ما البديل عن الديمقراطية؟

“كلامك مقنع، لكن ما البديل؟” كان هذا أكثر تساؤل أُثير طوال الأشهر الماضية على طرحي في سلسلة (نصرة للشريعة) وفي الحلقات المفردة المتعلقة بالانتخابات. ولا يخفى أنه تساؤل متوقع. ولكني -ولا زلت- أؤخر الإجابة عن هذا السؤال عمدًا لأني أسير بترتيب معين لا أريد له أن يختل. فبعد المحاور التي طرحت في الحلقات الإحدى والعشرين الماضية يتبقى أمامنا:

  • بيان الآثار السلبية لدخول الـ”الإسلاميين” البرلمانيين في العملية الديمقراطية ولتصريحاتهم المتعلقة بتطبيق الشريعة.
  • تناول الأدلة التي يطرحها مؤيدو المسلك الديمقراطي ومبررو تعطيل الشريعة أو تأجيل تطبيقها دليلًا دليلًا ومناقشتها.
  • بيان موقف مراكز التخطيط الاستراتيجي ودوائر صنع القرار الغربية من انخراط الـ”إسلاميين” في العملية الديمقراطية.
  • مقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية في المسائل التي تُهاجم الحضارة الإسلامية من خلالها.
  • إعطاء “البديل” الشرعي الصحيح عن المسلك الديمقراطي. وكان من أهم أسباب تأخير الحديث عن الـ”بديل” الشرعي هو السير بطريقة “التخلية ثم التحلية”، و”النفي ثم الإثبات”. أريد أن أقطع الأمل في المسالك الديمقراطية التنازلية وأسقطها من خياراتنا وأبين بطلانها شرعًا وواقعًا، ومن ثم أعرض الحل على قلوبٍ خلت من التعلق بالمسالك الباطلة.

لكن عددًا من المتابعين يلح عليّ باستمرار أن أقدم الطرح البديل. والبعض تعجل الحكم بأنه ليس لدينا بديل، وأن ليس لدينا إلا الانتقاد والتنظير دون تقديم حلول عملية للوصول إلى النهضة المنشودة.

وأنا لن أدع هذه الضغوطات تخرجني عن مساري ولا تحرق لي المراحل، خاصة وأن الحديث عن الـ”بديل” لن يستغرق حلقة وحلقتين فحسب، بل ويستلزم منا جهدًا كبيرًا جدًا في التحضير. لكني سأعطي إشارات سريعة لا يراد لها أبدًا أن تكون عرضًا شاملًا متكاملًا مؤصلًا للـ”بديل” الشرعي، وإنما نوردها لنبين أن مسارنا الذي نسير فيه حاليًا هو مرحلة لا يمكن تجاوزها في سبيل الوصول إلى النهضة المنشودة. وسأقسم هذه الإشارات على كلمتين هذه أولاهما. فأقول وبالله التوفيق:

بديل عملي مفصل

من أعجب العجب أن يطالبنا بعض الإخوة بـ”إعطاء بديل عملي مفصل لطريقة الوصول إلى الحكم” كما نص بعضهم، ويريد منا أن نعرض هذا “على الهواء مباشرة”! ولعل إخواننا هؤلاء يظنون أن “بدائلنا” مرحب بها قانونيًا محليًا ودوليًا كما الحال مع “بدائلهم”! وكأننا في بلاد لا حد فيه لحرية التعبير.

فأود أن يعلم القارئ الكريم أن النظام الدولي الحالي يعرف من أين تؤكل الكتف، فيتعامل مع من يقترب من أكل أكتافه وتقويض بنيانه بقسوة جنونية، بينما يفتح للمعترضين عليه طرقًا ناعمة وردية يعلم النظام الدولي جيدًا أنها لن تزيده إلا قوة ورسوخًا. فلا يتوقعْ أصحاب المسالك الناعمة من آكلي الكتف أن يعبروا ويشرحوا ويفصلوا بأريحيتهم، إذ أن البطش والمسميات والتهم الجاهزة في الانتظار!

فالنشاط الجماعي غير المرخص من النظام الدولي هو “تكوين جمعيات أشرار، والدعوة باللسان إلى الجهاد أو حتى الثناء على فصيل مجاهد هو “تجنيد عناصر للقيام بأعمال إرهابية”، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد أصابته هذه التهمة أيضًا، إذ قانون التجنيد يشمل من “يقوم على من يعولهم العنصر في غيابه.”!

 وجمع المال أو التبرع به لمن يحارب قوات الاحتلال في بلد من البلدان هو “تمويل منظمات إرهابية” عقوبته “الحبس مدة لا تقل عن عشر سنوات وغرامة مالية بقيمة تصل إلى ما يعادل حوالي مليون ونصف دولار “!وانتقاد نظام من الأنظمة الشرقية أو الغربية القائمة هو “تعكير صفو العلاقة بدولة أجنبية” عقوبته خمس سنوات من السجن على الأقل. هذا غير تهم إطالة اللسان وإثارة النعرات…

ولعل كثيرًا من القراء الكرام لا يعلم أني حديث الخروج من الأسر بعد تعرضي لبعض هذه التهم! وها هو عدد من الشباب يحاكَم لمحاولته الذهاب إلى سوريا للجهاد.

وفي المقابل نرى النظام العالمي يفتح ذراعيه وحضنه للانخراط في العملية الديمقراطية ويتقبل “غزوات الصناديق” الناعمة ويبعث مندوبين للإشراف على “نزاهة” الانتخابات وينص في دراسة (كيف تتلاشى الجماعات الإرهابية) على أن دمج الإسلاميين في العملية السياسية هو من أفضل السبل لنزع فتيلها والتخلص من خطرها.

في ظل هذا كله فإني أستغرب جدًا من هؤلاء الإخوة الذين يطالبونني بـ”إعطاء بديل عملي مفصل لطريقة الوصول إلى الحكم” وبثه ليستفاد منه، ولربما يتوقعون أني إذا أعلنت هذا البديل فإني سأحصل على جائزة نوبل للآداب وجائزة وزارة الثقافة للإبداع وستأتيني الأنظمة تعرض علي التعاون معها لتحقيق الخطط ويطلب السفير الأمريكي مقابلتي لبحث السبل. (ما لكم كيف تحكمون)؟! والمضحك المبكي هو أن بعض هؤلاء الإخوة ذاتهم يصفني بـ”قلة إدراك الواقع”!.

فأنصح إخواني هؤلاء بالرجوع إلى السيرة النبوية ودراسة بيعة العقبة وملابسات الهجرة إلى المدينة. وليعلموا أن مثلي يسير في حقل ألغام ويستفيد من الدائرة المتاحة بالطرق الشرعية مع الموازنة التي تقتضي أن قليلًا مستمرًا خير من كثير منقطع. وعلى ضوء هذه النقطة الأولى ينبغي فهم الإجمال في النقاط التالية.

ما البديل؟

كنت أرد أحيانًا ردًا مجملًا على سؤال (ما البديل؟) بأن علينا التركيز على الدعوة لتصحيح أفكار الناس وتصوراتهم. فيعترض البعض بنبرة فيها التقليل من شأن الدعوة. وأود هنا أن أذكر بأول جملة في دراسة مركز التخطيط الاستراتيجي (راند) الصادرة عام 2007 بعنوان (بناء شبكات إسلامية معتدلة)… إذ كانت أول جملة :

.The war in most of the Muslim world now days is a war of thought

إن الحرب في معظم أنحاء العالم الإسلامي اليوم هي حرب أفكار.

فيبدو أن أعداءنا يفهمون طبيعة المعركة وأهمية الدعوة أكثر منا!

الثورة المصرية مثلًا كانت في بداياتها مصدر رعب للعالم الغربي. وكانت تتطلب من الـ “الإسلاميين” وضوحًا في الرؤية والأهداف وتمسكًا بالثوابت وصفاء في المنهج ومعرفة بطبيعة العدو. ونزعم أن الإسلاميين لو تملكوا هذه المقومات لكانت هذه الثورة بداية الفرج للأمة الإسلامية بأسرها، ولاستلهمت نجاحَها شعوب العالم الإسلامي.

لكن التشوش الفكري المنهجي الذي لاقى وَهَنًا من نفوس بعض الإسلاميين فوَّت الفرصة وحوّل الثورة إلى نموذج بائس محبط للشعب المصري والشعوب الإسلامية من ورائه. والمشكلة لم تكن بالدرجة الأولى مع الشعوب، بل مع الإسلاميين أنفسهم الذين لم يحسنوا قيادة المرحلة. ولهذا فإننا نرى الدعوة التي نسير فيها، والموجهة إلى الإسلاميين والمهتمين بنهضة الأمة، ضرورة لمنع تكرر هذا الإخفاق.

لذا فعلينا تجنب هذه النبرة التي تقلل من شأن “التنظير” وكأنه مضيعة للوقت، في الوقت الذي أدرك الغرب أن هذا التنظير وحرب الأفكار لا يقل أهمية عن الحرب العسكرية، الأمر الذي جعله يُضيق الخناق ويفرض القوانين حتى على هذا الجانب التنظيري.
والغريب أن الذين يقللون من شأن التنظير يمارسون هذا “التنظير” علينا ويرون بضرورة أن يتصدوا للرد على طروحاتنا! فنقول لهم: إن كنتم لا ترون فائدة في التنظير فلماذا الرد على أطروحاتنا؟ لبيان ما ترونه فيها من “باطل” وتحذير الناس منه؟ إذن فهذا من أهدافنا أيضًا في “تنظيرنا”: بيان باطل مسالككم والتحذير منه ليقيننا أنه يترتب عليه فشل وإخفاق ونتائج عملية سلبية في الواقع.

تصوب عقيدة الناس

هب أن طرحنا هذا لم يُؤَدِّ إلى قيام دولة الإسلام، فإن المقصود منه هدف أهم وأعلى حتى من قيام دولة الإسلام، ألا وهو تنقية معتقدات المسلمين من تصورات نخاف عليهم أن يلقوا الله تعالى بها. وسنعرض لها في المحور القادم من حلقات السلسلة بإذن الله.

فتسويغ الحكم بغير الشريعة، وتسويغ أن يُرهن تطبيق الشريعة بموافقة الشعب أو البرلمان، وتشرّب النفوس لمبادئ الديمقراطية المتعلقة بالحريات والتعددية غير المنضبطة بضوابط الشريعة والدفاع عن هذه المبادئ وادعاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم تنازلات عن ثوابت وفقدان الثقة في رصيد الفطرة الذي تخاطبه الشريعة وتبرير التفلت من أحكام الشريعة حتى على مستوى البيت والفرد ذاته والنفور من أحكام شرعية كما ظهر ويظهر من مساجلاتنا مع خصوم الرأي، هذا كله خلل في المفاهيم والتصورات كالخلل الموجود لدى بعض المتصوفة والجهمية والخوارج وغيرهم من الطوائف الضالة.

ومن أشرف المهام وأعظمها اجرًا أن تصوب عقيدة الناس وتصوراتهم. وهذا التصويب هو بحد ذاته نجاح بغض النظر عن انعكاساته على حياة الناس العملية.

(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”) ونحن بسيرنا في هذه السلسلة نسعى إلى أن يصيبنا ويصيب إخواننا الذين يتبنون طروحاتنا نصيب من هذا الحديث.

فلا ينبغي أن يقال لنا: “وضح كيف سيقود هذا الطرح بعد خمس سنين أو عشر سنين إلى قيام الدولة الإسلامية”! فحتى على فرض أنه لم يؤدِّ، فكفى أنه يصب في الغاية التي من أجلها تُقام الدولة الإسلامية، وهو حراسة العقيدة الإسلامية مما يشوبها وتحقيق معاني العبودية في نفوس الناس. وهذا هدف لدينا في ذاته. فكيف ونحن نرى أن هذا التصحيح هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها لقيام الدولة. وقد بوب البخاري في مستهل صحيحه: (باب: العلم قبل القول والعمل).

ختامًا

أعجب من الإخوة الذين يقولون ما مفاده “أنا مقتنع بما تقوله من حرمة المسالك الديمقراطية، لكن لا أستطيع أن أترك تأييدها حتى تعطيني البديل.

فالسؤال هنا:

هل المطلوب منا أن نعمل شيئًا فحسب؟ أم أن نعمل بما يرضاه الله؟

هل العمل هو لمجرد التنفيس عن مشاعر الاستياء من الواقع؟ أم هل نظن أننا إن عملنا بطريقة غير شرعية فإن الله سيبارك في عملنا ويجعله سبيلًا إلى نهضة الأمة؟!

هَبْ أني لم أعطك البديل، ألا يتوجب عليك ترك مسلك الديمقراطية بمجرد أن يثبت لك عدم شرعيته؟ ثم كيف تتوقع أن ينور الله بصيرتك للطريق الذي يرضاه إن كنت مقيمًا على طريق اقتنعت! أنه غير شرعي، وهو تعالى القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) تفرقون به بين الحق والباطل. فاتق الله فيما تعلم من بطلان هذا المسلك ليرزقك علم ما لم تعلم من الطريق الذي يرضاه الله.

د. إياد قنيبي

داعية إسلامي أردني ودكتور جامعي ومكتشف في مجال علم الأدوية.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. بارك الله فيك
    نرجوا ان تقوم ادارة الموقع بعد الانتهاء من السلسلة بتنسيقها في كتاب pdf

  2. على مسألة التنظير هاته اضيف بعض ما كتبه شيخنا ابو مصعب السوري في كتابة المقاومة العالمية حيث اقتبس كلمة تعبر عن واقع الحال من احد ضباط المخابرات الاردنية حيث سأله احد السجناء (وكان من اصحاب التيار التعبدي وقد قسم الكاتب مجموعات التيار الاسلامي الى اربع اولها تيار لا سياسي يعني اسلام تعبدي هدفه تزكية النفس، تيار سياسي من امثال الاخوان هدفه الدخول بالدين في المعترك السياسي لاجل تحقيق مصالح يرونها ايجابية، تيار جهادي هدفه اقتلاع الفساد والتمكن وانشاء الدولة وتحكيم الشرع، تيار تكفيري)
    فقال السجين للضابط نحن لم نفعل شيء!؟ لا دخلنا سياسة ولا حملنا سلاح على الدولة ولا كفرنا الحكام والناس!!؟
    فرد الضابط عليه انتم الاسلامين مثل الاوتوبيس
    يطلع المسلم. فيه معكم فيتدين اولا عندكم ويتربى وانتم توصلونه للاسلام السياسي الذي يوعيه ويبين له ثم يوصله هذا تيار للاسلام الجهادي الذي يدربه وينمي قدراته القتالية والفكرية وبعدها يرفع السلاح على الدولة ليغير!!
    اذن فكان لابد من تعطيل هذا الاوتوبيس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى