهده أن تنافس كبار الدويلات كإشبيلية وطليطلة، وقد دخل المظفر في سجالات وحروب مع إشبيلية وطليطلة.
وبعد وفاته تنازع ابناه يحيى وعمر على الحكم فيحيى الذي تلقب بالمنصور استعان بالمعتمد بن عباد صاحب إشبيليَّة وعمر الذي تلقَّب بالمتوكل على الله استعان بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، وبدأت حرب طاحنة و فتنة في البلاد، ولكنها انتهت بموت يحيى موتًا مفاجئًا سنة 461ه.
المتوكل على الله بن الأفطس
وصل إلينا من عظيم الرُّوم كتاب مدَّعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يُعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لَمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميِّز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين
كان المتوكل على الله من أهل العلم والرأي والأدب وكان بليغًا شاعرًا، وبشكلٍ عام كانت فترة ملوك الطوائف مليئة بالعلم والأدب والشعر رغم الضعف والتفكك. ومن أبرز ما حدث في عهده أنه استطاع أن يدخل طليطلة بجيشه واستطاع هزيمة حاكمها القادر بالله يحيى بن ذي النون الذي هرب إلى النصارى ثم رجع إلى حكمه بمساعدتهم ثم بعد ذلك غدروا به واحتلوا طليطلة.
وأرسل ملك النصارى ألفونسو إلى المتوكل على الله بن الأفطس يطلب منه دفع الجزية وبعض القلاع والحصون ويهدده تهديدًا.
فرد عليه المتوكل بالله برسالة يقول فيها:
«وصل إلينا من عظيم الرُّوم كتاب مدَّعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يُعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لَمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميِّز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.
وصل إلينا من عظيم الرُّوم كتاب مدَّعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يُعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لَمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميِّز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين
أما تعييرك للمسلمين فيما وهَن من أحوالهم فبذنوب مركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أيَّ مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرَّعه، فجدك أعطى ابنته هدية للحاجب المنصور حتى يأمن جانبه، أما نحن إن قلَّت أعدادنا، وعُدم من المخلوقين استنجادُنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف؛ تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ونهارك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: نصرًا عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادةً في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العِوَض مما به هدَّدتَ، وفرج يفرج بما ندَّدت، ويقطع بما أعددت».
فكان المتوكل على الله مثلما يقول بعض المؤرخين «العزيز في زمن الذلة».
نهاية بني الأفطس
اشتد الحصار على الإسلام بشكلٍ عام في الأندلس وبدأت دويلات الطوائف تتساقط وبدا كأن نهاية الأندلس قريبة، لكن العلماء وأهل الرأي وبعض ملوك الطوائف رأوا الاستعانة بدولة المرابطين -دولة إسلامية في المغرب الأقصى- لإنقاذ الأندلس من الضياع و الدمار، والغريب العجيب هو أنه بعدما أتت جيوش المرابطين الإسلامية إلى الأندلس وبعد سقوط إشبيلية استعان المتوكل على الله بن الأفطس بألفونسو ملك النصارى ليحميه من المرابطين لكنه هُزم، ودخل المرابطون بطليوس، وقتلوا المتوكل على الله عمر، وبذلك يكون انتهاء حكم بني الأفطس لبطليوس.
أعلام وعلماء بطليوس
لقد كانت بطليوس في ظل الصراع والحروب مهدًا للعلم والأدب والشعر والنثر ويتسابق إليها العلماء والأدباء لما فيها من الحضارة والعلم، فمن علمائها وشعرائها:
أبو الوليد الباجي
هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الأندلسي الباجي، ولد في باجة وارتحل إلى المشرق لطلب العلم فذهب إلى الحجاز وبغداد ودمشق، ثم عاد إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر سنة من طلب العلم وولِي القضاء، وقد أجمع العلماء أنه من كبار أئمة المسلمين في الأندلس ودُفن رحمه الله بالمرية سنة 474هـ.
ابن عبد البر
هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، شيخ الإسلام وحافظ المغرب صاحب التصانيف الفائقة، ولد في قرطبة وتعلم على يد علمائها، ثم ارتحل مدةً وجال غرب الأندلس وشرقها، ثم استقر في بطليوس.
قال عنه أبو الوليد الباجي: «لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث».
وقال عنه ابن بشكوال: «ابن عبد البر إمام عصره وواحد دهره».
ابن عبدون
هو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أديب وشاعر وكاتب، تصدر للوزارة وكتابة السر للمتوكل على الله بن الأفطس سنة 473هـ ولما سقطت دويلة بطليوس التحق بخدمة سير بن أبي بكر أمير جيوش المرابطين الإسلامية وفي سنة 500 صار كاتب سرٍّ في بلاط علي بن يوسف المرابطي، وله قصيدة يرثي بها دويلة بني الأفطس مطلعها:
الدَهرُ يَفجَعُ بَعدَ العَينِ بِالأَثَرِ *** فَما البُكاءُ عَلى الأَشباحِ وَالصُوَرِ
أَنهاكَ أَنهاكَ لا آلوكَ مَوعِظَةً *** عَن نَومَةٍ بَينَ ناب اللَيثِ وَالظُفرِ
فَالدَهرُ حَربٌ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً *** وَالبِيضُ وَالسودُ مِثلُ البيضِ وَالسُمرِ
ومن شعره:
ما مِنكَ يا مَوتُ لا واقٍ وَلا فاد *** الحُكمُ حُكمُكَ في القاري وَفي البادي
المصادر:
- قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، أ.د. راغب السرجاني.
- الأندلس التاريخ المصور، د. طارق السويدان.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقَّري التلمساني.
- ابن عبدون الفهري، المعرفة.