متى تتحرر المرأة الغربية؟
تتعرض المرأة المسلمة في كثير من مجتمعات الغرب لنظرة دونية تراها من خلالها إما جاهلة عقيمة الفكر أو في أحسن أحوالها مغلوبة على أمرها مستسلمة لقدرها الذي يقهرها وينتزع حقوقها الأساسية. في حين ترى المرأة المسلمة الصادقة مع نفسها وربها أن بنات جنسها التي لم تتنعم بهدى الإسلام قد شدت وثاق نفسها وأحكمت القيد ورضيت بالأسر مختارة راضية تظنه الفكاك والخلاص والحياة الآمنة. ورغم أن أحوال المرأة المسلمة سواء في بلادها أو في خارجها كثيرا ما يكون فتنة لغير المسلمين بما يكون منها هي من رضا بالظلم وتوافق أو إعانة عليه وإما بالمسابقة للحاق بأختها الغربية في كل ميادين سعيها المختلفة وإن شردت بعيدا واشتطت في الانسلاخ من كل قيمة، إلا أنه ما زال لها إطار ومرجع تستند إليه وتصحح أحوالها من خلاله.
لذلك يكون من العجز أحيانا أن يكون انطلاقنا هو ما يقول الغرب عنا وما نريد أن نثبته له ولأنفسنا، وأن نجد من المسلمات الفاعلات في مجتمعها الغربي من تؤمن أن التحرير الحقيقي للمرأة المسلمة أن يراها الغربي في مواقع العمل والإنجاز وتدعو ألا نكتفي بالقول المعتاد المكرر عن تحرير الإسلام للمرأة المسلمة، بل أن ننشط في الميادين كلها ليرانا فيؤمن بما نقول.
بل إن الصورة النمطية التي نسمعها الآن من مثقفات وداعيات الغرب حثهن البنات المسلمات على أن يتفوقن في مجالات العلم المختلفة وأن ينبغن فيما يجدن أنفسهن فيه، وأن يجدن لهم موضعا في كل مكان ليرى عالمهن وبيئتهن ما وصلن إليه. وليس في ذلك من بأس إذا كان الأمر يُقصد به طلب العلم وبذل الجهد في إحدى ثغور وميادين العطاء الذي تنتفع به الأمة والبشرية من بعدها. لكن مشكلة هذا الطرح أنه يجعل ذلك النبوغ والتفوق هو الصورة الوحيدة المعتبرة للمرأة المسلمة المعاصرة، وأن غايته إسماع الصوت وتوصيل الصورة القائلة نحن مثلكم نتقن هذا وذاك، نحن أيضا متحررون وإن غطينا جزءًا من الرأس، نحن نقترب منكم ونقف معكم على منصة واحدة، لسنا متأخرون ولا غائبون عن الوعي كما تظنون..
خطاب المرأة المسلمة في الغرب، هل يقدم الحل؟
يجعل هذا الطرح النموذج الغربي هو الميزان، فما دام الغرب المتقدم ماديا والمترف اقتصاديا قد أسند للمرأة من الوظائف ما يليق وما لا يليق، وأوحى لها أنها جديرة بذلك وبأن رفعتها تتمثل في الوصول إلى كافة الأعمال التي يشغلها الرجل كي تقول له أني مثلك تماما ولست متفوقا عني في شيء. والحقيقة أن صراع المرأة مع الرجل قد نما عبر القرون بعوامل حقيقية أو مفتعلة، لكن المنهج الذي أنزله الله للعباد يلغي تلك العوامل ويقدم لكل الجنسين صور الفلاح اللائقة بكل منهما بلا تحيز ولا تعصب لأحد، لذلك عاشت المرأة المسلمة، حين اتبعت هدى نبيها وحين أكرمها الله برجال تربوا في مدرسة الوحي وزكت أنفسهم بآياته، غافلة عن الصراع المزعوم، راضية بدورها، بل متمتعة من خلاله بمنح الله لها وبوضعها فيما يليق بها كأنثى شريكة في البناء، وليست كمنافسة تريد أن تأخذ ما في اليد الأخرى. وما ظهرت دواعي التحرر وعزل المظلة الإيمانية عن أفق المرأة المسلمة إلا حينما اتصلت هي أو من يزين لها ذلك بالمرأة الغربية وتلقوا عن سادتهم، فصار الكلام واحدا وإن تغطى برقائق تخفي الحقيقة المصنوعة بمكر أو بغفلة وجهل.
وإن كان هناك من ظلم وقع أو تضييق وهضم لبعض الحقوق المكفولة للمرأة المسلمة عبر تاريخها، فهو مما يقع من الجنس البشري عموما من ظلم وعدوان وتأثر بالمحيط الغالب وما غلب في بعض الأزمان من الجهل الذي يستخرج طبائع النفوس ويجعلها الحاكم على القيم وواقع التعامل. وهذا لا يختص بالنساء فحسب، فكما تُظلم المرأة في بيئات، تَظلم هي في بيئات أخرى أو تنال ثأرها عبر ممارسات أسوأ أثرا وأشد عمقا، ولولا ما جاء به الإسلام تهذيبا للطباع وتربية للنفوس لظل الأصل في كل بيئة ما تعارفت عليه وما تطبعت به من أهواء وعادات.
هل تحررت المرأة الغربية حقا؟
أما المرأة في بلاد الغرب، فقد مرت بمراحل وأحوال ليس هنا مجال عرضها حتى وصلت إلى ما تدعيه من التحرر والاستقلال، لكن النظرة الواعية لما عليه حالها تبين أنها قد انتقلت من أسر إلى أسر، فإن كانت عقائدها المنحرفة قد سلبتها حقوقا وحرمتها أدوارا، فإن أفكار اليوم قد أخذت منها أغلى ما تتمتع به؛ أن تكون حرة تملك نفسها! ورغم أن الصورة المعلنة تتبجح بإعلان التحرر إلا أن الواقع يقرر غير ذلك بجلاء؛ فامرأة اليوم عليها أن تكتم صوت أنوثتها الحقة التي تحب أن تكون مطلوبة لا تستعرض أو تتفنن لتحظى بشريك مؤقت أو عابر، وعليها أن تجتهد لتظفر بعمل بساعات أكثر لكي تغطي نفقات إقامتها وتكاليف حياتها التي لا يتحملها سواها. وعليها إن تزوجت أن تكون أكثر حرصا، وأقل ثقة بمن يشاركها الحياة، وعليها أن تدع وظائف البيت وما يتعلق بها من رعاية وأمومة وحنان فطري لأنها ليست جارية وليست تقليدية، ولأنها بذكائها تستطيع أن تكسب كل شيء. فما تمر الأيام حتى تجد أنها خسرت ولم تكسب شيئا، وأن كل ما سعت إليه من الوظيفة والبيت والشريك الطيب والأبناء المحبون ما رأت منه غير سراب، ما تبقى بيدها من ظلاله غير فتات تستكمل بها ساعات حياتها المتبقية.
ذلك النمط الشائع الذي لا يشذ عنه غير القليل ممن ينظرن بوعي فيأخذن طريقا مختلفا، أو يبحثن عن الحق والعدل الغائب فيجدنه في رحاب دين الله فيقبلن عليه إصلاحا لأنفسهن وحرصا عليها، يجعل المرأة المسلمة إن فقهت نموذجا يمكن أن يدل نساء الغرب إلى الطريق الذي حدن عنه طوعا أو كرها. إلا أننا بدلا عن ذلك نرى من نسائنا من يجعلن من تلك الأفكار التي وأدت حقيقة الأنثى وأغفلت فطرتها، قبعة يرتدينها فوق غطاء الرأس القصير، فتختلط الهوية عند الفتاة المسلمة الناشئة، وتجري مثل أختها التي تقطعت بها السبل، ثم تقف في المنتصف لا تعرف أين وجهتها ولا كيف تعود إلى جادة الطريق.
المرأة المسلمة ونموذج التحرر
لذلك كان من الأولى لنساء المسلمين وخاصة أولئك المقيمين في ديار غير المسلمين أن يكن الداعيات إلى تحرير المرأة الغربية مما تلبست به سواء من فكر أو من انتهاك للفطرة والكرامة والجسد، لتعود تدرك قيمتها وقدرها وما ينبغي أن تصل إليه وتتحرر به. وإن كنا لسنا في بيئة مثالية نستطيع فيها استرجاع الطبيعة التي يحق للمرأة أن تكون عليها بسهولة ويسر، بعد تلك الجهود التي امتدت عقودا طويلة لنزعها عنها حتى صار مخالفتها هو الأصل وهو السائد المقبول، لكن فليكن أقل الواجب على المرأة المسلمة أن تكون الأحرص على ما منحها إياه دين التوحيد، أن تكون النموذج الحر الذي لا تستعبده آلة إعلام توجهها نحو مسار معين، ولا صناعة موضة تصنع لها ثيابا تكشف أكثر مما تخفي، ولا المنشغلة بتحقيق صورة تثبت لها حضورا أو ترد بها على شبهة.
وعلى عكس ما يتصوره البعض من أنهم بهذا الطرح المتوافق مع نظرة الغالب ينصرون دينهم أو يدفعون شبهاته عنه، فإنه يؤكدون هذا التصور المغلوط والمقلوب عن المرأة المسلمة ودينها العظيم الذي تفتخر به، فعوضا عن أن يرى الغربي المسلمة ملتزمة بدينها مظهرا وفكرا واعتزازا، يراها تسابق مع أجل أن تظهر على نفس الصورة والحالة التي يعرفها، لا يرى فيها التميز الذي يدعوه إلى التفكير فيما خسر وفيما تخسر المرأة في بيئته، وكم في ذلك من فتنة للقوم إذ يظنون الإسلام مثل غيره قابلا للتحريف وقلب المعايير، وفتنة لمن استقامت فرأت نفسها أو رآها من لا يعرف وحيدة مخالفة.
إن الأحق بالشفقة وسؤال لم أنتِ كذلك ليس المرأة المسلمة التي اختارت أن تكون أمة لربها وتقوم بما أهّلها له وخلقها له، بل تلك التي نسيت ما كان ينبغي في الأصل أن تكون عليه حتى استهجنته وعدته خروجا عن العدل تحتاج صاحبته إلى علاج وإلى تحرر! فهل تتنبه المرأة المسلمة والمتحدثة عنها إلى ذلك التناقض وتكون داعية إلى تحرير المرأة الغربية مما أوثقت به نفسها أو سيقت إليها جهلا أو غفلة بدلا من أن تدفع بنفسها قريبا من شباكها؟