أين الطريق: تحضير النفوس لاستقبال النور من الرسول والمشاعر السبعة
في المرة الماضية، تعرفنا على تصنيع الله لشخصية الرسول ودورها في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتوقفنا عند أنه يجب عليَّ أن أحقق صفات الخيرية في نفسي، لأكون رأس مال للدعوة.
واليوم نستكمل ما بدأناه، فكيف تُحضّر نفس المسلم لاستقبال نور الرسول؟ وكيف لي أن أنتفع بسنته؟ هذا ما سنستعرضه معًا، بإذن الله.
إن النور الذي أتى به النبي وطريقته البديعة في إيصاله، كانت من الممكن أن تصبح عديمة ولا يكون لها أي اثر، بل وقد تكون سببًا في كُفر الناس، لذا فليست العبرة بشخص النبي لكن العبرة بمن يتلقى هذا النور فينتفع به.
كيف ننتفع بسنة الرسول؟
هب أن لديك محطة تلفاز بها أفضل المذيعين لكن جهاز التلفاز لديك لا يعمل، فكيف تكون استفادتك أنت من جهود عشرات الآلاف من الإعلاميين!! المشكلة في استقبالك انت وتلقيك، يقول الله تعالى للنبي: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ).
ويقول عن استماعهم والذي من المفترض أنه أداة من أدوات فهم الهدى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، لديهم قدرات لكنها معطلة! وحتى الفهم والوعي والادراك: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا)، (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ).
نعم النبي مؤثر ومنطقه مؤثر لكنهم لا يفقهون ولا يسمعون ولا يدركون، ويقول الله في هذه الحالة عنهم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ..).
هم كالبهائم: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) وهذه الأصناف من البشر لا تعي ولا تسمع ولا تبصر، فبماذا تفيدهم روعة نبيهم؟
لذلك تجد من الأنبياء من دعا ولم يستجب له أحد أبدًا، وهناك من عاش مع قومه عمرًا كبيرًا ولا يأتي معه إلا رجل واحد يوم القيامة. ففي حديث رسول الله يقول: “عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد ..” والرهيط: هي عشيرة الرجل وقومه، وقيل هي ما دون العشرة.
إذًا ليس العيب في النبي الذي لا ينقصه إخلاص ولا معرفة بوسائل الدعوة وطرق التأثير في الناس ولكن العيب في استقبال ذلك الشخص المدعو إلى الدعوة.
وأفضل نموذج تطبيقي لهذا الكلام، هو دعوة النبي. فهل تعلم سيدي القارئ أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أدت إلى تكذيبه وهو الصادق الحريص عليهم حتى أن الله يقول عنه: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)؟
لقد أصيبت مفاهيمنا في القرن الحالي وأصبحنا لا ندرك أن طريق الدعوة مكابدة وتعب وأن من تدعوهم سيُعرضون عنك ويتهمونك! فحينما شاعت دعوة النبي اتهمه الناس بالكذب والسحر والجنون، ووصل الأمر بهم أن قالوا للنبي: “أما وجد الله غيرك يرسله لنا؟!”
في صورة ممتلئة بالتناقض، أليس هذا محمد الذي ارتضيتم بحكمه في واقعة الحجر الأسود؟
فنعم، يرى الكفار في محمد صفات الكمال ويرفضها، حتى أنهم يقولون: “.. هُوَ أُذُنٌ ۚ..” أي يسمع من كل شخص ما يقول فيقبله ويُصدقه. حتى إذا دعاهم النبي إلى الدعوة وإلى أن يستغفر لهم الله كان هذا رد فعلهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ).
فالدعوة يا سيدي القارئ ليس مهمة سهلة، فقد أُصيبت مفاهيمنا بالعطب، وظننا أن الطريق سهل ومفروش بالورود، الدعوة يا أخي هي دعاءٌ بالليل ومنطلق ومنطق بالنهار.
لكن دعوة النبي والأثر الذي رأيناها من قبولهم للدعوة بعد رفضهم إياها، تعلمنا أنه لابد أن يكون هُنالك طريقة تساعد الناس في التلقي.
هداية سيدنا عمر بن الخطاب نموذجًا
عمر بن الخطاب الذي اُشتهر عنه بِغلطة الطباع وصده عن الدين وبأسه وشدته على الإسلام والمسلمين قبل إسلامه، حتى أنه كان يعذب جارية له من أول النهار حتى آخره، ثم تركها في الأخير وقال لها: “والله ما تركتك إلا ملالة”!
وانظر إلى عمر بعدما لطم أخته فاطمة بنت الخطاب حين علم بإسلامها هي وزوجها، وسال الدم من وجهها، ثم سألها أن تريه ذاك الكتاب الذي آمنوا به، فأبت أن تعطيه إياه إلا إذا تطهر، ويقوم عمر بهدوء ويتطهر! ويجلس ممسكًا القرآن ويقرأ بلسانه وقلبه أوائل سورة طه فيتغير شيء بداخله وقال: “ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله!”.
نماذج من تطبيق/تعامل الصحابة للسنة/مع السنة
إن طريقة تعاطينا مع السنة هي التي تخرجنا من الظلمات إلى النور، فقد ذهب ثلاثة رهطِ من المسلمين إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي شعروا أنها قليل، فأرادوا الزيادة بُغية أن يزيد إيمانهم، فالأول أراد أن يقوم الليل كله ولا ينام، والثاني يصوم دومًا ولا يفطر، والثالث يعتزل الناس!
فعلمهم النبي وقال لهم:
أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
إذًا فالسنة تكفيك!
الواقعة الأخرى التي تبين لك كيفية تعاطي المسلمين الأوائل للسنة، هي أن النبي قد اختار لزيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش لتكون له زوجًا، فترفض زينب.
ما الذي سيحدث؟
يتنزل الوحي إلى رسول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا).
فسألت أمنا زينب رسول الله: قد رضيته لي يا رسول الله منكحًا؟ قال صلوات ربي وسلامه عليه: نعم.
فقالت زينب: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي.
هذه الواقعة تضعك أمام المرآة، لترى إلى أي درجة تستسلم لأوامر النبي وتنقاد لها؟ وفي حال كنت في صحبة النبي، وعرض عليك أمرًا هل كنت ستختار غير ما اختاره لك؟
إذًا تعامل الصحابة مع هديه وسنته أنها واجبة، أما نحن فتركنا هديه وسنته لأنها سنة!
يجب أن تتكون لديك القناعة بأن النبي لن يأمرك إلا بما فيه خيرٌ لك، فقد جاء إليه رجل، فسأله النبي: “ما اسمك؟” قال: اسمي حزن، قال له رسول الله: “بل أنت سهل”. فقال له الرجل: ما أنا بمغير اسمًا سمانيه أبي!
فيقول سعيد بن المسيب وهو حفيد ذلك الرجل صاحب القصة: فمازالت فينا الحزونة بعد، أي: فبقيت صعوبة الخُلق والغِلظة في نسله. لكن ما الذي جعل الصحابة ينتفعون بنورانية الرسول؟ كيف يستقبل المسلم بالوحي فينتفع به؟
إن الذي جعل الصحابة ينتفعون بهدي النبي، هو أنهم فهموا الدين لحمله، لا لجعل الناس تتأثر به. فالنبي يقول: “إن هذا الأمر لا يقوم به إلا الذي حاطه من جميع جوانبه”، وحتى يتهيأ المسلم لاستقبال هذا النور، هنالك صفات من الواجب تحققها في المتلقي، فما هي هذه الصفات؟
المشاعر السبعة لاستقبال النور من رسول الله
حتى تستقبل النور من الرسول، من الواجب أن تتوافر لديك سبعة مشاعر قلبية، فالتربية في الإسلام تربية قلوب أولًا، وقد قال ابن رجب-رحمه الله-: “القلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المنقادة لأوامره..”.
وقد تم استنباط هذه المشاعر من القرآن الكريم وسنة نبيه.
الشعور بالإجلال تجاه النبي
إن هذا الشعور سيتولد في قلبك بتعرفك على النبي ومعرفة مكانته، فربما لتبسطه صلوات ربي وسلامه عليه، لا ندرك قيمته ولا نعرف قدره، وليس هنالك من يعرف النبي قدر خالقه وصانعه.
فالله يقول: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ..) وصلاة الله وملائكته تختلف عن صلاتنا، فالصلاة هنا هي دعاء واستغفار ومباركة للنبي، ويقولون إن الله إذا أسند إلى نفسه فعل، فهو يفعله أبدًا، فلا يشعرك هذا بمدى قدره عند الله وملائكته؟ فكيف هو قدره عندك؟ فهو محمد الذي تولاه ونصره الله وخيار المؤمنين والملائكة: (..فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ).
حتى قد أصبح القانون الإلهي هو: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ..) جعل الله طاعته مرتبطة بطاعة النبي والإذعان إليه. وحتى تعرف قدره، قال النبي: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر..” فهو يقولها لا افتخارًا بها، وإنما بلاغًا لتوقيره ولمكانته عند الله، وامتثالًا لـ “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ”.
وإذا طالعت القرآن الكريم، ستجد عدة آيات يُثني فيها الله عز وجل على نبيه، فاجعل واجبك الأول في هذا التقرير. أن تعيد قراءة كتابك وتعرف قدر النبي عند الله.
إن الإسلام يريد أن يحفر بعمق في قلوب المسلمين محبة وإجلال هذا النبي، فهو القائد وأنت الجندي. وإذا طالعت سنة النبي، ستجد أيضًا بعض الظواهر التي تشعرك بقدره فتُجله، فهذا جذع النخل يحن شوقًا لرسول الله، أليس نحن أحق بهذا الاشتياق وذاك الحنين؟
الشعور بأن النبي يحبك
إذا أبلغتك بأن أحدًا يحبك، فمؤكد هذا سيجعل قلبك يتحرك إليه، فكيف إذا أبلغتك أن النبي يفكر بك ويكن بداخلك عاطفة دافقة؟
ألم يأمرنا النبي ويقول: “إذا أحب الرجل أخاه فليخبره”، لكن لماذا؟
لتنشأ بينك وبين أخيك المسلم عاطفة تقوي من الرابطة بينكم، فيخبرنا الله عن محبة النبي لنا لتقوى أيضًا الرابطة بيننا وبينه.
يقول الله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) أي جاءكم النبي منكم تعرفونه ويعرفكم، فكيف تتهمونه بالسحر أو الكذب والجنون وهو الحريص على هداياتكم ونجاتكم؟
لقد بلغ إشفاق النبي على أمته أنه بكى وقال: “اللهم أمتي أمتي”، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد واسأله ما يبكيك؟ والله عز وجل يعلم ما الذي يبكيه، لكن حينما ينزل الله جبريل بالسؤال فهذا ليعرض الجواب على كل مسلم فيعرف كم حمل هذا النبي من حبٍ في قلبه لك.
فيأتي جبريل لرسول الله، فيسأله، ويخبره محمد بما قال والله أعلم به، فقال الله: “يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نَسُوؤُكَ”.
وهو الذي يرسل شوقه إلى أحبابه عبر قرون من الزمن لتصل إلينا بعد وفاته، فيقول: “.. وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني قالَ: فقالَ أصحابُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- أوليسَ نحنُ إخوانَكَ. قالَ: بل أنتُم أصحابي ولكنْ إخواني الَّذينَ آمَنوا بي ولم يرَوني”. في إشارة إلى المؤمنين الذين آمنوا وصدقوا برسالته ودعوته ولم يرونه.
ومن محبته لك، أنه ادخر دعوته لأمته في يوم القيامة، وذلك لأن لكل نبي دعوة مجابة. وبلغت محبته الناس كافة، حتى أن غلامًا يهوديًا كان يخدم النبي، فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه وقال له: أسلم، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم.
وخرج النبي من عنده يقول: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”، هذا هو محمد الذي شملت رحمته الإنسان المسلم وغير المسلم والحيوان والدواب، فهل بعد حبه لك لازال قلبك لم يتحرك إليه؟
ولعل في قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل، ما يذيب قلبك حُبًا له، فقد كان عكرمة من أشد الكارهين للإسلام، حتى أن النبي قد أراق دمه، واستعد عكرمة للفرار إلى اليمن، وزوجته الوفية أم حكيم التي أسلمت في يوم الفتح، ذهبت إلى النبي لتستشفعه في عكرمة، فأمنه النبي وقال لها: هو آمن.
فعاد عكرمة إلى مكة، وقبل أن يدخل قال النبي لأصحابه:
يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت.
ووثب رسول الله إلى عكرمة يسلم عليه ولقيه بوجهٍ مبتسم وهو لم يسلم بعد. وإذا تأملت في قصة إسلامه، ستجدها مليئة بالرفق ولين الجانب، الذي استطاع من خلاله كسب القلوب. وقد أسلم عكرمة وحسن إسلامه وقاتل واستشهد في سبيل الله، ولعلك سيدي القارئ تتذكر إيثاره لإخوانه المجاهدين على شربة الماء، حتى مات دون أن يبلغها.
الشعور بالاحتياج للنبي
هلّا استشعرت أن النبي منقذ لك؟ وأنك في احتياج إليه وبدونه لن تنجو من الفتن؟
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ..) فإن لم تكن هذه الدعوة، لانقلب قلبك وضل!
فجاءت الوصية بأن ننقاد إلى ما أمر به ونبادر إليه، فحياة القلب في طاعة الله وطاعة رسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..)، وإن ضمانك الوحيد للنجاة من الفتن هو التعلق بشخص النبي: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
فالقاعدة الثابتة أن الهداية تتحقق بطاعته (.. وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ..).
الشعور بالاحتفاء بالنبي
بعدما أحببته وأدركت كم يحبك، ثم استشعرت كم أنت في حاجة إليه، عليك أن تحتفي به، فإذا ذُكر عندك تحرك قلبك، ذلك هو الشعور بالاحتفاء، فتصلي عليه كلما ذكر عندك فهو يقول: “البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليَّ”.
وتستشعر في تشهدك في صلاتك كأنك تخاطبه، فيشرع لك الإسلام أن تقول: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته..”، بل وفي كل آذان وبعد أن يفرغ المؤذن من الأذان تصلي عليه، وكلما دخلت وخرجت من المسجد، تقول: “بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله”.
وفي حال أردت أن تستجاب دعوتك، فإنك تستفتحها بالصلاة على رسول الله، وكأن استجابة الله لدعائك مرهونة بصلاتك عليه. وحتى دوران الأيام يربطك بالنبي، ففي يوم الإثنين شرع لنا الصيام فيه؛ لأن “ذلك يوم ولدت فيه، وفيه أُنزل عليَّ”، فصومك للتطوع مظهر من مظاهر الاحتفاء به.
ويوم الجمعة يزداد فضله بصلاتك عليه فيه، فهو يقول: “إنَّ مِن أفضلِ أيَّامِكم يومَ الجُمعةِ فيه خلَق اللهُ آدَمَ وفيه قُبِض وفيه النَّفخةُ وفيه الصَّعقةُ فأكثِروا علَيَّ مِن الصَّلاةِ فيه فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ علَيَّ”.
كأن الوقت كله أصبح يذكرك بالنبي، وقد قرن النبي بين مسألة الإيمان وحبه فقال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” ويكأنه يرسل لك مفادها أنه لا يريد أن ترتبط به في المظهر وحسب، لكنه يريد أن يتملكك حبه، ولعل هذا من حالات الإعداد النفسي للمسلم ليتجه إلى النبي بكل ذاته.
الشعور بإعلاء النبي وتوقيره والتأدب معه
لقد جاء القرآن يحدد لنا كيفية التعامل مع النبي، ومنها على سبيل المثال:
أن الله عزوجل قوَّم من طريقة التحدث مع النبي، فلا لرفع للأصوات في حضرته، ولا لمناداته بغلظة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).
بل وبينَّ القرآن بأي شيء نكنيه، فلا يجب أن تقول محمد ولا يا أبا القاسم، لكن التأدب معه يجعلك تقول له: يا رسول الله، يا نبي الله تعظيمًا وتوقيرًا له (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ..).
وفي حال كان لديك أمرًا أردت أن تعرضه على النبي، عليك أن تخرج صدقة للفقير ثم تذهب إليه، وعلى الرغم من أن هذا الحكم قد نُسخ فيما بعد، ولم ينفذه إلا صحابي واحد، إلا أن المقصد منه أن تعرف الأمة قدر هذا النبي.
وقد أثنى الله على من يخفض صوته في حديثه مع رسول الله، حتى وصفهم بأن هؤلاء هم من جهزهم الله وأعدهم ليكونوا من المتقين: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ..).
وقد جعل الله لبيت نبيه قدسية خاصة، فقد كانوا ينادونه من وراء حجرته يا محمد اخرج إلينا، فنزلت فيهم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
لقد هذب الله من جاهليتهم، فعلمهم أن لا يدخلوا بيوت النبي إلا اذا دعاهم إلى طعام، وفي هذه الحال لا يأتون مبكرًا وينتظرون إنضاجه، وفي حال طعموا عليهم بالإنصراف دون الجلوس للمسامرة بعد الطعام، فأنزل الله هذه الآيات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ)؛ لأن النبي كان يستحيي أن يردهم.
وتوقير النبي يشمل أيضًا توقير زوجاته الذين هم أمهات المؤمنين، فبين الله أطر التعامل معهن فقال: (.. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ) وكذلك (.. وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ..) وذلك لأن (.. وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ..).
سيكون من الرائع أن تتعلم آداب التعامل مع الرسول، وسيكون هذا واجبك الثاني، ولمساعدتك على الأمر، عليك أن تتدبر أربعة سور هي سورة (النور، الحجرات، الأحزاب، الأنفال)، وشاركنا بما تعلمته في التعليقات.
الشعور بالثقة الكاملة في النبي
إن إيمانك مرتبط باستجابتك التلقائية واستسلامك لحكم النبي، يقول الله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
ولكن، قد يخطر ببالك أنه كي أستجيب وأستسلم، أريد ضمان يجعلني واثق ومطمئن تجاه ما أتلقاه، فكأن القرآن يجيب على تساؤلك فقال الله عز وجل: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ..)، وحتى لا نظن أننا مكلفين فقط بما جاء في الكتاب لكن، السنة أيضًا (..وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..).
فالسنة منزلة أيضًا كما نزل القرآن، وحُفظت كما حفظ القرآن، فليس هنالك مجالًا لأن يتقوَّل النبي عن الله ما لم يأمره به: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)، لذا فكل ما قاله النبي كان من عند الله وليس من عنده، والقرآن يزخر بالعديد من الآيات التي تؤكد على هذا المعنى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ..) وأيضًا (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).
ولعل ما يؤكد هذا، أن النبي جلس مع الصحابة وذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله من أفضل الأعمال، فقال رجل: يا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: “نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ”، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: “كيفَ قُلْتَ؟” قالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: “نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلَّا الدَّيْنَ، فإنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ قالَ لي ذلكَ”. والحديث رواه مسلم.
كل ذلك يدفعك أن تثق به وتنقاد لحكمه وتطبيق سنته، وضمانك في هذا الأمر (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).
التلقي من الرسول في كل صغيرة وكبيرة في كل مناحي الحياة
وأخيرًا لعل ما سبق يجعلك تُقبل على سنته وتقتفي أثره في طرق تفكيره وأخلاقه ومظهره وهندامه ومأكله ومشربه ويقظته ومنامه وتعامله مع من حوله، وفي أمور الاقتصاد والسياسة والتعليم.
فأنت في صلاتك في احتياج لأن تتلقى منه كيف تصلي: “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وفي شعيرة الحج: “خذوا عني مناسككم، لعلي لا أحج بعد عامي هذا”. وهو نفسه يدلك على سنته من أجل ان تنجو، فيقول: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ”.
وقد كان الصحابة يجلسون يستمعون النبي كأن على رؤوسهم الطير، فيبادرون في تطبيق ما أمر به، ويتناهون عما نهى عنه، فقد كانوا يقولون:
إنا لا نفعل شيئًا إلا إذا فعله صاحبنا.
ولعل هذا التعلق القلبي والعملي، هو ما جعل الصحابة صحابة.
في التقرير التالي بإذن الله، سنتعرف هل هناك مؤهلات شخصية تساعدني لأخرج من الظلمات إلى النور؟ ولماذا عرض النبي دعوته في بداية الأمر على ابن عمه عليَّ بن أبي طالب ولم يعرضها على عمه أبا طالب؟ وكيف يمكن أن أحقق في نفسي صفات الخير؟ من أجل ذلك والمزيد، كونوا في الانتظار.
جزاكي اللهعنا كل خير