الوجه الحقيقي للعلمانية.. لماذا تتعارض العلمانية مع الأديان؟
لطالما كان مصطلح العلمانية -لا سيما لمن لم يتعمق فيه- مصطلحًا غامضًا إلى حد كبير. فالعلمانية كلمة ربما تكون خادعة؛ ينظر لها كل شخص من مفهومه الخاص، وتختلف عند الغرب عنها عند العرب؛ حتى أن الكثير من المثقفين ينخدعون فيها، فنجد أنهم يصفون أنفسهم بالعلمانيين، رافعين شعار الديمقراطية، وأن الدين لله والوطن للجميع، أو أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. لكن يظل المعنى الفعلي للعلمانية ومفهومها غامضًا، لذا دعونا نطرح هذا السؤال ونجيب عليه؛ ما هو الوجه الحقيقي للعلمانية؟ وإذا كانت مساوية لكلمة الديمقراطية والدعوة لحرية العقيدة باعتبارها لله وحده في وطن يكون للجميع؛ فلماذا تعارضها الأديان؟
تعريف العلمانية
لفظ العلمانية في (الإنجليزية: Secularism) و (الفرنسية: Secularite)، وبالتالي فإن ترجمة هذه الكلمة للعربية لتكون (العِلمانية) وربطها بالعِلم هي ترجمة خاطئة تمامًا، فلا علاقة لهذه الكلمات الأجنبية بلفظ العلم على الإطلاق؛ ولا حتى مشتقاته، فالعلم في اللغة الإنجليزية والفرنسية هو (Science)، والمذهب العلمي يعرف باسم (Scientism). أما الترجمة الصحيحة لكلمة (Secularism) فهي الدنيوية، وهذا يتضح من التعريف الذي ورد في مختلف المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية لهذا اللفظ، حيث تعرفها دائرة المعارف البريطانية أنها: “حركة اجتماعية تسعى إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة وتوجيههم إلى الاهتمام بالدنيا وحدها”.
أما معجم أكسفورد فيعرفها على أنها: “الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية”. وفي الكتب الإسلامية المعاصرة فإن التعبير الشائع للتعبير عن العلمانية أنها: “فصل الدين عن الدولة”، إلا أن هذا التعريف لا يعطي في الواقع نظرة شاملة ودقيقة عن المعنى الحقيقي الكامل للعلمانية، وسيكون من الأصوب لو أطلقوا عليها “فصل الدين عن الحياة”، وبالتالي يمكن تعريف العلمانية بشكل صحيح على أنها: “إقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو للفرد”.
مفهوم العلمانية وأنواعها
كما قلنا العلمانية مصطلح واسع لا محدد، ويتم تعريفها وتوظيفها بطريقة مختلفة ومتنوعة بتنوع الجهات والأشخاص، ويمكننا اعتبارها ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية وفلسفية في نفس الوقت، لذا يمكننا توضيح مفهوم العلمانية من خلال تحديد ثلاثة أنواع أو أشكال منها؛ وهي العلمانية السياسية، العلمانية الفلسفية، والعلمانية الاجتماعية الثقافية. وهذه الأنواع الثلاثة تتداخل معًا وترتبط بعضها ببعض، لكن كلًا منها يُظهر سمات مختلفة ويجسد معاني منفصلة، لذا فإن هذه الأنواع الثلاثة يمكن اعتبارها مجازية أكثر من كونها حقيقية، كالفروع التي تنبثق من شجرة واحدة ترتبط جذورها معًا في النهاية، ودعونا نوضح شكل كل فرع من هذه الفروع:
الفرع الأول: العلمانية السياسية
الفرع الأول من العلمانية هو العلمانية السياسية، وتعني الأيديولوجيات أو السياسات التي تسعى لفصل الحياة المدنية عن الدين، من خلال إبقاء الهيمنة والسيطرة للحياة المدنية وتقليص سلطات الدين إلى أقصى حد، وهذا يعني أن تكون الحكومة بعيدة تمامًا عن شؤون الدين، وأن يظل الدين خارج نطاق عمل الحكومة ولا يتدخل فيها بأي حال من الأحوال. وهذا النوع يتم تحقيقه بطرق مختلفة يكون بعضها ناجحًا أكثر من البعض الآخر، بينما يكون بعضها قمعيًا بطريقة لا توصف، وغالبًا ما يرتبط مفهوم العلمانية السياسية بالإلحاد لا سيما من وجهة النظر الإسلامية، بينما ينظر جزء من الغرب لها على أنها لا تعني بالضرورة الإلحاد أو معاداة الدين، بل تتعلق بتوضيح المكان الذي يجب أن يكون الدين فيه بالنسبة للحكومة أو المجتمع المدني.
وفي العموم، فإن العديد من المتدينين وغير المتدينين يتبنون العلمانية السياسية باعتبارها -من وجهة نظرهم- أفضل طريقة للحفاظ على الدين وحفظ حريته واحترامه، مع الحفاظ في نفس الوقت على حقوق متساوية لأفراد المجتمع أيًا كان دينهم؛ لا سيما بالنسبة للأقليات الدينية أو اللادينيين (الملحدين).
الفرع الثاني: العلمانية الفلسفية
العلمانية الفلسفية هي الفرع الثاني من فروع العلمانية الثلاثة، وهي عبارة عن مصطلح عام وشامل هدفه هو استيعاب الفكرة أو النشاط الذي يسعى لنقد الدين ودحضه وتحدي السلطات الدينية، وصولًا إلى تجريد المتدينين في نهاية المطاف من إيمانهم الديني ومشاركتهم في الدولة، وكل الكتب والأفكار التي تخص العلمانية الفلسفية تستلزم بالضرورة عملية تفكيك مباشر لادعاءات الحقيقة الدينية، وانتقاد الممارسات الدينية والقادة الدينيين.
الفرع الثالث: العلمانية الاجتماعية الثقافية
الفرع الأخير من فروع العلمانية هي العلمانية الاجتماعية الثقافية، وهي أكثر أشكال العلمانية انتشارًا على مستوى العالم، وتعني إضعاف الدين وتقليصه في المجتمع والحياة اليومية للأفراد، وهذا يعني عدم الاهتمام بالدين في الأساس. وتعتبر العلمانية الاجتماعية الثقافية ظاهرة اجتماعية وتاريخية وديموغرافية في آن واحد، لأن المزيد من الناس كل يوم يقل اهتمامهم بالدين أكثر فأكثر، وهذا يعني أن يكون المجتمع علمانيًا ككل، بحيث يعيش أفراده حياتهم بطريقة علمانية ويفكرون في الدنيا فقط دون التفكير في الدين أو الحياة الآخرة، وغير مبالين بالله أو الذنوب والخطايا، أو الجنة والنار، مع عدم الاهتمام بأي طقوس أو أنشطة دينية؛ سواء صلاة أو صوم أو غيرهم، ليصبح الدين في النهاية هامشيًا وغير مهم في حياتهم.
والخلاصة؛ فإن العلمانية السياسية تتعلق بفصل الدين عن الدولة (الحكومة)، بينما تتعلق العلمانية الفلسفية باعتبارها مدرسة فكرية برؤية الدين كظاهرة خاطئة وزائفة يجب فضحها ونبذها في المجتمع، أما العلمانية الاجتماعية الثقافية فإنها تشير إلى ضعف أو فقدان مظاهر التدين في الحياة اليومية يومًا بعد يوم.
أسباب نشأة العلمانية
يمكن تلخيص أسباب نشأة العلمانية في الأساس في ستة محاور؛ وهي:
طغيان الكنيسة
يمكننا القول إن العلمانية في أوروبا قد نشأت من وراء الصراع المرير الذي طالما كان بين رجال الدين في الكنيسة وبين الشعب الأوروبي، إذ تحول رجال الدين إلى طواغيت وسياسيين بارعين مستبدين، آخذين من الدين ستارًا لهم، ويشتهر قول الراهب جروم الذي يبين هذا الأمر في قوله: “إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطًا عظيمًا، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال؛ بل كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك، وتذاكر الغفران”، كما أن الكنيسة من جانب آخر؛ قد دخلت في صراع شديد مع الأباطرة والملوك، لكن لا على الدين والأخلاق بقدر ما كان على السلطة والحكم والنفوذ.
تحريف النصرانية
وجاءت مسألة انفصام الدين عن الحياة لتكون هي القاصمة التي قامت على أساسها العلمانية، وهي الخطيئة الكبرى التي اقترفتها الكنيسة الغربية في حق نفسها وفي حق الدين المسيحي، حيث اقتصرت الكنيسة على نفسها حق فهم وتفسير الكتاب المقدس، وحظرت على أي شخص آخر خارج دائرة الكهنوت أن يحاول النقاش فيه أو فهمه وتفسيره. وقد أوجدت الكنيسة بعض الأشياء في العقيدة النصرانية التي كانت خارج نطاق الإدراك والعقل والمنطق، مثل مسألة العشاء الرباني، وتدور قصته على أن النصارى يأكلون في عيد الفصح خبزًا ويشربون خمرًا، ويطلقون على هذا اسم العشاء الرباني، وقد زعمت الكنيسة أن هذا الخبز الذي يؤكل حينها يتحول إلى جسد المسيح، وأن هذا الخمر يتحول إلى دمه المسفوك، لذا فمن أكل الخبز وشرب الخمر فإنه قد أدخل المسيح إلى جسده ودمه، وقد فرضت الكنيسة على الناس أن يقبلوا مثل هذه المعتقدات المزعومة ومنعت أي شخص من مناقشتها وإلا تعرض للطرد والحرمان.
الصراع بين الكنيسة والعلم
كان أفظع الأشياء التي قامت بها الكنيسة وكانت سببًا مباشرًا أدى إلى ظهور العلمانية؛ هو وقوفها ضد العلم والعلماء، فكانت تشكل محاكم تفتيشية وتقتل العلماء، وتحرم كتبهم.
الثورة الفرنسية
لقد سيطر على أوروبا طوال فترة العصور الوسطى نظام اجتماعي يعرف باسم الإقطاع، وهو النظام الذي يصنف كأبشع الأنظمة الاجتماعية في التاريخ، ولطالما كان الظلم سمة من سمات الحكم الجاهلي في أي مجتمع وفي كل وقت، ولأن الفطرة البشرية بطبعها ترفض الظلم وتسعى لتغييره مهما طالت فترة خضوعها له، فإنها تنتظر أول فرصة للثورة عليه، وهذا ما حدث بالفعل حين قامت الثورة الفرنسية ونجحت في القضاء على الطغاة، وكان من نتائجها ميلاد دولة جمهورية لا دينية لأول مرة في تاريخ أوروبا، حيث تقوم فلسفتها ومبادئها على الحكم باسم الشعب لا الحكم باسم الله كما كانت توهمهم الكنيسة، وتقوم على حرية العقيدة والحرية الشخصية وعدم التقيد بالأخلاق الدينية وقرارات الكنيسة، لذا قامت الثورة بحل الجمعيات الدينية وتسريح الرهبان والراهبات ومصادرة أموال الكنيسة وإلغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها، وفي هذا الوقت انقلبت الآية، وأصبحت العقائد الدينية هي التي تُحارب بشدة، وأصبح رجال الدين مجرد موظفين لدى الحكومة.
وعلى هذا فقد ظهر الكتاب الذين يروجون للفكر العلماني، وكان من الممكن ألا تعتنق الشعوب المسيحية هذا الفكر وتتأثر بكلامهم لولا الموقف المشين للكنيسة في الفترة السابقة، ويمكننا تخيل صورة هذا في مقولة جفرسن الآتية: “إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائمًا حليف الحاكم المستبد يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر”. وهذا ما جعل الشعوب تصب كل غضبها على الكنيسة وتصرخ قائلة: “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”.
شيوع بعض الشعارات
كان من الممكن كذلك أن تقوم الشعوب بمصادرة أملاك الكنيسة وتقضي على سلطاتها دون أن يتزعزع إيمانها بالدين نفسه، لكن بسبب القوى الشيطانية الخفية فإن الوضع أخذ مسارًا آخر، فحين بدأت الشعوب تجني أولى ثمار ثورتهم وجدوا أنفسهم يهتفون بشعار الحرية والمساواة والإخاء، وهذا الشعار قد تم تلقينه لهم تلقينًا، كما برز شعار آخر يقول: لتسقط الرجعية، وهذه الكلمة الملتوية كان يقصد بها الدين، ويدعي اليهود أنهم سبب الثورة الفرنسية وأنهم أول من نادى بالحرية والمساواة، لذا فربما هم القوة الشيطانية الخفية التي حركت كل هذا!
نظرية التطور
قبل ظهور نظرية داروين كان الإيمان والأخلاق المسيحية قد تعرضا لهزات قوية وعنيفة بالفعل، وبفعل كل العوامل السابقة من ظلم الكنيسة واستبدادها والإقطاع والثورة الفرنسية، بدأت نظريات معينة تولد في الوجود؛ بما في ذلك الدين الطبيعي الذي نادى به الفلاسفة العقليون، نظرية التطور الفكري لكومت، ظهور المذهب اللاأدري ومذهب الربوبيين الذي نجح نجاحًا شديدًا، ظهور الجمعيات السرية التي تبنت أفكارًا هدامة وموبوءة وغيرها. وهذا ما أدى لظهور الإلحاد واللادين، والذي كانت الثورة الفرنسية سبب مباشر لظهوره، وقد أصيب العالم بنقص حاد في الإيمان لا سيما بعد عام 1859م، بسبب ما أشاعه أعداء الدين من نظرية التطور، وقد كان موقف الكنيسة من النظرية مهزوزًا في البداية، بسبب خوفها من أن تفعل ما فعلته سابقًا وتقع في نفس الخطأ مجددًا وتنتقد العلم والعلماء، وهذا ما تسبب في تفشي نظرية داروين التطورية في كل الأوساط العلمية، والتي سببت بطريقة مباشرة ظهور العلمانية.
وعلى هذا يمكننا القول إن أوروبا حين ثارت؛ فإنها ثارت على هذا الدين المحرف، وعليه فإن هذه المسألة كانت تخص الشأن الأوروبي وحده لا علاقة لها بالإنسانية العالمية، كما أنها كانت متعلقة بنوع معين من الدين، لا حقيقة الدين وأصله. لذا يمكننا القول إن العلمانية هي رد فعل خاطئ لدين محرف وأوضاع اجتماعية خاطئة، وبالتالي فإنها تشبه النبات الذي خرج من تربة خبيثة في ظروف وعوامل سيئة غير طبيعية، وكان أولى بأوروبا التي ابتليت بمثل هذا الدين المحرف أن تبحث عن الدين الصحيح بدلًا من أن تنكر الدين بالكلية وتصبح مجتمعًا لا دينيًا.
العلمانية في العالم الإسلامي
إن تأخر الأمة الإسلامية وتراجعها وانحطاطها طوال القرون الأخيرة هو السبب المباشر الذي أدى إلى ظهور العلمانية وتفشيها، إذ وهنت الأمة الإسلامية وأصابها الضعف الذي تبعه حب الدنيا وكراهية الموت، ويمكننا القول إن الانحراف الذي حدث هو سبب التدهور والانحطاط، فالله سبحانه وتعالى يقول: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، ويؤكد الرسول على هذه القاعدة مجددًا بقوله: “ودعوت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوًا سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم حتى يقاتل بعضهم بعضًا”. فالعلمانية في أوروبا قد ظهرت نتيجة تحريف الدين النصراني، وقد ظهرت في العالم الإسلامي نتيجة انحراف المسلمين.
ومن أشهر العلمانيين العرب؛ أحمد لطفي السيد، إذ إنه من مؤسسي العلمانية وواحد من أهم الداعين لها ومدخليها إلى مصر، وكان يسعى لهدم كل ما هو إسلامي ويريد علمنة كل المسلمين، ويعرف السيد أنه واحد من أهم رواد التنوير في النصف الأول من القرن العشرين، والذي أعلن في أكثر من مناسبة أنه يرفض بشكل تام خلط الدين بالسياسة، وكان دائمًا يعارض فكرة الجامعة الإسلامية، فكان يقول: “علمنا التاريخ، وطبائع البشر أنه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقضت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد القرابة في الجنسية، أو وحدة في الدين، ثم يؤيد كلمة أستاذ براون من جامعة كمبردج التي وصف فيها فكرة الجامعة الإسلامية بأنها خرافة”.
وكان السيد يرفض رفضًا تامًا أن يكون جنسية المسلم هي دينه، وكان يعلق على هذه الفكرة قائلًا: “كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين. وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حولها من البلاد. تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن يكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي قطر من الأقطار المفتوحة، ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة في البلاد المختلفة، حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها، ولا تتبرم بالسلطة العليا، ولا تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها”.
وكان لطفي السيد ينتقد فكرة أن شكل الحكومة قضاء من الله، ويرفض أيضًا مقولة: “ربنا يولي من يصلح”، لا سيما إذا صدرت من أفواه السياسيين، لأنهم لا يدركون أنهم جزء من الإرادة العامة للشعب وأن الشعب هو مصدر السلطة لا الله، وبالتالي فالشعب وحده هو من يقرر ما هو الحق وما العدل وما هي المنفعة العامة، لا أي أحد آخر، ويقول: “كل منا يعلم حق العلم ما يلزمه، وكل منا هو دون غيره الذي يحكم حكمًا حقيقيًا على وجود منفعته”، ويستطرد قائلًا عن الحق والعدل: “على ذلك، إذا كان الرأي العام ليس منطبقًا على الحق والعدل في ذاتهما، فإنه على الأقل منطبق على الحق والعدل على الوجه الذي به تفهمهما الأمة وتحتملهما؛ فيجب أن يعتبر الرأي العام هو الحق الذي يجب اتباعه والقانون الذي يجب تنفيذه”.
حكم العلمانية في الإسلام
لكي نوضح حكم العلمانية في الإسلام ونظرته لها يجب أن نوضح مفهوم العلمانية من عدة جوانب؛ وهي:
العلمانية من الجانب العقدي
تعني العلمانية من هذا الجانب التنكر للدين وعدم الإيمان به وعدم العمل بأحكامه وحدوده.
العلمانية من الجانب التشريعي
تعني العلمانية من الجانب التشريعي فصل الدين عن الدولة أو عن الحياة كلها بصورة عامة، وهذا يعني الحكم بغير ما أنزل الله.
العلمانية من الجانب الأخلاقي
تعني العلمانية من الجانب الأخلاقي الانفلات ونشر الفواحش والرذائل والشذوذ، والاستهانة بالفضيلة والأخلاق والدين والسنة، وهذا ضلال وفساد واضح ومبين.
ويقول ابن كثير -رحمه الله- عند قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ المائدة: 49؛ أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عربِهم، وعجِمهم، أميِّهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك هذا الكتاب العظيم، وبما قرَّره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك”.
إذن ما حكم العلمانية في الإسلام؟
العلمانية كفر بالله
تعتبر العلمانية شركًا بالله عز وجل لأن الخلق والأمر أحد أهم خصائص الربوبية، كما يتضح في قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الأعراف: 5. وهذا يمكن توضيحه في معنين اثنين؛ الأول: أن لله الأمر الكوني، بمعنى أنه من يدبر شؤون المخلوقات ويقول للشيء كن فيكون، وهذا ما يتضح في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يس: 82. أما الأمر الثاني: أن لله الأمر الشرعي، بمعنى أنه من يفصل بين الحلال والحرام، والأمر والنهي وغيرها من الشرائع، وهذا ما يتضح من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون﴾ السجدة: 24.
وعليه، فإننا رأينا العديد من دعاة العلمانية المعاصرين يقولون: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، بل ورأينا من تجرأ منهم على الله -عز وجل- وقال: “إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية؛ لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية، والثانية تمثل البداوة والرجعية”. وإذا كان التوحيد بالله لا يتحقق إلا بإفراده سبحانه بالخلق والأمر والسيادة العليا والتشريع المطلق، فلا حلال إلا حلاله ولا حرام إلا حرامه ولا دين إلا ما شرعه، فإن من يدعو الناس لاتباع شريعة غير شريعته مشرك بالله عز وجل.
العلمانية تناقض النبوة وتثور عليها
يقول ابن القيم رحمه الله: “وأما الرضا بنبيِّه رسولًا: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقَّى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكامه ظاهره باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه”. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ النساء: 65. ويقول الجصاص رحمه الله: “وفي هذه الآية دلالة على أن من ردَّ شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله، فهو خارج من الإسلام، سواءٌ رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول، والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حُكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسَبْيِ ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلِّم للنبي قضاءَه وحكمه، فليس من أهل الإيمان”. ولما كانت العلمانية تتهم الدين وكلام الله ورسوله بالرجعية والبداوة، فإنها بهذا تناقض النبوة وتثور عليها.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلًا لها، فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمَه، وكذلك لو استحلَّها من غير فعل، والاستحلال: اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلمُ أن الله حرَّمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرَّمه الله، ثم يمتنع عن التزام التحريم ويعاند المحرِّم، فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذَّبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا؛ لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغِضه ويسخَطُه؛ لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغِض هذا الحق وأنفِرُ عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام”.
العلمانية دعوة للعودة إلى الجاهلية وعبودية للهوى
هناك طريقتان للحكم قد أكد عليهما الله في القرآن الكريم ولا ثالث لهما؛ حكم الله وحكم الجاهلية، إذا يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون﴾ المائدة: 50. ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: “ينكر الله تعالى على مَن خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم “الياسق”، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائعَ شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخَذَها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنِيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحُكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتالُه حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير”. وعليه فإن العلمانية برفضها للشريعة فإنها تعيد البشر للجاهلية وتصرفهم من عبادة الله إلى عبادة الهوى.
المصادر