لماذا يغازل اليمينُ طالبان في فضاء الإنترنت

هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Why the online Right flirt with the Taliban لكاتبته: Esmé Partridge في موقع: unherd.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

الإسلاميون يملأون الفراغ الذي تركه المحافظون الجُدد، في الأسابيع التي تلت سيطرة طالبان على أفغانستان، ظهر تعاطف مع هؤلاء ( طالبان ) من زاوية غير متوقعة منبوذة في الإنترنت؛ ألا وهم “اليمين المتطرف عبر فضاء الإنترنت”. ففي ظل الرهبة من الروح القتالية والتمردية لهذا التنظيم الإسلامي الإرهابي ضدّ الليبرالية؛ ظهر عدد من المُشَاقِقين (ممن يسبحون عكس التيار) ليعطوا صورة بطولية عن مقاتلي طالبان في وسائل التواصل الاجتماعي.

فمن رسوم كاريكاتورية تصورهم على أنهم رجال أشداء (تشادز Chads [لفظة عامية إنترنتية أمريكية شاعت في عصر الإنترنت])، إلى مشاركة صور مكتوب عليها “فتى الصيف الوهابي” (على غرار الشعار الشعبي الأمريكي “فتى الصيف الأبيض”)، فإن الكثير من الصور المركبة المضحكة (memes) المُجاهرة بارتباطها بثقافات فرعية رقمية هامشية فجأةً ظهرت ودخلت في الحوارات عن الإرهاب، بما فيهم أعضاء طالبان أنفسهم.

إن استخدام نفس الاستعارات التي يستخدمها اليمين المتطرف -وتحديدًا ثنائية ميمات تشاد مقابل وجاك- يخبرنا عن التباكي المشترك بينهما على “انحلال الحداثة” و”سقوط الغرب”. ولكن هذا التحالف أيضًا يلقي بعصي في عجلة الرواية التقليدية التي تحيط بالإسلام واليمين.

ومع ذلك، ففي الخطابَيْنِ: الرئيسي والهامشي المحافظ، يعدَّانِ الإسلام الجاني الأول الذي يدفع نحو تدهور المجتمع. وسواءً كان اللائم من اليمين الحداثي على شكل مجموعات قومية بيضاء أوروبية مثل “الحركة الهوياتية” الذين يلقون باللوم على الهجرات الإسلامية؛ لما يقومون به من “الاستبدال العظيم“، أو كتَّاب أعمدة صحف اليمين؛ معتبرينهم “تهديدًا لقيم الحرية”؛ فإن العدوانية تجاه الإسلام تبقى سمةً مميزةً في الخطاب الحداثي اليميني. وليس أقل من هذا غموضًا؛ عداوة الإسلاميين أنفسهم تجاه اليمين على أنهم طليعة الثقافة الغربية التي يقاومونها، فيظهر للطرفين أن التقارب بينهما غير معقول.

من جهة أخرى، يظهر من البداهة أكثر أن يكون هناك حلفٌ إسلاموي يساري. ففي الآونة الأخيرة، كان يُنظر إلى بعض الإسلاميين على أنهم يتشاركون “اليقظة”، ويخفون أجندتهم تحت ستار خطاب التنوع والانتماء. ولكن بعيدًا تمامًا عن موضوع المبالغة؛ فإن الحلف الإسلاموي اليساري مصدر للكثير من التحليلات، كون عدد كبير من الموضوعات الإعلامية الأشد شيوعًا تكشف مدى العلاقة بين اليسار والإسلاميين، من تقاطع بعض قضايا المسلمين واليساريين بين النشطاء من الطلاب إلى حقيقة أن المسلمين الغربيين -بحسب الإحصاءات- يميلون إلى التصويت للأحزاب اليسارية.

مع ذلك، فإن هذا الحلف لا يخلو من التجاذبات الخاصة بها، فاليساريون الحداثيون تتوتر علاقتهم مع الدين التقليدي ويكافحون ضد تضمين الأخلاقية المطلقة، والهياكل الروحية، والخضوع للنظام الإلهي (الشريعة)؛ والتي هي جزء لا يتجزأ من الإسلام. يعني على الرغم من أن اليساريين الحداثيين يسعون إلى تفتيت السرديات الكبرى، فإن الإسلام بحد ذاته سردية كبرى، بل مشبع بقوة ميتافيزيقية في هذا.

طبعًا هذا لا يدعونا للتغاضي عن أنه حدثت العديد من المحاولات لإقامة التقارب المنهجي على صعيد الفلسفة السياسية بين الإسلاميين واليساريين. وأكثر ما ظهر هذا الأمر في القرن العشرين عبر حركات مثل الاشتراكية الإسلامية في الثورة الإيرانية أو الحزب الثوري الاشتراكي الصومالي. وقد حاولوا تحقيق أهدافهم السياسية عبر وسائل كانت -أو على الأقل سعوا لأن تكون- صادقة. ومن الجدير بالتنويه أيضًا أن هذا النوع من اليسار (وهو أقرب إلى الماركسية الأصولية) كان متعاطفًا مع السرديات الكبرى من الأشكال المعاصرة التي طغت عليها التيارات ما بعد الحداثية (بغض النظر عن المشاعر المعادية للدين لماركس نفسه).

اليوم، يغلب على محاولات اليسار الغربي الطامحة للتحالف مع المسلمين تجاهلُ السرديات الدينية؛ فمما لا يثير الدهشة عدم محورية التقاليد الدينية والفكرية الإسلامية في النشاط العلماني. وعلى الرغم من أن اليسار الحداثي (الملتزم بإظهار التضامن مع مجموعات الأقليات) قد يمثل الهويات المسلمة، فإنه يكافح لتمثيل قيم المسلمين. وإن تضمين معتقداتهم التقليدية يجب أن يشمل مراجعة انحيازاتهم العلمانية الخاصة (والغربية الحداثية أيضًا)، وهم على الرغم من جهودهم لـ”تصفية استعمار العقل” غالبًا ما يترددون عن القيام بذلك.

في الواقع، فإن اهتمامات اليسار الحداثية تتلخص بسياسات الهوية، ولعله دافع يدفع بالمسلمين الملتزمين ليجذبهم إلى الجانب الآخر من الطيف الفكري. لكن الدين أيضًا لدى اليمين الحداثي نزل إلى مرتبة سياسات الهوية، ليشيع مصطلح “ذو ثقافة مسيحية”. المعلقون ممن يصنفون أنفسهم “بالمناهضين لليقظة” قد يستشهدون في ترانيمهم للعودة للتقاليد، ولكن الاستشهاد غالبًا يأتي من باب التعلق بالرواسب الثقافية والجمالية للدين بدلاً من مبادئه الأخلاقية والميتافيزيقية. وبقدر ما يتعلق الأمر بالفكر؛ فإن هناك تركيزًا أكبر على الإيمان بمسلمات التنوير الأوروبي (المتمثل بالحريات الفردية، وحرية الخطاب، والعلمانية) من مسلمات المسيحية التقليدية، التي تم اختزالها الآن إلى مجرد مؤشرات عن الثقافة الغربية.

ويترتب على ذلك، بأن السبب وراء ازدراء اليمين للإسلام لا ينبع من دفاعٍ ديني عن المسيحية، بل هو من قبيل الدفاع الثقافي. ومثله تمثيل اليساريين للمسلمين -النابع من تحيزاتهم العلمانية– ينتهي بهذا التمثيل إلى اختزال الإسلام لمكونٍ ثقافي. وفي واقع موضوع الدين لدى اليمين ولدى اليسار، تم التخلي عن البعد الميتافيزيقي واللاهوتي في اعتباراتهم.

وهذا يشير من بين أمور أخرى، إلى تحول كبير لدى اليمين. فتقليديًا كان اليمين هو من يُظهر تمسكه بالمبادئ الدينية؛ بما فيها مطلقية الأخلاق، والمراتب الرُّوحانية، والخضوع للنظام الإلهي. لكن اليمين الحداثي أصبح يتجاهل هذه الأمور بتركيزه الآن على الحريات الفردية، وحرية الخطاب، والعلمانية. ويعيد مَوضَعَة أصوله للتنوير الأوروبي، متناسيًا أن التقاليد المحافظة ولدت من جراء التردد تجاه التنوير.

طالبان
روجر فيرنون سكروتن‏، فيلسوف وكاتب إنجليزي، عضو الجمعية الملكية للأدب، زميل في الأكاديمية البريطانية، مُتخصص في فلسفة الجمال والفلسفة السياسية، لاسيما في تعزيز الآراء المحافظة التقليديّة.

روجر سكروتن‏ (أحد آخر الفلاسفة في الدفاع عن المحافظة باعتبارها الثقل المقابل في وجه التنوير، وبدلًا من أن يعتنقها كلها) يرى أنه لا بد للسياسة من بُعد ميتافيزيقي. وبقي ملتزمًا بأصول المحافظين البريطانيين على أنها رد ضد تظرُّف الليبرالية والعلمانية، مقتفيًا إدموند بورك ومايكل أوكيشوت، وماثيو أرنولد. وبحسب ما كتب فإن المحافظة هي “الدفاع عن التقاليد في مواجهة نداءات الأديان الشعبية، والدفاع عن الثقافة العالية في مواجهة العقيدة المادية في التقدم”.

وبهذا الاعتبار، تظهر لنا فكرة التحالف بين الإسلام واليمين منطقية؛ فالإسلام لليبرالية التنويرية يمثل العديد من التحديات نفسها التي واجهتها ضد التقاليد الإنجليزية المحافظة، فكلاهما (الإنكليز والإسلام) يريَانِ في المادية الحديثة خطرًا اجتماعيًا ورُوحيًا. والإسلام بحسب هذا المنطق، يستوعب تعريف سكروتون لـ”المحافظة الميتافيزيقية” في الدفاع عن المقدسات ضد الامتهان (الليبرالي) لها. لكن اليوم، اليمين الحداثي منشغل أكثر في الدفاع عن حرية الخطاب ضد “اليقظة”، والحريات الفردية ضد الجماعية، والحرية ضد الحجب أكثر من المقدسات ضد امتهانها.

ماذا يخبرنا هذا عن التحالف المزعوم بين اليمين المتطرف والإسلام؟ كون الاتجاه السائد لليمين ما عاد يهتم بالقيم التقليدية؛ فإن رواسبهم الفكرية انجرفت لتلتقطها الثقافات الفرعية المهمشة. لكن هذه البقايا انخلعت من سياقاتها الأصلية، أُسيء استعمالُها بما يناسب لتناسب الأيديولوجيات المتحررة من القيم الدينية.

إن حقيقة بحث الكثيرين لأفكار تقليدية في ظل هذه الثقافات الفرعية المتطرفة أو مواجهتها يعلمنا بحقيقة أن هذه الأفكار يُغفل عنها كثيرًا في الحوارات السياسية. فهذا كان يومًا ما دور اليمين، لكن اعتناق المحافظين الجُدد لليبرالية والعلمانية (على الرغم من أنها نشأت ضد هذه الأيديولوجيات التنويرية) تستبعد تلك الأماني في الدفع عن المقدس. فلن يشكل المُشاقِقون قلقًا حقيقيًا مع استمرارهم في الانزياح نحو التطرف، حتى لو تمثل ذلك بترويجهم لمجموعات مبغوضة مثل طالبان.

فالدفاع عن الأدوار الاجتماعية بحسب الجنس (مثل المجتمع والعائلة) تُصاغ في الغالب لديهم عبر الاختزالية البيولوجية الصرفة بدلًا من أن تكون عبر القيم الروحية. فسواءً كانت [العقيدة المُتبعة] هي تصنيم التربة والدم (شعار النازيين) للنازيين الجدد، أو الإلحاد الجديد للمتشددين العقلانيين، فإن معظم اليمين المتطرف ما عاد إلا ماديًا ومعاديًا تجاه الأديان التقليدية.

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى