عوامل قيام الحضارة.. والأساس الفكري الذي ميّز الحضارة الإسلامية

جميع الأمم التي وُجدت عبر التاريخ لها معتقدات وقيم ونظم وقواعد وأنشطة وسلوكيات خاصّة تكسبها طابعًا مميزًا، يكون بمنزلة البطاقة التعريفية لهويتها، وهذا ما يمكن تعريفه بثقافة الأمة. وعندما نأتي على ذكر الحضارة نزيد في الوصف والمعنى على ما ذكر، ففي الحضارة تقدُّم وتفوق من النواحي الكمِّية والنوعية، وفيها ما ينظم الإنتاج والإنجاز على المستوى العام. 

تعريف الحضارة

كلمة “الحضارة” في اللغة جاءت من “الحضور”، وفي الكلمة دلالة على شهود الموقف التاريخي والمساهمة فيه مساهةً فاعلة، وعندما يُقال: “الحضور” فإن المعنى المراد؛ هو إحداث الأثر لا مجرد الوجود على الساحة التاريخية. أما في الاصطلاح، فقد ذكر مصطفى السباعي في كتابه (من روائع حضارتنا) تعريفًا له نقلًا عن بعض أهل التاريخ، فعرّفها بأنّها: “نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي”. 

وتتفاوت الحضارات في طبيعة حضورها بناءً على امتلاكها لخصائص الحضارات التي ترسّخ وجودها، ويمكن قياس الوجود الحضاري لحضارة معيّنة بالإنجازات النوعية والكمية التي انبثقت عنها، وقد يُقاس ذلك بالانتشار والتوسع؛ سواء كان توسعًا عسكريًا أو ثقافيًا أو اقتصاديًا، وللقول بإمكانية قياس الدور الحضاري مخالفون باعتبارها مسألة نسبية، فضلًا عن أنها تشجع على الهيمنة الاستعمارية.

عوامل قيام الحضارة

إن نشأة الحضارة تتطلب أساسًا وجود فكر مجتمعي قوي وداعم، ويمكن القول: إنّ وجود الفكر هو الشعلة الأساسية التي تنبثق عنها طاقة مهولة تعرِّف الحضارات وترسِّخ وجودها، وإن أمسك بهذه الفكرة أشخاص قياديون عباقرة، فإنّها تتحول إلى واقع حضاري مشرق. كما أنّ هناك مجموعة من العوامل المساندة لقيام الحضارة، وهي كما يأتي: 

عوامل مادية لقيام الحضارة

تتمثل العوامل المادية في مجموعة من الأمور التي تؤثر على حياة الإنسان ورفاهيته، وهي كما يأتي: 

عوامل جيولوجية

إن أيًا من الحركات الأرضية؛ كالزلازل والبراكين والطوفان وغير ذلك، من شأنه أن يطمس وجود الحضارة بأكملها، كما أن الحضارة أصلًا موجودة ضمن عصرين من الجليد، وبذلك فإن أي تيار جليدي قادم يمكن أن يحد من وجود الإنسان في مناطق واسعة من الكرة الأرضية. 

عوامل جغرافية

تتمثل العوامل الجغرافية بطبيعة الأرض أو المنطقة التي تنشأ عليها الحضارة والبيئة المحيطة بها، فعلى سبيل المثال تحدد خصوبة التربة والأمطار والحرارة إمكانية الزراعة، وبالتالي مدى توفّر الطعام في منطقة معيّنة. كما أن وجود المسطحات المائية العذبة وغير العذبة يجذب السكان؛ لتوفّر ماء الشرب، والطعام، وإمكانية التنقل ومزاولة الأنشطة التجارية. 

عوامل اقتصادية 

تعدّ العوامل الاقتصادية ذات أهمية عظيمة، لأنها تنقل الإنسان من الصورة البدائية إلى الصورة المدنية، فعلى الرغم ممّا تمتَّع به عرب الصحراء مثلًا من الذكاء والفطنة، إلا أن حضارتهم ما كانت لتزدهر لو بقيت بهيأتها البدائية المعتمدة على الصيد والتجارة المحدودة. 

ولعلّ الزراعة أول ما ساهم في تمدين الحضارات؛ باعتبارها موردًا ثابتًا للطعام، وهذا يبعث على الشعور بالاطمئنان والاستقرار لدى أفراد المجتمع، وبالتالي تبدأ العقول النيرة بالتفكير والصناعة والاختراع، وتزدهر التجارة بصورتها الحضارية. 

عوامل ثقافية لقيام الحضارة

إلى جانب العوامل المادية هناك مجموعة من العوامل لا تقل في الأهمية، وهي تتمثل في السياسات والمعتقدات الدينية والفكرية والعلمية والخلقية ونحوها، وفيما يأتي نبذة عنها: 

عوامل سياسية

يبتعد الإنسان عمومًا عن العيش معزولًا خشية التعرض للخطر، بل إنه يبحث عن جماعات يعيش ضمنها ويحقق فيها مصالحه المتنوعة، وإن انتظام أفراد الجماعة ضمن قواعد وضوابط تحت قيادة مسؤول معين على نحو دائم هو الذي يُكوِّن النظام الاجتماعي. ولعلّ الصورة الأولى للنظام الاجتماعي الدائم هي القبيلة؛ التي تمثل مجموعة أسر ترتبط مع بعضها بعلاقات قرابة، وتعيش في مكان محدد، وإن اتحدت القبائل تشكَّلت العشيرة، وباتحاد العشائر وخضوعها لدستور محدد تحت قيادة معيّنة تتكون الدولة.

عوامل دينية 

تبنت الحضارات القديمة العديد من الرؤى الدينية؛ بعضها تجلت فيها صورة الآلهة المتعددة، أو عبادة الأرواح، أو عبادة سيد القبيلة أو غير ذلك، وبعضها نشأ على عقيدة الوحدانية التي تنادي بوجود إله واحد لا شريك له في الحكم ولا في الملك. وإن الدين دعامة الأخلاق واتساع الأفق والانفتاح والوحدة المجتمعية، فإن صلحت عقيدة المجتمع صلح ما دون ذلك.

وفي معظم الحضارات ارتبطت السياسة بالدين ارتباطًا وثيقًا، فإن لم يكن أصحاب الدين هم القادة كان لهم على الأقل مكانة في المجتمع. وإنّ أهم ما يميّز حضارتنا الإسلامية قيامها أساسًا على عقيدة التوحيد، فكان لهذه العقيدة أثر عظيم في رفع قيمة الإنسان وتخليصه من الطغيان، بالتركيز على أنّ الله -سبحانه وتعالى- مالك الملك في الأول وفي الآخر.

عوامل عقلية

بدأت قدرات الإنسان ومهاراته العقلية بالظهور والتجلي بالكلمة، والكلمة أصلها مجموعة من الحروف، والحرف صوت، ومن خلال دمج الأصوات بدأ الإنسان بالتعبير عن أفكاره، والتواصل مع غيره، وبناء العلاقات. ثم تعلّم الإنسان الكتابة، فبنى من خلالها قاعدة راسخة لتطوير المعاملات التجارية والتبادل الثقافي، كما أنه نقل بلغته المكتوبة تاريخه للحضارات اللاحقة. 

ومن الجدير بالذكر أن اللغة السومرية كانت اللغة المكتوبة الأقدم في تاريخ البشرية كما هو معروف إلى يومنا هذا، ثمّ بلغت الكتابة أوج ازدهارها في العصر الإسلامي الذهبي، فدونوا في العلوم والآداب والتاريخ والأنساب والجفرافيا والفقه والعلوم الشرعية وغيرها ضروبًا وألوانًا، لكنّهم أعرضوا عن فنون النحت والرسم والتصاوير وعن الفلسفة التي كانت مشتهرة في الحضارات الوثنية القديمة لتعارضها مع مبادئ الدين. 

أسس بناء الحضارة الإسلامية

إشبيلية بإسبانيا – عاصمة الأندلس

لعلَّ الحضارة الإسلامية خير مثال على أهمية الفكر الحيّ في تكوين الحضارة، لا سيّما أنّها حضارة عظيمة بنيت أساسًا على الفكر الإسلامي من عمق صحراء شحيحة الموارد. وفيما يأتي أهم أسس بناء الحضارة الإسلامية: 

  • التمسّك بالحق والسعي إلى نشره، والابتعاد عن الباطل والعمل على التخلص منه ومن آثاره. 
  • ترسيخ مبدأ فعل الخير ونشره بين الناس، وترك أفعال الشر وكل ما يؤدي إليها. 
  • الانفتاح والشمولية والعالمية؛ فالحضارة الإسلامية لا يحدّها زمان ولا مكان، بل هي شاملة لجميع مناحي الحياة منفتحة عليها، وعامّة للجميع.
  • السعي إلى الكمال والمثالية في العقيدة وسلامة النيّات والأعمال الصالحة، ومراعاة الواقعية فيما يتعلق بقدرات النفس والجسد، وما فيهما من ضعف. 

المصادر:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى