وإذا الغرب ارتد .. عن مناصرة فلسطين وغزة وتحطيم الأصنام!!
حظيت الاحتجاجات والاعتصامات في الجامعات الغربية المؤيدة والمناصرة للقضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان المحتل في غزة، بزخم عالمي كبير، وأثارت الكثير من التفاعلات والنقاشات، سواء على مستوى الشباب المحتجين أنفسهم، أو على مستوى الدول الغربية التي اشتعلت فيها هذه الاعتصامات، وهي المؤسس والداعم الأكبر للكيان المحتل لأرض فلسطين، أو عن المشترك بين هؤلاء وبين ما يجري في غرة، والدوافع المحركة لاهتمامهم بهذه القضية.
في هذا السياق نشرت مجلة بروسبكت البريطانية الشهرية المتخصصة في السياسة والاقتصاد مقالا جيدا للكاتبة والأكاديمية “بريامفادا جوبال” جاء تحت عنوان: “في دفاعهم عن غزة .. يكتشف الطلاب الأمريكيون حدود حرية التعبير“.
والكاتبة هي زميل كلية تشرشل، وأستاذ دراسات ما بعد الاستعمار في جامعة كامبريدج، ومؤلفة كتاب “الإمبراطورية المتمردة: المقاومة المناهضة للاستعمار والمعارضة البريطانية”
سلط المقال الضوء على احتجاجات الطلاب الأمريكيين الذين يدافعون عن غزة، وعن الصدمة من تقييد حرية التعبير في الجامعات الأمريكية، ورَدَ فعل السلطات الجامعية على الاحتجاجات، الذي تضمن استخدام القوة المفرطة والإجراءات التأديبية ضد الطلاب والأساتذة، وعدم تردد الغرب في استعمال العنف ضد المحتجين السلمين من مواطنيه لمجرد اختلافهم مع التوجه السياسي للدولة، وأن الوحشية التي يتم استخدامها في الخارج يمكن أن تنقلب إلى الداخل في جزء من الثانية.
كما تناول المطالب الأخلاقية برفض الطلاب للتواطؤ في التطهير العرقي، ودعمهم المطالبات بوقف العنف ضد الفلسطينيين والاستثمار في شركات ومؤسسات مرتبطة ومتعاونة مع الجيش والحكومة الإسرائيلية.
وكان أخطر ما كشفت عنه تلك الاحتجاجات هو الخلل الكبير في البنية الديمقراطية للنظم الغربية، فكشف إطلاق العنان لرجال الشرطة على الشباب وأساتذتهم عن عجز ديمقراطي صارخ، وهو عجز كان واضحًا بالفعل في سياسة الدولة، وألقى قمع هذه الاحتجاجات الضوء على الواقع القاتم للديمقراطية المفرغة من محتواها، والاستبداد الروتيني المتجذر بعمق في بنية الدول الغربية.
وهنا ترجمة المقال:
وهكذا… تغيرت الصورة النمطية، فحتى وقت قريب جدًا، كان (الجيل Z) بما في ذلك الطلاب في الدول الغربية، يتعرضون للانتقاد باعتبارهم “كائنات هشة” تفتقر إلى الحافز والطموح، قابعون في الأماكن الأكثر أمنا ولا ينخرطون في الأفكار الجادة أو يُدخلون أنفسهم في اختبارات صعبة.
والآن، يبدو أن هؤلاء الشباب أنفسهم ليسوا على استعداد للرضوخ للتهدئة أو العيش في اللامبالاة الراضية بالظلم، لقد رفضوا الاعتقاد المُخذِل والمخدر بأن الأمور على أفضل ما ينبغي أن تكون، وأن قادتنا السياسيين لا يملكون سوى النوايا الحسنة!!
ومع انتشار الاحتجاجات في الحرم الجامعي ضد الحرب الإسرائيلية على غزة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تحوّل الطلاب المشاركون في الاحتجاجات إلى أعداء للدولة يسعون إلى إسقاط الحضارة الغربية نفسها.
وفي اتهام غريب آخر، اتُهم الطلاب الذين يحتجون على العنف المميت الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية المسلحة بأعلى وأحدث وأكفأ عتاد عسكري وأحسن تمويل، على عشرات الآلاف من المدنيين الغزيين المحاصرين، بأنهم معادون للسامية، على الرغم من أن بينهم عددًا من الطلاب اليهود ويرفضون بشدة العنف الممارس باسمهم.
لم يكن الرد على هذه الاعتصامات من قبل السلطات الجامعية في العديد من الجامعات أقل صدمة من هذه الاتهامات، فبعد ساعات قليلة من إقامة “المخيمات/الخيام” في الساحات والحدائق الجامعية، وأشهرها في جامعة كولومبيا في نيويورك، وَجَدَ الطلاب في الحرم الجامعي أنفسهم يتعرضون لقمع شديد وغير متناسب بشكل واضح: حيث تم نشر قوات الأمن التي استخدمت قوة زائدة، وتم اعتقال المعتصمين، وأخليت مواقع الاعتصام، ورُش عليهم الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل الحارق، واستخدمت عليهم الصواعق الكهربائية، ومنعوا من الدخول للحرم الجامعي، وتم تهديدهم باتخاذ إجراءات تأديبية….، وفي بعض الحالات، جاءت المركبات المدرعة، والقناصة وقوات الشرطة المسلحة، وليس من المستبعد أن يتم إطلاق النار من أحد هذه الأسلحة العديدة، ووقتها تنشأ مأساة أمريكية أخرى.
وإلى جانب الطلاب، تلقى بعض أساتذتهم أيضا تحذيرات وتهديدات باتخاذ إجراءات تأديبية من أرباب عملهم لوقوفهم إلى جانب طلابهم، أو حتى مجرد وقوفهم على مقربة منهم، كما تعرضوا هم أيضاً للاعتقال والتعنيف، ومن المفارقات أن بعضهم كان يسأل فقط عن سبب استخدام هذه القوة المفرطة ضد الطلاب، ويُظهر أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت على نطاق واسع من “جامعة إيموري” في أتلانتا بولاية جورجيا، أستاذة اقتصاد تُطرح أرضا من قبل اثنين من رجال الشرطة الأقوياء وتقييد يديها بينما تسقط نظارتها.
ربما كانت ردود الفعل المتشددة، والمنسقة على ما يبدو من قبل السلطات الجامعية، أكثر منطقية لو كان ما يحدث في هذه الاعتصامات يمكن أن يندرج تحت فئة “الشغب” أو حتى نوع من الاضطرابات العنيفة، ولكن بالنظر إلى الطبيعة السلمية والمنظمة بشكل كبير للاحتجاجات، والتي تشهد عليها وسائل الإعلام وتقارير شهود العيان، فإن الجامعات وقوات الشرطة تخرج علينا بتهم غريبة مثل “التعدي على ممتلكات الغير”، والتي تم تطبيقها في غضون ثوانٍ من خلال إصدار أوامر للناس بمغادرة المنطقة.
في لحظة، يتحول ما هو عادةً مساحة مجتمعية مشتركة، إلى ملكية خاصة حصرية بحيث يمكن تجريم شاغليها العاديين وتشويه سجلاتهم إلى الأبد، ولم يتم تقديم أسباب وجيهة أبدا لهذا المستوى من القمع.
وتقول الكاتبة: قمت بزيارة اعتصام “جامعة برينستون” في نيوجيرسي، حيث جرت اعتقالات في غضون دقائق من نصب الخيام، قامت الشرطة بإزالة الخيام على الفور، إلا أن الاعتصام نفسه استمر وتزايد، ويجلس المعتصمون يتجاذبون أطراف الحديث ويرسمون ويقرأون ويعملون على حواسيبهم المحمولة أو يستمعون إلى المتحدثين الزائرين.
في كل زيارة لهذه الاعتصامات تُدهَش ليس فقط بسبب السلام والودّ الذي يتحلى به الحاضرون، بل أيضا لأجل الاهتمام الاستثنائي والعمل الجادّ الذي يبذلونه لخلق مساحات شاملة وموجهة نحو المجتمع، فلديهم رؤية للمجتمعات الجامعية كما ينبغي أن تكون، ومن المناسب لعديد من المديرين الذين يقمعون الطلبة أن يتعلموا منها.
تتضمن هذه الرؤية التأكيد على بعض المبادئ التوجيهية المنشورة، ومنها: الحق في التمسك بالمعتقدات والأديان المختلفة، مع التمسك بـ “الإنسانية المشتركة” ضمن هذا التنوع، كما أنها تفرض “عدم إلقاء القمامة” و “عدم تعاطي المخدرات أو الكحول” واحترام الحدود الشخصية. ولضمان عدم حدوث أي مواجهات غير مرغوب فيها، يُطلب من المتظاهرين أيضا عدم الاشتباك مع المتظاهرين المضادين، الذين يوجد عدد قليل منهم، وتقام في المخيمات الصلوات المسيحية، والصلوات الإسلامية.
وأقيم قداس الأحد المسيحي الذي ألقى فيه الصحفي والقسيس “كريس هيدجز” خطبة مؤثرة وضع فيها تحدي الظلم في صميم ما تسعى إليه مثل هذه الاحتجاجات، مذكراً مستمعيه بواجب رفض التواطؤ والإصرار على أنه “من الأفضل أن تعاني من الظلم على أن نظلم الآخرين”.
الرفض الأخلاقي العميق والهادف هو في قلب هذه الانتفاضات الجامعية، إنه رفض للتواطؤ مع الظلم الذي يتمثل في التطهير العرقي المروع الذي يتم تمويله وتسليحه بشكل كبير من قبل حكومة الولايات المتحدة، التي تسعى الآن أيضا إلى حماية القادة الإسرائيليين من المحاكمة بتهمة جرائم الحرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
إن رفض الشباب يعكس الموقف المتخاذل لكثير من المسئولين، بما في ذلك مدراء الجامعات، فقد تعرضت كل جامعة من جامعات غزة الاثنتي عشرة للقصف المتعمد، وتضرر بعضها بشدة وتحول بعضها الآخر إلى ركام، ولا توجد تصريحات مثيرة للقلق هذه المرة، ولا توجد عروض دعم “للباحثين المعرضين للخطر” حتى مع مقتل العديد من الأكاديميين، بمن فيهم علماء معروفون دوليًا في غزة، لم يتحدث سوى عدد قليل نسبيًا من الأكاديميين الغربيين ضد هذه “الإبادة العلمية” وبالتأكيد لم يتحدث أي من قادة الجامعات عنها.
الطلاب يرفضون هذا الصمت المشين، كما أن الاعتصامات التي تتزايد وتيرتها، هي أيضًا رفض من الشباب للبقاء في موقع العجز الذي يشعر به العديد من الناخبين ذوي النوايا الحسنة بشكل مفهوم، حيث تتجاهل الحكومات مطالب الأغلبية الشعبية الواضحة المطالبة بوقف إطلاق النار ولإنهاء العنف، إنهم يرفضون التعامل مع الأخلاق كشعار جميل بدون أي تأثير على مؤسساتنا وكيفية تمويلها.
وقد نتج عن رفض الاستمرار في العمل كالمعتاد مطالب واضحة المعالم وقوية من الناحية الأخلاقية، على الرغم من أن التفاصيل قد تختلف باختلاف المؤسسات والمجموعات، ففي معظم الأحيان، يطالب الطلاب المحتجون مؤسساتهم، التي يمتلك الكثير منها محافظ استثمارية ضخمة لأوقافها الكبيرة، بالإفصاح عن ممتلكاتها ومن ثم سحب استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة والتكنولوجيا التي تربطها علاقات مع الجيش الإسرائيلي، وتشمل هذه الشركات شركات مثل “بي أيه إي سيستمز ” و “لوكهيد مارتن” و “رايثيون” بالإضافة إلى “أمازون” و “ألفا بيت” الشركة الأم لجوجل.
هؤلاء الطلبة يريدون أن تنفصل جامعاتهم، التي يدفعون لها الرسوم، عن ساحات القتل في غزة، يريدون من قادة مؤسساتهم أن ينضموا إلى دعوات وقف إطلاق النار، وإنهاء الذبح المستمر الذي نشاهده على شاشاتنا، وأن يعود الرهائن إلى عائلاتهم، يطالب الكثيرون أيضًا بمشاركة الجامعات في (BDS) “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” ضد إسرائيل؛ وهم في هذا يصدحون بصدى جيل سابق من الطلاب الذين طالبوا بتلك الإجراءات بالضبط ضد جنوب أفريقيا والفصل العنصري، والذي نجح فعليا في القضاء على الفصل العنصري.
المقاطعة وسحب الاستثمارات هي أدوات مجربة ومختبرة لإحداث تغيير غير عنيف، بينما تُستخدم العقوبات بانتظام ضد الحكومات التي تنتهك القانون الدولي، كما فعلت إسرائيل مرات عديدة، ليس هناك معنى لإدانة العنف الصادر من المناطق المحتلة، إذا لم يكن هناك استعداد لتطبيق تدابير غير عنيفة وقوية على الاحتلال وعنفه.
لقد نجحت الاحتجاجات في أن تُظهر لغزة – ولبقية العالم – أن العديد من الأمريكيين يشعرون بالرعب مما يجري باسمهم وبأموالهم، وفي حين أن المطالب مهمة بالطبع، إلا أن نجاح الاحتجاجات أو فشلها لا يتوقف عليها، الحقيقة هي أن الاحتجاجات قد نجحت بالفعل، فقد لفتت انتباه البلاد والعالم أجمع إلى أوجه القصور العميقة والأكاذيب التي تتسم بها الرواية الإعلامية التي فشلت، إلى حد كبير، في محاسبة السياسيين وجماعات الضغط القوية، وسواء تم الإشادة بهم أو التنديد بهم، فقد أوضح المتظاهرون أن سياسة الولايات المتحدة في مساعدة وتحريض إسرائيل على ارتكاب المجازر على نطاق واسع باستخدام مبالغ طائلة من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لم تكن بموافقة مواطنيها بالإجماع.
وكشفت الاحتجاجات أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست موحدة أو متجانسة أكثر من أي مكان آخر، مهما كان الإجماع الذي يصطنعه السياسيون فيما بينهم ويحاولون فرضه على مواطنيهم من خلال وسائل الإعلام المذعنة.
لقد نجحت الاحتجاجات أيضًا بطريقة أخرى مهمة، وإن كانت محبطة، فقد أظهروا لنا جميعا أن الوحشية التي يتم استخدامها في الخارج يمكن أن تنقلب إلى الداخل في جزء من الثانية، فالدولة ذات العسكرة الشديدة التي تستخدم أو تحرض على استخدام القوة ضد المدنيين في أماكن أخرى، لا تحترم مدنييها!
لقد ألقى الاستعداد لإطلاق العنان للأفراد المسلحين والأسلحة على الشباب وأساتذتهم الضوء على عجز ديمقراطي صارخ، وهو عجز كان واضحًا بالفعل في سياسة الدولة ولكنه الآن يأخذ شكل إجراءات عقابية ضد المعارضين.
كما أنها تذكرنا أيضا، بأن الجامعات الأمريكية بعيدة كل البعد عن كونها معسكرات لتلقين الفكر اليساري، بل إن الجامعات الأمريكية يديرها أمناء ومجالس أمناء ومجالس إدارة مليئة بالمصرفيين والممولين والشركات، ومعظمهم من اليمين السياسي. لقد ألقى قمع هذه الاحتجاجات الضوء على الواقع القاتم للديمقراطية المفرغة من محتواها، والاستبداد الروتيني المتجذر بعمق وخطورة أكثر مما يمكن إلصاقه بحزب سياسي واحد أو شخصية واحدة مثل دونالد ترامب.
وقد أشار البعض عن حق إلى “استثناء فلسطين” من حرية التعبير في الحرم الجامعي، ولكن مستويات القمع التي نراها ضد الطلبة المحتجين لأجل فلسطين، تشير إلى أن “حرية التعبير” كانت دائما مشروطة بعدم تهديد الوضع القائم، وهذا هو السبب في أن العديد من الأصوات التي تدعي دعم حرية التعبير كانت صامتة بشكل ملحوظ على قمع الاحتجاجات المستمرة، إن الهدف من هذا القمع إرسال رسالة ذات صوت عالٍ وواضح، مفادها أنه لن يتم التسامح مع أي معارضة في المسائل ذات الأهمية المادية للقوى التي تتحكم في الأمور، مثل التربح من الأسلحة، أنه لن يتم التسامح معها أبدا.
إن الطلاب في الولايات المتحدة يقفون الآن ليُحسب لهم حساب، في الوقت الذي ينبغي فيه أن يفعل ذلك جميع أصحاب الضمائر الحية، إنهم يتحركون بأكثر الطرق سلمية في وقت يحتاجون فيه إلى تحدي القصص المبتذلة، إنهم يعلمون أن السلطة لا تتنازل عن شيء دون مطالبة.
وتختم الكاتبة مقالها وتقول: أما بالنسبة لأولئك الذين يدّعون أنهم ليبراليون ولكنهم ضد هذه الاحتجاجات، نذكرهم بقول الناشط الأمريكي “فريدريك دوغلاس”:
إن أولئك الذين يدّعون تفضيل الحرية، ومع ذلك يستهجنون الاحتجاج والتحريض، هم رجال يريدون جني المحاصيل دون حرث الأرض؛ يريدون المطر دون رعد وبرق، يريدون المحيط بدون هدير مرتفع لمياهه الكثيرة.
إننا محظوظون للغاية لأن الكثيرين في هذا الجيل والجيل القادم على استعداد للقيام بذلك بالفعل.. فلنقف معهم.