“معارضة الثورة” السورية بَيادِقُ تُحرَّك بين آستانا وجنيف!
لعل ذاكرة المسلمين، والعرب منهم على الخصوص، ضعيفة جدا! لم يمضي شهر على اتفاق “الهدنة” الذي أبرمته روسيا مع “معارضة الثورة” السورية في ٢٩ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٦م، ولم يجف مداده بعد، ومع ذلك يبدو أن الغالبية نسيت أن أهم بنود الاتفاق والسبب المُوجِبِ له هو وقف كل أنواع القتال من كل الأطراف على كل بقاع سوريا، مقابل موافقة “معارضة الثورة” السورية الذهاب لمفاوضات آستانا تحت رعاية روسيا، وإقرارهم (أي “معارضة الثورة” السورية) أنه لا يوجد بديل للحل السلمي السياسي الشامل “للأزمة” السورية!
ولمَّا لم يَفِ نظام آل الأسد وحلفائه، بما فيهم الضامن الروسي، بالاتفاق، إذ لم ينقطعوا قط عن قصف مواقع الثوار والهجوم عليها بكل شراسة والسيطرة على مناطق جديدة وقتل أهلها وتهجيرهم، كان الأمر الطبيعي، البديهي، المنتظر من كل من له ذرة من عقل، وله شيئ ولو جد قليل من أنفةٍ وعزةٍ وكرامةٍ وفهمٍ بالسياسة، أن يعلنوا فسخهم للاتفاق (كما فعل الرسول مع قريش لما نقضت معاهدة الحديبية، -ليعلم هذا الذين يحتجون بصلح الحديبية لإبرام اتفاقيات الاستسلام-)، ويعتبروا روسيا الاٍرهابية خائنة كاذبة ليست أهلا للثقة ولا لأي اتفاق، ويشعلوا القتال على نظام آل الأسد وحلفائه في كل الجبهات في سوريا!
لكن، وَيَا للعجب، ليس أنه لم تفعل “معارضة الثورة” السورية أي شيئ من كل هذا، بل وافقت أيضًا على الذهاب لمؤتمر آستانا! بل والأعجب من ذلك، أن “معارضة الثورة” بررت قبولها الذهاب لآستانا الذي دعت له روسيا الإرهابية الخائنة للعهود، بهدف “تثبيت وقف إطلاق النار بموجب الاتفاق الذي توصلت إليه مع روسيا في ٢٩ ديسمبر ٢٠١٦م”!
اتفاقية الهدنة
إذًا، اتفاقية هدنة ٢٩ ديسمبر ٢٠١٦م، تحتاج لمؤتمر آستانا لمحاولة تثبيته، وكل ما سيخرج به مؤتمر آستانا وما سيُتَّفق عليه في مؤتمر جنيف، مما يلتزم به الأعداء على الورق منحه للمسلمين مقابل استسلامهم وتسليمهم بلاد ورقاب المسلمين لهيمنة الكفر والكفار، سيحتاج لمؤتمرات تلو الأخرى لمحاولة تثبيتها، وهكذا دواليك. ولا، ولم، ولن يَفِ الكفار قط بما يعاهدون عليه المسلمين! هذا مع العلم أن ما يتعهد الأعداء إعطائه للمسلمين شيئ تافه زهيد لا قيمة له البتة أمام السيادة والحكم بما أنزل الله الذي يتنازل عنه المسلمون في المقابل!
وفِي الوقت الذي يهرول فيه المسلمون من مؤتمر “سلام” (استسلام) لآخر، ويُعَلِّقون الآمال على اتفاقية تلو الأخرى، ينجز أعداء الأمة الإسلامية أهدافهم على أرض الواقع بالقوة! ولنا في فلسطين مثال حي!
وَمِمَّا بررت به “معارضة الثورة” المسلحة السورية كذلك ذهابها لآستانا هو أنها تكسب بهذه الخطوة اعتراف روسيا بها على أنها جماعات مقاومة شرعية وليست إرهابية!
ما شاء الله على العبقرية السياسية التي تجعل من هدفها أن تعترف بها دول عدوة إرهابية وتُقَرِّبها! وما هو المقابل الذي تدفعونه للدول الإرهابية لتعترف بكم على أنكم لستم إرهابيين؟ ألستم تبيعون الإسلام وتستسلمون وتسلمون رقاب المسلمين مقابل رضا الدول الاٍرهابية عنكم؟ أي انتصار هذا؟ وأي مهزلة وصَغار هذا؟
وألم يدرك “حكماء” السياسة في “معارضة الثورة” السورية أنهم بذهابهم لآستانا وقبولهم لروسيا كضامن وراعي لثورتهم وللمباحثات السياسية المتعلقة بها، أنهم يقرون بذلك شرعية التدخل الروسي العسكري الإرهابي في الشام، وأنهم بذلك لا يعتبرون قتل روسيا لأهل الشام وتدميرها لمدنهم إرهابا!؟ “عباقرة” السياسية في “معارضة الثورة” السورية يعطون الشرعية لروسيا وللنظام الدولي للعبث بالشام وتقرير مصيرها ومصير أهلها المسلمين!
الدور التركي ودهاليز النظام الدولي
ومن عبقريات “معارضة الثورة” السورية أنهم يحاولون تبرئة أنفسهم من تهمة الخيانة بحجة أن قرارهم الذهاب للآستانة اتَّخذوه دون أية ضغوطات من تركيا أو أي دول أخرى، بل عن قناعة! سبحان الله، وهل الخيانة تثبت فقط عندما يكون المرء مُكرها على ارتكابها؟ فالخيانة الأعظم هي التي يقوم بها المرء طواعية وعن رضا أو عن غباء وجهالة!
ومن غباء “معارضة الثورة” السورية أنهم يصدقون تركيا ويعتبرونها حليفًا ناصرا لثورة الشام، والحقيقة أن تركيا تستغل ثورة الشام لِتُقدم نفسها خادما مهما لسياسات أمريكا في المنطقة لعلها ترضى عن ساساتها وتمنحهم حبلا أطول للحركة، فيُسمح لتركيا (إلى حين) أن تجعل لنفسها قدما في شمال سورية لتمنع به قيام دولة كردية. والجيش السوري للمعارضة الذي تدعوا له تركيا وأسست نواته في “درع الفرات“، وتريده بديلا لكل الفصائل المعارضة المسلحة وإدماج “المعتدلة” منها فيه، إنشاء هذا الجيش تحت الرقابة التركية (الأمريكية) يعني القضاء تماما على ثورة الشام وعلى كل الفصائل الثورية المسلحة التي لا تريد الخضوع لهيمنة النظام الدولي على الشام. فستكون أولويات هذا الجيش، إن تأسس، محاربة “الإسلاميين” وحماية (إلى حين) حدود تركيا بمنع الأكراد من إقامة دولة على الحدود السورية-التركية! أما باقي مناطق سورية فستعود، بالقوة والإرهاب وبتخاذل فصائل “معارضة الثورة” واستسلامهم، لهيمنة وحكم الطائفة الرافضية-النصيرية-الصليبية!
ثم أليس دوركم يا “معارضة الثورة” السورية يقتصر على الاستجابة لكل ما يعرضه عليكم الغرب، يعرضه عليكم بطريقة مباشرة أو عن طريق عملائه من المسلمين كتركيا والسعودية وقطر وغيرهم؟ فروسيا هي التي دعت لمؤتمر آستانا، وهي التي حددت موعده مسبقا، وحددت من سيحضره، وروسيا هي التي فرضت عليكم اتفاق هدنة أحادية الجانب، تلتزمون بها أنتم وليس روسيا ونظام آل الأسد وحلفائه، بل ولشدة تفاهتكم وتهافتكم لا تعلمون حتى على ما توقعون وعلى ما يوقع خصومكم الذين تعاهدتم معهم، كما حصل مثلا في اتفاقية هدنة ٢٩ ديسمبر ٢٠١٦م، حيث خرجتم بعد حين تذرفون دموع التماسيح حين علمتم لاحقا أن نص الورقة التي وَقَّع عليها نظام آل الأسد تختلف عن نص الورقة التي وقَّعتم أنتم عليها، وهذا لوحده كان سيكون عند كل من له ذرة من عقل، وله شيئ ولو جد قليل من أنفةٍ وعزةٍ وكرامةٍ وفهمٍ بالسياسة، سببا كافيا لنقض اتفاق الهدنة جملة وتفصيلا! لكنم يا “معارضة الثورة” السورية مهزلة وأضحوكة ومذلة بكل المقاييس! لو كانت المصطلحات تتكلم لتبرأ منكم مصطلح “السياسة” ومَنَعكم من استعماله على ألسنتكم!
أنتم يا “معارضة الثورة” السورية، لا تَعْدوا عن كونكم بَيادِق في دهاليز النظام الدولي، يستعملكم لتثبيت مآربه وتنفيذ مخططاته في بلاد المسلمين! دوركم في مؤتمر آستانا وفي مؤتمرات جنيف وأي مؤتمرات أخرى، يكمن فقط في الإدلاء بشهادة زور، كما أدلى بها أفواج لا تحصى من الخونة قبلكم، على برامج يَعِدُّها الغرب، فيضعها لِتُصدِّقوا عليها وتعطوها “الشرعية القانونية الدولية” بعدما فرضها الغرب على أرض الواقع بشرعية القوة والتغلب وبسبب تخاذل المسلمين واستسلامهم!
لذلك أنتم، يا من قبلتم الدخول في مفاوضات تحت مظلة الأمم المتحدة وروسيا، أنتم لستم ثوار، بل محاربين للثورة! الثوار في الشام يتحولون تدريجيا لأدوات “الثورة المضادة”، إذ يجعلون الثورة والثوار في خدمة النظام الدولي، يحركهم في الاتجاه الذي يشاء لخدمة ما يشاء من مشاريع سياسية في بلاد الشام! لذلك وصفكم الصحيح هو أنكم “معارضة الثورة” السورية!
العدو الحقيقي!
إن أول شيئ يجب على المسلمين إدراكه لتنجح ثوراتهم، هو أن عدوهم الحقيقي الذي يجب أن يتحرروا منه، هو النظام الدولي الذي وضعه الغرب والذي من بين أدواته الأمم المتحدة! فاسترداد حرية المسلمين وسيادتهم على بلدانهم لن يتحقق أبدا عن طريق المفاوضات ولا عن طريق الغرب والأمم المتحدة، بل عن طريق القوة لا غير! تحرر المسلمين يُفرض فرضا بالقوة، رضي من رضي وكره من كره! وكل من يذهب للأمم المتحدة ويستجدي دول الغرب، هو خائن، سواء فعل ذلك عن عِلْم أو غباء، أو فعله عن إكراه أو رِضا، لأنه يمنح الغرب الفرصة لإبقاء هيمنته على بلاد المسلمين وفرض حكم الكفر على المسلمين!
متى يتعلم المسلمون من أخطاء وخيانات الماضي؟ متى يتوقفوا عن إعادة نفس الأخطاء والخيانات؟ متى ردَّ الغرب وأداته الأمم المتحدة أي حقوق للمسلمين وهم من نهبها وينهبها؟ وكيف تلجؤون للغرب والأمم المتحدة وهم العدو والخصم الذين يستعبدونكم ويهيمنوا على بلدانكم؟ إذا لم يلتزم الكفار قط بوعودهم وعهودهم، لماذا تظنوا أنهم سيفعلوا ذلك اليوم أو غدا؟ إذا لم تمنحكم الأمم المتحدة قط أي حق، لماذا تظنون أنها تعطيكم اليوم أو غدا أي حق؟ إذا لم تجلب لكم المفاوضات مع الغرب قط أي انتصار، بل زادتكم هزيمة وإهانة وذُلاًّ، فلماذا تظنون أنها ستجلب لكم اليوم الانتصار؟
عبارة حكيمة تُنسب لألبيرت أينشطاين تقول: “البلاهة هو تكرار نفس الفِعْلٍ مرارا، وكل مرة يُتَوَقُّع الحصول على نتائج مختلفة”!