متى وكيف انتهت الحروب الصليبية على العالم الإسلامي؟

تعد الحروب الصليبية واحدة من أكبر الحروب وأطولها في العصور الوسطى إذ استمرت قرابة ثلاثة قرون تم خلالها احتلال أجزاءٍ من بلاد الشام، لا سيما المدن الساحلية ومدينة القدس التي كانت غاية الحملات الصليبية وحجتها، فقد بدأت فكرة هذه الحروب في العام 1095م، عند البابا أوربان الثاني، الذي استغاث به إمبراطور القسطنطينية ليمده بالنجدة حتى يواجه السلاجقة المسلمين، الذين سيطروا على أجزاء واسعة من بلاده فرأى البابا أربان الثاني أنَّ لديه فرصةً في تحقيق عدد من المطامح والأهداف في حال استجاب لاستغاثة الإمبراطور، ومنها أنه سيقيم تقاربًا بين الكنيسة الكاثوليكية التي يحكمها، والكنيسة الشرقية، وأنه أيضًا سيصرف الأمراء الأوروبيين عن قتال بعضهم، نحو قتال عدوٍ مشترك يهددهم، وأيضًا سيتحقق حلمه وحلم مسيحيي أوروبا في احتلال فلسطين التي عاش فيها سيدنا عيسى -عليه السلام-، وأخيرًا سيحقق من خلال هذه الحروب مكاسب اقتصادية ومالية كبيرة، إذ إنَّ غنائم الحرب التي سيتم الاستيلاء عليها سترفد الدول الأوروبية التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة لا سيما إنجلترا، وستُحَلُّ مشاكل الفقراء الأوروبيين بأن يُسيَّروا للقتال في فلسطين ليجدوا فيها رزقًا لهم.

لذلك قرر البابا أوربان الثاني دعوة أمراء وفرسان وملوك أوروبا إلى مزرعةٍ مفتوحة في مدينة كليرمون في فرنسا، وقد شهدت إقبالًا كثيفًا من الناس، وقد خطب البابا فيها خطبةً قوية دعا فيها إلى حمل السلاح والتوجه في حملةٍ صليبية لنجدة المسيحيين الشرقيين، وفتح بيت المقدس، واحتلال أرض المسيح، وقد وعد المشاركين فيها بالمغفرة ودخول الجنة، وهدد كل من يتطوع ويتخلف بعد ذلك بالحرمان وهي أشد عقوبة كنسية، وأشار في خطبته إلى أنَّ هذه الحرب هي إرادة الرب، فتطوع الآلاف من الناس في الحرب، واشترك فيها أمراء أوروبا وفرسانها، طامعين بغفران البابا، آملين حياةً أفضل في الشرق، فحدد لهم البابا مكانًا وزمانًا للاحتشاد فيه، وهو الخامس عشر من أغسطس عام 1096م في مدينة القسطنطينية التي ستستقبلهم وتكون قاعدة انطلاق عملياتهم.

انطلاق الحملات الصليبية على بلاد الشام

خريطة مسار جيوش الحملة الصليبية الأولى

بدأت الجموع الصليبية تتجه نحو القسطنطينية بأعدادٍ غفيرة حتى قبل الموعد المرصود الذي حدده البابا، فقاد راهبان مسيحيان حملتين كبيرتين من فقراء ورعاع  أوروبا هما والتر المفلس وبطرس الناسك، اللذان تسببا في تدمير وإهلاك الكثير من البلدات والقرى الأوروبية في المجر وألمانيا والدولة البيزنطية أثناء مسيرهما، مما دفع الملك المجري إلى رصد أي تحرك غير منظم لإبادته قبل أن تدخل المجر وتدمر بلداتها، لكن حملتي والتر وبطرس وصلتا للقسطنطينية وشكلتا معا جيشًا كبيرًا بلغ عدده 25 ألف رجل، وكانوا عديمي الانضباط وبرابرة أغاروا على القرى البيزنطية، ليسلبوا وينهبوا، الأمر الذي أدى إلى استنزف قدرات الجيش البيزنطي في ضبطهم، الذي عجز عن ذلك ريثما تصل الجيوش الأوروبية المدرَّبة، فكان نتيجة عدم صبر أفراد هذا الجيش وهمجيتهم أن دفعت الإمبراطور البيزنطي إلى نقلهم بسفنه إلى مناطق السلاجقة المسلمين، فنزلوا بالقرب من مدينة نيقية عاصمة السلطان السلجوقي قلج أرسلان، وبدأوا الإغارة على قرى المسلمين، مما دفع السلطان قلج إلى نصب كمين لهم استطاع فيه إبادة هذه الحملة وقائدها والتر المفلس، ولم ينجُ منها إلا 3000 رجل فقط، هربوا إلى القسطنطينية لاجئين إليها من المسلمين.

لكن الجيوش الصليبية المدربة وصلت أخيرًا إلى القسطنطينية، وقد بلغ عددها خمسة جيوش، أربعةٌ منها فرنسية، وجيشٌ إيطالي، احتشدت كلها مع بقايا الجيش الصليبي الذي تمت إبادته سابقًا، فأقسموا بالولاء كلهم لإمبراطور بيزنطة، ومن ثم بدأ تحركهم عام 1097م نحو نيقية عاصمة السلاجقة لتسقط بأيديهم، وليتبعها عددٌ من المدن السلجوقية، التي استسلمت للإمبراطور البيزنطي الذي لم يمسهم بسوء، وقد تم إلحاق الهزائم المتتالية بالسلاجقة الذين قادهم السلطان قلج، فعجز عن صدهم، واستمر زحف الصليبيين حتى وصلوا الشام، فكانت أول مدينةٍ تسقط هي مدينة الرها، لتتبعها مدينة أنطاكيا عام 1098، وفي مطلع عام 1099م بدأ الصليبيون زحفهم باتجاه القدس فمروا بطرابلس التي أعلنت ولاءها لهم، حتى وصلوا إلى القدس التي سقطت بأيديهم بعد حصار قصير، وقد تزامن سقوطها مع سقوط حيفا وعكا ويافا وعسقلان، وبذلك تم القضاء على الوجود الإسلامي في البلاد المحتلة.

الحملة الصليبية  الثانية على دمشق

بعد أن انتهت الحملة الصليبية الأولى على بلاد الشام، والتي خلفت آلاف القتلى من المسلمين، وسقوط عددٍ كبير من المدن العربية وأقاليمها بيد الصليبيين، بدأت الإمارات الصليبية الجديدة ترسم حدودها، وتوزع الأراضي على فرسانها وقادتها، وتوطن جنودها، بعد أن تم تدمير الجيوش الإسلامية التي قاومت، ورضخ ما تبقى من حكام المسلمين لهم، إلا أنّ أمير الموصل عماد الدين زنكي بدأ بعد سنوات من الاستقرار الصليبي بقيادة حركة الجهاد ضد الصليبيين، فاستطاع استعادة الرها، وأوقع بهم بعض الهزائم، لكنه توفي غدرًا على يد خادمه الفرنجي، فاستكمل ابنه السلطان نور الدين زنكي مسيرته، والذي كانت رؤيته ضرورة توحيد البلاد الإسلامية مع بعضها ليكوِّن قوةً قادرة على مجابهة الصليبيين، فحاول الاستيلاء على دمشق، التي كانت تحت حكم معين الدين أنر الذي تحالف مع الصليبيين أول الأمر، ليصد نور الدين زنكي عنها لكن الصليبيين طمعوا بدمشق فاتفق مع نور الدين فيما بعد، وتحالفا معًا بعد أن قدِمت الحملة الصليبية الثانية لاحتلال المدينة، فتمت هزيمتها على أسوارها، وبذلك بدأت نهاية الحكم الصليبي لبلاد الشام بعد توحيد البلاد الشامية ضد الصليبيين.

 ومن ثم توجه نور الدين نحو مصر حاضرة الفاطميين، إذ أرسل نور الدين قائده شيركوه مع ابن أخيه صلاح الدين إليها لرد الهجوم الصليبي عليها، فهزما الصليبيين في الإسكندرية، ومن ثم اتّجها إلى القاهرة ليُخلع الخليفة الفاطمي، ولتُوحَّد حد مصر مع الشام تحت راية العباسيين مجددًا، وليتولى صلاح الدين الأيوبي السلطنة بعد نور الدين ليحرر البلاد الإسلامية ومن ضمنها القدس بعد مائة عام على احتلالها.

الحملات الصليبية الأخيرة

بعد استعادة بيت المقدس على يد المسلمين تقدمت حملةٌ صليبية جديدة بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا إلى بلاد الشام، فأُسقِطت عكا أول الأمر، وتبعها مدن الساحل الفلسطيني، وحاولت الحملة إسقاط القدس لكنها فشلت، وتم بين ريتشارد وصلاح الدين صلح ينصُّ على احتفاظ الصليبيين بما احتلوه من البلاد، لتنتهي هذه الحملة باحتلال مدن الساحل وبعض المدن الداخلية، لكن الصليبيين لم يقنعوا بما احتلوه، فقرروا توجيه حملةً صليبية رابعة إلى المشرق، لكنها انحرفت باتجاه القسطنطينية التي تم إسقاطها وارتكاب مذابح بأهلها ليتعمق الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية، وهذا يؤكد على أنّ الحملات الصليبية لم تكن دينية وإنما لتحقيق مكاسب ومنافع مادية.

وقد تبعت هذه الحملةَ حملةٌ خامسة كانت وجهتها مصر بقيادة الملك الألماني فريدريك الثاني  الذي سعى لإسقاط القدس، لكنه فشل في حملته بسبب مقاومة المسلمين، ليعود بحملة صليبية جديدة من غير مباركة الكنيسة، ولكنه استطاع الاستيلاء على القدس بعد تنازل الملك الكامل عنها، لكن في العام 1244، استطاع الملك الصالح أيوب تحرير القدس، ومن ثم استطاع هزيمة الحملة الصليبية الثامنة على مصر، وأسر لويس التاسع عشر ملك فرنسا في موقعة المنصورة، لتنتهي الحملات الصليبية بآخر حملة استطاع الملك الظاهر بيبرس هزيمتها والتي كانت متحالفة مع المغول، وكانت هذه الحملة آخر آمال الصليبين في البقاء في بلاد الشام وتثبيت مواقعهم فيها، إذ بدأ وجودهم يتلاشى على يد حركة المقاومة الإسلامية  حتى سقطت عكا آخر معاقلهم 1291م.

 وبذلك انتهت الحملات الصليبية على بلاد المسلمين بعد أن يئس الصليبيون من استعادة القدس وإماراتهم، وانشغال أوروبا وملوكها بحروبها الداخلية، التي استنزفت قواتها ومدخراتها، بالإضافة إلى محاولة بيزنطة مواجهة المد التركي الإسلامي، والابتعاد عن مساندة الصليبيين الذين غدروا بهم، وأحرقوا عاصمتهم، فكانت هذه الأحداث سببا في وقف الحملات الصليبية عام 1291م، لكنها في العصر الحديث تم استئنافها بعد إعلان الرئيس الأمريكي جورش بوش استعمال هذا المصطلح في صدد إعلان الحرب على الإرهاب -كما يدعي-، وذلك ردا على هجمات 11 سبتمبر عام 2001، والتي تبناها تنظيم القاعدة، لتبدأ الولايات المتحدة بحشد حلفائها لغزو أفغانستان، لإسقاط الحكومة الإسلامية فيها عام 2001، ومن بعدها العراق عام 2003، بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل، لكن هذه الحرب مثل سابقاتها كانت ترفع شعارات زائفة لتحقيق المطامع المادية، والاستيلاء على ثروات البلدان الإسلامية، ومحاربة الإسلام.

المصادر:

  • الحروب الصليبية كما رواها العرب، أمين معلوف، دار الفارابي، ط2، 1998.
  • قصة الحروب الصليبية من البداية إلى عهد عماد الدين زنكي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، ط2، 2009.
  • موقع عربي بوست.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى