العربي بن مهيدي: مجاهد جزائري أشعل الثورة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي
شهدت الأمة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجة احتلال جديدة، كانت هذه المرة تحت غطاء استعماري، حملت هذه الحملة نفس الأهداف الصليبية الصهيونية، في نفس السياق القديم الجديد، سياق التدافع المتواصل بين الحق والباطل حتى أخذ التدافع منحى أممي، تكالبت من ورائه الأمم على أمة الإسلام، وأدى التنافس الاستعماري بين الدول الغربية على مساحة الامبراطورية العثمانية إلى تقسيمها وتوزيع تركتها بين القوى الكبرى، ليعاد تشكيل هذه البلدان وفق سياسة المستعمرين فيها.
لكن وبرغم شدة الهجمة وعدم تكافئها ماديًا إلا أن روح المقاومة بقيت حية في هذه الشعوب، فبرز أبطال جدد لمعارك قديمة، يحركون جمود الخضوع، يهتفون في روع التاريخ برفض الظلم وحرب الطغيان والثورة في وجه كل محتل غاصب وكان العربي بن مهيدي أحد رموز الثورة الجزائرية على المحتل الفرنسي فمن هو بن مهيدي وماهي مراحل حياته وكيف عمل على تفجير الثورة المسلحة.
طفولة العربي بن مهيدي
في مدينة عين مليلة التابعة لولاية أم البواقي الجزائرية ولد لسي عبد الرحمن بن مسعود بن مهيدي في 10 جوان سنة 1923 ابن سماه العربي بن مهيدي، وكان من تقليد العائلة أن يدخل الابن في أول طفولته لكتاب تحفيظ القرآن، فكان أول تعليم تلقاه العربي هو كلام الله وآياته، والتأدب بأخلاق القرآن، وبقي في مدينة عين مليلة حتى سن السابعة، وبعد طلب من خاله وافق سي عبد الرحمن أن ينتقل معه الابن إلى مدينة باتنة حيث بقي إلى أن نال الشهادة الابتدائية في مدرستها، ثم التحق بمدينة بسكرة، بعد أن أمّم الاحتلال الفرنسي مورد رزق أبيه في عين مليلة وأرغمه على الهجرة، في بسكرة واصل العربي الدراسة في المدرسة المسماة حاليًا مدرسة يوسف العمودي.
الفتوة والتربية على التمرد
في بسكرة انضم العربي بن مهيدي للكشافة الإسلامية “فوج الرجاء”، وكان من أهداف إنشاء هذه النشاطات تعليم الشباب الروح الفدائية والانضباط، وبعد أشهر قليلة أصبح بن مهيدي قائد فريق الفتيان، كما نشط في الجمعية الرياضية التي كانت أحد روافد تأطير واختيار الناشطين، كانت هذه الأنشطة بهدف زرع فكرة الانتماء والجهاد والمقاومة في الناشئة، والتذكير بقضية الاحتلال الجاثم بثقله على هذه الأمة، والذي كان من أهدافه محو الهوية واستبدالها بمسخ فرنسي، كان هذا مع الالتزام الديني والأخلاقي المميز لبن مهيدي والذي شهد به كل من تعامل معه، فقد تأثر بشكل مباشر بشخصيتين هما الشيخ بلعابد والشيخ علي مرحوم، وبدأ تبلور الفكر الثوري لبن مهيدي من كل هذه العناصر، امتزج حفظه للقرآن مع التكوين الحركي الكشفي مع النشاط الرياضي الثقافي مع الرصيد التربوي ليؤذن ببروز هذه الشخصية التي دوخت الاحتلال الفرنسي.
تجربة العمل السياسي
كانت الحركة الوطنية تنظم النشاطات الرياضية والثقافية لاستقطاب شباب جدد لحزب الشعب السري، ووقع اختيار الحركة على بن مهيدي لصفاته المميزة، فاختاره مسؤوله في بسكرة محمد عصامي للدخول للحزب، كما كان بن مهيدي عضو فاعل في حركة أحباب البيان والحرية وأسندت له مهمة الكتابة لمعرفته باللغة العربية.
قدمت فرنسا وعودا بمنح الجزائر الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الجزائريون في شوق وانتظار أن تفي بوعودها، لكنها قامت في المقابل بنفي زعيم حزب الشعب مصالي الحاج في شهر أبريل 1945 للكونغو برازافيل، مما أجج الاحتقان الشعبي ودفع الحزب للدعوة لمظاهرات 8 ماي 1945 المطالبة باستقلال الجزائر والإفراج عن مصالي الحاج، شارك بن مهيدي في تنظيم هذه الاحتجاجات وكان من الفريق الذي أعد اللافتات والشعارات ثم كان في صفوفها الأولى، واستجاب الشعب بالخروج والمطالبة بالاستقلال والحرية، لكن فرنسا واجهته بالوحشية المعتادة، فاستدعت جيش البر والبحر والجو لإرهاب الأهالي بهمجيتها وتعطشها للدماء، وحصدت مجازر 8 ماي 1945 أكثر من 45 ألف قتيل أعزل، بقيت صور جثثهم المكدسة في الطرقات والمنازل والشوارع والخيم والحقول في ذاكرة التاريخ شاهدة على همجية فرنسا وزيف حملها لشعار بلد الحريات وداعمة الديمقراطية، ملأت تلك المشاهد وجدان الثائرين بالحقائق الكاشفة للاحتلال.
وكانت هذه الأحداث سبب في تيقن بن مهيدي ورفاقه بعدم جدوى تحقيق الاستقلال الجزائري وكرامة الشعب عن طريق العمل السياسي السلمي، وأن السبيل الوحيد إلى تحقيق ذلك هو الجهاد المسلح والكفاح والثورة.
التحول إلى المواجهة المسلحة
شنت فرنسا في أحداث 8 ماي 1945 حملة اعتقالات واسعة، سجن على إثرها محمد بن مهيدي مع عدد كبير من الجزائريين، وناله من أصناف التعذيب والترهيب ما ناله طيلة الأسابيع التي قضاها في الأسر، خرج بعدها مقتنعًا بضرورة التحول إلى العمل المسلح، وأن الذي أخذه الاحتلال بالقوة لن يسترجع إلا بالقوة.
وتأسست المنظمة السرية وبدأ انتقاء أعضائها بحرص، فاختير بن مهيدي ليكون رئيس خلية في بسكرة، ثم بدأ يدرب المجموعة على فنون الحرب واستخدام الأسلحة الخفيفة، وقد أظهر نشاط كبير في التنسيق وقدرة على تنظيم الثوار وربط العلاقات مع التجار للحصول على السلاح التي كانت ترسل إلى جبال الأوراس، كان كل هذا يحدث مع إمكانيات مادية بسيطة لكن بإيمان شديد بضرورة الجهاد لاسترداد البلاد، ونظرًا للكفاءة العالية التي أبداها بن مهيدي استدعاه مسؤول المنظمة للإشراف على ناحية مدينة سطيف ثم عين بعدها كنائب لبوضياف، ثم أسندت له مهمة الإشراف على التنظيم في الشرق الجزائري وطيلة هذه المدة نشط في نشر الوعي وزرع الشوق للجهاد ومواجهة الاستعمار في التشكيلات الشبابية التي عاينها أو التي أشرف عليها.
الخلفية الفكرية والعقدية للثورة الجزائرية
منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أقدام فرنسا الجزائر، حملت جيوشها مع مهمة الغزو العسكري والاستعمار، مهمة الغزو الثقافي الديني والتغريب، لقد جاءت فرنسا بحقدها الصليبي المصاحب لأطماعها التوسعية، وكان ذلك واضحًا على ألسنة مسؤوليها منذ أيامها الأولى في الجزائر فبعد سقوط العاصمة صرح رئيس الوزراء الفرنسي (دي بولينياك) إن كان للصراع الذي أوشك أن يبدأ نتيجة هامة فهي التي ينبغي أن تسجل لصالح المسيحية ووقف سكرتير الحاكم بوجو على منبر مسجد بعد ما تم تحويله كمئات المساجد إلى كنيسة وقال:
ان آخر أيام الإسلام قد دنت وفي خلال عشرين عامًا لن يكون للجزائر إله غير المسيح.
لقد عملت فرنسا بكل ما تملكه من قوة على محو الهوية الإسلامية وإلغاء اللغة العربية من الجزائر، لكن الله قيض لها رجال وقفوا حياتهم خدمة لاستدامة الإسلام في المجتمع، وإحياء لغة القرآن وعلومه في وجه التمدد الفرنكفوني، فقد حملت جمعية العلماء على عاتقها هذه المهمة، وساهمت في حفظ الشخصية الحضارية الإسلامية في الجزائر من الذوبان، وكان من رموزها الحاضرين في وجدان الجزائريين الشيخ ابن باديس الذي كان يعيش مع فكرة الثورة على فرنسا، كما كانت الجمعية من أبرز داعمي الثورة الجزائرية منذ بدايتها، وذلك بالتحريض على المشاركة والالتحاق بالثورة في وقت كانت فيه الأحزاب السياسية والتيارات العلمانية متوجسة تقف موقف المترقب، أصدرت الجمعية بيان يوم 2 نوفمبر 1954 بعنوان مبادئ الثورة الجزائرية كتبه الشيخ البشير الإبراهيمي ومما جاء فيه:
إن اللحن الذي يشجي الجزائري هو قعقعة الحديد في معمعة الوغى، وإن الرائحة التي تعطر مشامه هي رائحة هذه المادة التي يسمونها البارود.
كما تتالت بيانات الدعم والتحريض في الأيام الموالية مثل النداء الذي وجهه الإبراهيمي والشيخ الورثاني للشعب الجزائري في 15 نوفمبر 1954 بعنوان: “نعيذكم بالله أن تتراجعوا” جاء فيه “إنكم كتبتم البسملة بالدماء في صفحة الجهاد الطويلة العريضة، فاملؤها بآيات البطولة التي هي شعاركم في التاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم”.
لقد كان المجاهدون في الجبال يرفضون حتى وصف جهادهم بأي وصف، بل كانوا يصرون على أنه جهاد في سبيل الله، يستمد جذوره من تاريخ الإسلام البعيد ومن الصراع القديم الجديد، ويحرصون على إحياء أسماء رموز الجهاد، حتى أن كلمة السر التي كانت إشارة البداية للعمليات العسكرية للثورة في كامل الجزائر كانت: الله أكبر … خالد … عقبة.
مراحل تفجير الثورة
كان المشهد السياسي الجزائري تفرقه التصدعات الحزبية، ما دفع المنظمة الخاصة المؤمنة بالحل العسكري إلى تنظيم اجتماع مارس 1954 الذي حضره مجموعة الـ 22 في منزل إلياس درويش، كان هدف الاجتماع تجميع الفرقاء على العمل الثوري لمواجهة الاستعمار عسكريًا، وأثناء المناقشات وقع تردد داخل المجموعة عن اختيار الحل العسكري فقال العربي بن مهيدي عبارته الشهيرة: “ألقوا بالثورة إلى الشارع سيحتضنها الشعب”، قررت المجموعة انتخاب لجنة الخمسة، وهم: رئيسها مصطفى بن بولعيد والعربي بن مهيدي ومراد ديدوش ومحمد بوضياف ورابح بيطاط، ثم رأت المجموعة ضرورة زيادة ممثل عن منطقة القبائل فأضيف كريم بلقاسم، ثم اجتمع الستة في بيت مراد بوقشورة يوم 23 أكتوبر 1954 لترتيب موعد تفجير الثورة، كان الاتفاق على أن يتوزع العمل الثوري على خمس مناطق، مصطفى بن بولعيد على المنطقة الأولى وهي الأوراس ومراد ديدوش على المنطقة الثانية وهي شمال قسنطينة وبلقاسم كريم على المنطقة الثالثة وهي القبائل ورابح بيطاط على المنطقة الرابعة وهي وسط الجزائر والعربي بن مهيدي على المنطقة الخامسة وهي وهران، وعلى أن يكون موعد تفجير الثورة يوم الفاتح من نوفمبر 1954 وساعة الصفر منتصف الليل.
وفي الساعة المحددة انطلقت رصاصات المجاهدين في ليلة الثورة الأولى وخرجت الأسلحة القليلة من مخابئها ونُشر إعلان الثورة في المدن والشوارع لتتصاعد بعدها المواجهة بين الجيش الفرنسي بأعتى إمكانياته ضد المجاهدين في جبال الأوراس ببضع بنادق وقنابل يدوية، لكن بإرادة كبيرة وإيمان عميق، وانتشرت الثورة على كامل الجزائر وتصاعد معها توحش جيش الاحتلال وقمعه للمدنيين وملاحقته للثوار، أبدى المجاهدون صمود وثبات في وجه الآلة العسكرية الفرنسية التي عملت على تشويههم ما زاد في التفاف الشعب حول الثورة وتصاعد دعمه لها بالأعداد الملتحقة بالمجاهدين.
في هذه الأثناء عمل بن مهيدي على التنسيق لجلب السلاح من الخارج وتجديد الثورة التي فقدت عدد من رموزها بين شهيد وأسير، فكان هذا موضوع رحلته للقاهرة إذ التقى هناك بالمجاهد عبد الكريم الخطابي وأحمد بن بلة ورئيس المخابرات المصرية فتحي الذيب، وتم الاتفاق على تزويد الثورة بالسلاح، وصلت سفينة أولى إلى مرسى الناظور المغربي، وتقاسم الأخوة الجزائريون والمغاربة السلاح رغم قلته، ما يدل على التعاون المشترك في مواجهة الاستعمار.
ترأس بن مهيدي اجتماع الصومام الذي أعيد فيه هيكلة الثورة ومراجعة نتائجها ودراسة المرحلة اللاحقة، ثم قرر أن يتوجه للعاصمة ليبدأ صراع جديد ضد المستعمر، بعد القناعة بضرورة انهاكه بالهجمات المباغتة داخل المدن، بأسلوب حرب العصابات، أدار بن مهيدي شبكة من الفدائيين والفدائيات وصانعي المتفجرات، الذين كانت مهمتهم تنفيذ عمليات نوعية واستهداف كل أشكال تواجد العدو داخل العاصمة، وقال قولته الشهيرة: “سأحول مدينة الجزائر إلى ديان بيان فو ثانية”، وهي المدينة الفيتنامية التي شهدت هزيمة الاستعمار الفرنسي المدعوم من حلف الناتو.
أثارت عمليات الفدائيين الجزائريين الرعب في صفوف القوات الفرنسية، خاصة وأنها تميزت بالخفاء والمفاجأة، أظهر خلالها الفدائيون والفدائيات ثبات وشجاعة فائقين، ما جعل الوصول إلى الرأس المدبر لهذه العمليات أولى أولويات فرنسا، كما تم إنشاء جناح إعلامي للثورة عبر جريدة المجاهد، والتي كتب بن مهيدي في بعض أعدادها.
اختار بن مهيدي حي القصبة في العاصمة ليسكن فيه، وهو منطقة شعبية عتيقة تمتاز بكثرة الأزقة وتعقيد شبكة طرقاتها وارتفاع عدد سكانها ونشاطهم، وقد زادت عمليات معركة الجزائر المستهدفة للعدو من ثقة الشعب وألهبت حماسه، كما أربكت الفرنسيين وجنودهم، مما صاعد عمليات التفتيش الشاملة والاحتياطات الأمنية، في هذا الوقت كان بن مهيدي يتحرك بأوراق تعريف مزيفة أعدها يوسف سعدي.
لقد تحولت مدينة الجزائر كما خطط العربي لجحيم في وجه الفرنسيين، تهتز أرضها وجدرانها في وجوههم من كل جانب وفي كل لحظة مباغتة، وأنستهم أصوات العمليات الفدائية طعم النوم الآمن فوق أجساد المستضعفين، وطردت أوهامهم باستتباب الأمور لطغيانهم ولغطرستهم، لقد واجههم الثوار باللغة التي يفهمونها، وأسمعت رسائل الحرية الآذان الصماء.
وكخطوة تصعيدية جديدة ولإشراك الشعب في المعركة وبيان وقوفه مع الثورة في وجه الاحتلال، نظم بن مهيدي إضراب شامل لقي استجابة كبيرة من الجزائريين، ومرة أخرى ألقيت الثورة إلى الشارع فاحتضنها الشعب بحرارة، ما استفز الفرنسيين وألجأهم لمحاولة كسر الإضراب بالقوة ومحاصرة العاصمة لإخفاء الدعم الشعبي الكبير للمجاهدين الذي أصبح ظاهرًا لكل العالم.
اعتقال العربي بن مهيدي واستشهاده
قامت عساكر فرنسا بحملة تفتيش شاملة، يقتاد فيها الرجال من المنازل لينتقلوا إلى التعذيب والاستنطاق، وألقى جنود المظلات القبض على بن مهيدي في 23 من شهر فبراير سنة 1957، لم يدرك الجنود الذين اعتقلوه للوهلة الأولى أن من يقتادونه هو العقل المدبر للعمليات التي جرّت عليهم الويلات، وما أن اكتشفوا هويته حتى بدأت مساومته على تقديم معلومات عن رفاقه وعن الجهاد، حتى أنهم حاولوا إيهامه بأن رفاقه هم من خانوه، لكنه في كل مرة كان يجيب برفض إعطاء أي كلمة تخدم فرنسا، كان يجيبهم في هدوء الواثق بقضيته، المطمئن بقدر الله، المعتز بجهاده، والمبتسم في وجه أعدائه تلك الابتسامة الساخرة التي سجلها التاريخ وسجلتها شهادات معذبيه وأعدائه، فعندما سئل عن استعمال الفدائيين للحقائب المتفجرة والقنابل أجاب “أعطونا دباباتكم وطائراتكم فنعطيكم طواعيتًا حقائبنا وقنابلنا”،وحين طلب منه تقديم ما يفيد الاحتلال كان يكرر عبارة:
أمرت فكري بألا أقول لكم شيئاً.
ومع تكرار المحاولات فقد السجانون أعصابهم، وبدأوا في تعذيبه، سلخوا جلد وجهه واقتلعوا أظافره وكسروا أسنانه لكنهم لم يأخذوا منه إلا البصق في وجوههم وشتمهم. انتزع صمود بن مهيدي إعجاب حتى سجانيه الذين قدموا له التحية العسكرية قبل إعدامه، حتى أن الجنرال مارسيل بيجار قال: “لو كان لي ثلة من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم”.
وفي عام 2001 قدم كبير سفاحي جنرالات فرنسا في الجزائر شهادة جاء فيها: “أسابيع من التعذيب، نزعنا أظافره، جلده، أجزاءً من جسده، ولا كلمة خرجت من فمه، بل واصل تحدينا بشتمنا والبصق على وجوهنا قبل تنفيذ حكم الإعدام”.
وحين استنفذوا وسائلهم القذرة قرروا إعدامه لينهوا هذا الصراع الذي ربحه السجين المقيد وخسره السجان، وأعدم العربي بن مهيدي بين 3 و4 مارس 1957، وفي آخر ثواني حياته طلب أن يعدم مكشوف العينين بلا عصابة، لكن جنود الاحتلال انهزموا حتى في هذه ورفضوا طلبه، رهبة من عينين لاحقتا الاستعمار في كل درب، وبكل وسيلة.
دار في أحد الأيام حوار بين العربي بن مهيدي وأمه، وقد كانت مشفقة على ابنها الذي لم يتزوج بعد، في حين ترى هي أحفاد أقرانها في زياراتها لهم، وحين عبرت الأم عن شوقها لرؤية أبناء ابنها المنهمك في قضيته وجهاده، قال لها:
إن أنا عشت بعد الاستقلال سأنجب لك الكثير من الأبناء وإن أنا مت يا أمي فالجزائريون كلهم أبناؤك.
هذه هي الوصية التي تركها بن مهيدي للأجيال من بعده، وهذه القضية التي هي حري بأن يحملوا مشعلها ويسلكوا بها الطريق الذي سلكه هو وأسلافه، إن الاستعمار الذي قاومه مجاهدو هذه الأمة لايزال قائمًا بأوجه مختلفة، يبدل جلدته في كل مرة، ويفوض من يقوم عنه بمهامه، لكن آثاره لا تخفى على عاقل، وإن أمة أنجبت أمثال العربي بن مهيدي لحرية بأن يخاف أعداؤها من إفاقتها من جديد، لذلك يسعون بكل طاقاتهم لاستمرار الغفلة، وإخماد النور المنبعث بين شبابها, لكن الله متم نوره.