ماذا تعرف عن الصحابية الجليلة الخنساء.. الشاعرة الحزينة
كم منّا تأمل العودة إلى زمن الصحابيات الجليلات التي تشرق بهن نور الطريق الذي يضئ من ظلمات الدجى، وتبعث فينا روح اليقين بالعزة والإيمان والفخر في عصرهن والزمن الذي نشأن فيه، تلك الصحابيات اللواتي أقتدت بهن الطريق إلى الخيرات والسعي والاجتهاد إلى الغاية الكبرى، والوصول إليها كما كنا نشتاق لتلك العصور التي لم تمر بيننا، ولكن اقتدانا السير على دربهن لينير طريقنا من الظلمات إلى بريق النور الذي يشع لنا روحانيات إيمانهم وثباتهم على الدعوة ونهج الرسول.
اغمضي عينيك قليلًا واستشعري الإحساس بأنكِ سرت على طريقهن واقتبستِ من نورهن وتذوقتِ حلاوة إيمانهن، ونهلتِ من بئر عطائهن وشرفتي بمنزلتهن عند مليكهن ويوم القيامة شرّفك ربي بلقائهن. هيا لنكشف الستار عن الدرة المكنونة، ونحكي عن الصحابية الجليلة “الخنساء” -رضي الله عنها-.
هل نعلم من تكون الخنساء! وأين نشأت تلك الصحابية الجليلة؟ وما هي أعمالها التي برزت وشهدت عليها قوتها؟ وقصة إسلامها ومواقفها مع الصحابة. وسوف تقودنا السفينة إلى زمن الصحابيات الجليلات، ونبدأ بنبذه عن تلك المرأة التي شهد التاريخ قوتها وعزمها وصبرها على الابتلاء ومواقفها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الخنساء والجاهلية
في يوم من أيام العصر الجاهلي تسلل التاريخ -على عادته- في غفلة من الناس، إلى بيت من أكبر بيوت بني سليم إلى بيت “عمرو بن الحارث” الشريد، ليحتفظ لنفسه بتاريخ ميلاد تماضر، “تماضر بنت عمرو”، ولم يكن التاريخ في ذلك ساذجًا؛ فبيوت بني سليم من البيوت المعدودة، الجديرة بالملاحظة، والجدية بتسجيل ما يدور بها من أحداث. ولدت الخنساء، وانتقلت من طفولتها إلى صباها فشبابها، ولا شيء يثير الانتباه أو يلفت النظر غير ما كانت تمتاز به من جمال وما كانت تحسه من أبويها وأخويها من عطف ومحبة، حتى وصل بها الإحساس إلى درجة الاعتداد، أو قل إلى مرتبة الأنفة والكبرياء.
ولم يكن ذلك غريبًا على من ينشأ في مثل ظروفها، أب شريف، وأخوان سيدان يتباهى بهما الأب ويفاخر العرب، ولا أحد يجرؤ على نقد ما يقول. وكان لذلك أكبر الأثر في حياة الخنساء، وفي تكون شخصيتها.
لقبت بالخنساء؛ لقصر أنفها، وارتفاع أرنبتيه. واشتهرت بالشعر في العصر الجاهلي برثائها لأخويها صخر ومعاوية، واللذين ما فتأت تبكيهما حتى خلافة عمر، ومما يذكر في ذلك ما كان بين الخنساء و”هند بنت عتبه” قبل إسلامها، نذكره لنعرف إلى أي درجة اشتهرت الخنساء بين العرب في الجاهلية بسبب رثائها أخويها.
عندما كانت وقعة بدر، قُتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فكانت هند بنت عتبة ترثيهم، وتقول بأنها أعظم العرب مصيبة. وأمرت بأن تقارن مصيبتها بمصيبة الخنساء في سوق عكاظ. وعندما أتى ذلك اليوم، سألتها الخنساء: من أنت يا أختاه؟ فأجابتها: أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم أنت؟ فقالت: بأبي عمرو الشريد، وأخي صخر ومعاوية. فبم أنت تعاظمينهم؟ قالت الخنساء: أوهم سواء عندك؟ ثم أنشدت هند بنت عتبة تقول:
أبكي عميد الأبطحين كليهما *** ومانعها من كل باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي *** وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب *** وفي العز منها حين ينمي عديدها
فقالت الخنساء:
أبكـي أبي عمـرًا بعيـن غـزيـرة *** قليـل إذا نـام الخلــي هجودهـا
وصنوي لا أنسى معاوية الذي *** له من سراة الحرتيـن وفـودهـا
وصخرًا ومن ذا مثل صخر إذا *** غدا بساحته الأبطال قــزم يقودها
فذلك يا هند الرزية فاعلمي *** ونيران حرب حين شب وقـودهـا
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: “قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم”. وتعد الخنساء من المخضرمين؛ لأنها عاشت في عصرين: عصر الجاهلية وعصر الإسلام، وبعد ظهور الإسلام أسلمت وحسن إسلامها.
الشجاعة والتضحية
عُرفت الخنساء بقوة شخصيتها أيام عصور الجاهلية التي كانت على عهد الرسول والصحابة، وعُرفت بشجاعتها وقوة رأيها وصلابة فكرها، وفصاحتها في الشعر. أثبتت قوة شخصيتها هذه برفضها الزواج من “دريد بن الصمة” أحد فرسان بني جشم؛ لأنها آثرت الزواج من أحد بني قومها، فتزوجت من ابن عمها “رواحة بن عبد العزيز السلمي”، إلا أنها لم تدم طويلًا معه؛ لأنه كان يقامر ولا يكترث بماله، لكنها أنجبت منه ولدًا، ثم تزوجت بعده من ابن عمها “مرداس بن أبي عامر السلمي”، وأنجبت منه أربعة أولاد.
ويتضح ذلك أيضًا في موقفها بعد الإسلام يوم القادسية واستشهاد أولادها. فقالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. ولها موقف مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يستنشدها فيعجبه شعرها، وكانت تنشده وهو يقول: “هيه يا خناس”. أو يُومي بيده. وهذه القصة فيها من العبر ما فيها، وهي قصة الخنساء تلك الشاعرة، التي مات أخوها في الجاهلية فظلت سنوات تبكي عليه وترثيه بشعرها، لكن لما أسلمت تغيرت.
ففي القادسية، وانظرن وتعجّبن من هذا الموقف، وتخيلي أمة الله! أنك في هذا الموقف التي هي فيه! لو قال لك ابن في هذا الزمان: يا أماه! بعت نفسي لله، أريد أن أذهب إلى الجهاد، أريد الجنة يا أماه! كيف تردين عليه؟ أمّا هذه الأم فلها أربعة أبناء فقالت لهم: يا أبنائي! أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وتعلمون ما أعده الله من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، فيا أبنائي، اذهبوا إلى الجهاد.
وذهب أبناؤها الأربعة إلى الجهاد، فانتظرت الخبر، فإذا بالخبر يأتيها، قيل لها: إن أبناءك الأربعة كلهم قتلوا في سبيل الله، كلهم قد استشهدوا في سبيل الله، فماذا ستقول هذه المرأة؟ التي بكت على أخيها سنوات، ماذا تقول في أبنائها؟ قالت:
الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني وإياهم في مستقر رحمته.
يا أمة الله، ترى ألم تكن هي التي تقرحت عيناها على أخويها، ولكن الخنساء في الجاهلية تختلف عن الخنساء في الإسلام. الله يا خنساء إنه الإيمان يا إخوتي، إنه الاسلام الذي حول هذه المرأة من حال إلى حال، فهذه المرأة تسلل إلى قلبها أمر غـيّر حياتها، وقلب أفكارها.
إنها باختصار دخلت في الإسلام، نعم دخلت في الإسلام الذي أعطى مفاهيم جديدة لكل شيء، مفاهيم جديدة عن الموت والحياة والصبر والخلود لقد صنع الإسلام المعجزات، فوجدنا الإيمان والرضا والاستسلام لقضاء الله، إنه كالكيمياء يغير طبائع الأشياء، فانتقلت من حال اليأس والقنوط إلى حال التفاؤل والأمل، وانتقلت من حال القلق والاضطراب إلى حال الطمأنينة والاستقرار، ومن حالة الشرود والضياع إلى حالة الوضوح في الأهداف، وتوجيه الجهود إلى مرضاة رب العالمين.
رحم الله الخنساء، ورحم أولادها الأربعة، ورحم عمر أمير المؤمنين الذي بادر صبر العجوز واستبسالها بالدفاع عن دين الله بالشكر والامتنان، فأجرى لها أرزاق أولادها الأربعة حتى قُبض -رحمه الله-.
هل تربين أبنائك على الجهاد؟ على الدعوة وطلب العلم، وعلى طاعة الله، ومراقبته -جلَّ وعلا-؟ أم ما الذي ربيت أبناءك عليه؟ على أفلام الكرتون، وعلى الأغاني والمسلسلات، وعلى الأفلام والرقص، ثم إذا كبر شيئًا ما، على الملاهي، وعلى أماكن التبرج والاختلاط، ثم إذا كبر فعلى المطاعم والوجبات السريعة، يمكث ليله كله هناك. وأي شيء يلبس؟ انظري إلى لباسهم، العجيب أن أمه محجبة ملتزمة، وأبوه لا يفارق المسجد، وهو يُعطى من الأموال ما شاء، ويسهر الليالي أين شاء، ويسافر كيف يشاء، ويجلس مع من يشاء! اسألي نفسك هل أرضعته حب طاعة الله؟ وهل عودتيه على حب الصلاة؟ وهل قرأ القرآن؟ أم ماذا يا أمة الله؟
إنها أم، تستقبل بعد غزوة أحد الناس وقد أُشيع أن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- قد قتل، فجاءت تستقبل الناس، فلما استقبلت الناس قيل لها: إن أخاك قد قتل، وإن أباك قد قتل، وإن زوجك قد قتل، وإن ابنك قد قتل، كلهم قتلوا في غزوة أحد، فلم ترد عليهم، وقالت: وماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أربعة من أقرب الأقربين قد قتلوا، وهي تقول: ماذا فعل رسول الله؟ فدُلت عليه، فأخذت بناحية ثوبه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من العطب، لا أبالي إذا سلمت من العطب.
نعم إن المرأة هي مربية الأجيال، إن المرأة هي حاضنة الرجال. أولئك الرجال الذين تربوا بحضن مَن؟ الإمام أحمد مَن ربته ومَن علمته؟ إنها أمه -رحمها الله-، كانت تذهب به إلى المسجد، فصار ابنها إمام أهل السنة والجماعة، شيخ الإسلام مَن ربته؟ الأئمة الأعلام مَن الذين ربوهم؟ يا أمة الله! اعقلي، إن عليكِ وبيديكِ أن تربي الرجال ليكونوا مجاهدين، وليكونوا علماء، وليكونوا دعاة إلى الله -عزَّ وجل-.
لها موقف مع أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب“. فلم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخرًا ومعاوية حتى أدركت الإسلام، فأقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهي عجوز كبيرة، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الخنساء قد قرحت مآقيها من البكاء في الجاهلية والإسلام فلو نهيتها لرجونا أن تنتهي. فقال لها عمر: اتقي الله وأيقني بالموت. فقالت: أنا أبكي أبي وخيري مضر: صخرًا ومعاوية، وإني لموقنة بالموت، فقال عمر: أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة في النار؟ فقالت: ذاك أشد لبكائي عليهم. فكأن عمر رق لها فقال: خلوا عجوزكم لا أبا لكم، فكل امرئ يبكي شجوه، ونام الخلي عن بكاء الشجي.
من كلمات الخنساء
كانت لها موعظة لأولادها قبيل معركة القادسية قالت فيها: “يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقه، فتيمموا وطيسه، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة”.
ولما وصل إليها نبأ استشهادهم جميعًا قالت:
الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
وفاة الخنساء
ماتت الخنساء -رضي الله عنها- سنة 24 هـ/645م بالبادية في أول خلافة عثمان -رضي الله عنه- سنة 24هـ. عمرت إلى أن أدركت نصر الإسلام المبين كان موتها في عامها الحادي والسبعين، وقد طبقت شهرتها الآفاق، إن لم يكن ببكائها على سادات مضر، فباستشهاد بنيها الأربعة.
ماتت ومعها شاهد تضمن به تسجيل يوم موتها، ولا يعتمد فيه على الروايات، وإنما اعتمد فيه سجلات الدولة المدون فيها اسمها، لتستلم أرزاق بنيها الشهداء الأربعة من ديوان بيت المال، وكان عمر قد قدر لها عن كل واحد مائتي درهم إلى أن قبض رضوان الله عليه. ولعل ربى يوم القيامة أن يشرفك بلقائهم، فيفتخروا بك وكأنك كنت من نسلهم. فلا تلوموني يومًا إذا وقعت أسيره لحبهم، فهيا لنأخذ العهد لنجدد ماضي عزهم!
إن العلمانيين والمنافقين يثبطونك، خسئوا وتعسوا، يقولون: دورك الآن أن تكوني عضوًا في مجلس الأمة، دورك الآن أن تخوضي مع الرجال، دورك الآن أن تخرجي من البيت، من هذا السجن، من هذه القيود، انفضي عنك الغبار، اقطعي هذا الحجاب، أحرقيه واخرجي بين الرجال، حتى قالت إحداهن: لمَ هذه القيود؟ لِمَ هذه القيود على المرأة؟ هل لأن الله ذكر وليس أنثى؟! نعوذ بالله من هذه الكلمات، وإلى آخر هذه المقولات، من تلك النساء الغافلات. أمة الله! لا تغرنكِ هذه الحرب الشعواء، فإنما أنت مربية الأجيال، وصانعة الرجال. فأين أنت!