آسيا الوسطى: قصة الإسلام في بلاد ما وراء النهر – الجزء الثاني
كنا بسطنا في الجزء الأول من قصة الإسلام في أسيا الوسطى تاريخ المنطقة إلى غاية بوادر الاحتلال الروسي في عهد الدولة العثمانية، وبالفعل بدأت بلاد وسط آسيا رحلة ابتلاء جديد بعد تخلصها من الغزو المغولي، إنه دولة الروس القيصرية، حيث تمكن الاحتلال الروسي من التوغل في منطقة القوقاز وعينه على كافة بلاد وسط آسيا، واستقوى كلما تجلت أمارات الضعف لدى الدولة العثمانية التي ساهم الروس بشكل مباشر في إضعافها، إلى أن وصل الأمر إلى تقسيم أملاكها لمناطق حماية بين الدُّول الاستعماريَّة، وانفتح الطريق أمام القياصرة لاحتلال ممالك آسيا الوسطى الإسلاميَّة وهو احتلال وحشي غاشم، شهدت خلاله البلاد مجازر مرعبة وتدمير إنجازات المسلمين الحضارية والمعمارية بشكل متعمد.
الزحف الروسي في وسط آسيا
لقد خاض الروس مع المسلمين حروب إبادةً جماعيَّةً، وأيضًا حملات التنصير الإجباري، التي انطلقت منذ عهد إيفان الثالث في عام (885هـ / 1480م)، وهو قائد الحملة الكبيرة التي أخرجت المسلمين التتار من موسكو بعد أن بقيت تحت حكمهم قرابة 240 عامًا، واستمر العدوان الروسي في عهد فاسيلي الثالث بن إيفان الثالث، فطلب منه البابا أن يعجل بطَرد المسلمين إلى سيبيريا وتشتيت شملهم فيها، واعدًا إياه بالقسطنطينية التي فتحها محمد الفاتح العثمانيّ عام 857هـ.
ولكن أخطر هؤلاء القياصرة كان إيفان الرابع أو “الرهيب” كما أطلق عليه المسلمون هذا اللقب؛ الذي شن حرب إبادةٍ شاملةٍ ضدَّ المسلمين تحاكي حروب محاكم التفتيش في الأندلس، حيثُ أطلق آلة التنصير أو النفي من البلاد على كل مسلم.
وتسببت هذه السياسة في تنصر الكثير من التتار والبشكير المسلمين القاطنين على ضفاف نهر الفولجا، لكن بشكل ظاهري خوفًا على أنفسهم وأسرهم فكتموا إسلامهم سرًا على مدى 3 قرون، ولكنّهم سرعان ما أظهروه عند أول انفراجة عرفتها البلاد.
ثمَّ ما لبث عهد إيفان الرهيب أن ينقضي، حتى خلفه بُطرس (1092- 1138هـ) (1682– 1725م)، الذي يلقّبه المتعصبون الروس بـ “العظيم”؛ الذي فرض التنصير على المسلمين بالقوة أو التّشريد من أراضيهم وأوطانهم، وقد بدأ القيصر الروسي الجديد بالاتجاه جنوبًا إلى شمال البحر الأسود في منطقة أزوف، فاحتلَّها عام (1108هـ/1696م)، ولكن الدولة العثمانية استعادتها سنة (1112هـ/1700م)، بينما منعت المقاومة الشرسة الروس من الاستيلاء على القوقاز سنة (1135هـ/1722م).
ثم أعقب هذه الحقبة عصر الإمبراطورة الروسية “حنا” (1151 – 1169هـ) (1738– 1755م)، والتي انتهجت نفس سبيل من سبقها، ففرضت التنصير على المجرى الأوسط لنهر الفولجا، وأغلقت المدارس والمساجد، ومنعت جميع شعائر الإسلام، وأصدرت أمرًا بإحسان المعاملة مع المرتدين عن هذا الدين إلى النصرانية وإعفائهم من الضرائب والخدمة العسكرية، وشهد عصرها خطف الأطفال الصغار وإدخالهم في مدارس تبشيرية ليَنْشَؤوا على النصرانية الأرثوذكسية.
وتوسعت روسيا بشكل هائل في أراضي المسلمين في عهد “كاترين” (1176 – 1211هـ) (1762 – 1796م)؛ حيث عمدت لمصادرة مئات الألوف من أخصب أراضي تتار القرم، مقابل سياسةٍ متسامحةٍ نسبيًا مع المسلمين، تمنحهم بعض الحرية الدينية، لكنها سياسة ما لبثت أن تغيرت في عصر القياصرة الروس من بعدها، كـ “نيكولا الأول” الذي سار على نهج من سبقه من قمع واضطهاد للمسلمين، واحتل طشقند وسمرقند.
واستمر الاحتلال الروسي لآسيا الوسطى بشكله الأول منذ 1890 إلى 1917م، يسير وفق استراتيجية نزع ملكية الأراضي وتمليكها لأكثر من مليون ونصف مليون من المحتلين الروس، والاستيلاء على أراضي التركستان الذين وقعوا في فخ الدّيون وعجزوا عن سدادها، كما فرضت اللغة والثقافة الروسية على شعوب المنطقة.
وإمعانًا في الحرب على الإسلام وسعيًا لمسح أصوله من الوجود في البلاد انتشر التنصير الإجباري على مذهب النصرانية الأرثوذكسية.
وبالرغم من ظلام هذا المشهد وقسوته كان هنالك نور يضيء من زاويةٍ ما، إنها زاوية الجهاد والمقاومة التي أجهضت خطط الاحتلال الروسي الغاشم.
مقاومة المسلمين للاحتلال الروسي
شهدت هذه المرحلة عناوين لافتةً للمقاومة والجهاد في وسط آسيا، وكان أبرزها: الإمام منصور في عهد كاترين، والإمامين غازي محمد وحمزات (1824-1834م) والإمام شامل في عهد نيكولا.
لقد كان منطقيًا وضروريًا أن تطور شعوب المنطقة مقاومة للاحتلال الروسي بالرغم من ضعفها المادي فشهدت البلاد ارتفاع روح المقاومة ودعوة الجهاد في أروع صورها في عهد كاترين، وذلك على يد الإمام منصور، الذي تجرعت على يده روسيا الهزائم المتتالية في الشيشان والداغستان، وقد حملت هذه الشخصيَّة الإسلاميَّة القوقازيَّة راية الجهاد لم تفتر لها همة ولم تقف عند حد تضحياتها التي برزت بشكل لافت في مشهد الحرب الروسيَّة التركيَّة في عام 1787م ملبية نداء الأتراك.
لقد سجل الإمام منصور انتصارات كبيرة بقيت مدونةً في أذهان الروس إلى أن قتلوه في قلعة “أنابا” على ساحل البحر الأسود، فوقع البطل شهيدًا في أرض المعركة في عام 1794م بعد رحلة جهادٍ استمرت نحو عشر سنوات ضّد القّيصريَة الرّوسيّة.
أما الإمام غازي محمد الداغستاني فهو قائد وإمام قوقازي، ولد في قرية غيمري الداغستانية، واستشهد عام 1832م بعد مواجهته للروس أشدّ ما تكون المواجهة منذ عام 1824م إلى آخر رمق.
وكان رفيق دربه في هذه المقاومة الإمام “حمزات”، والذي خلف الإمام غازي بعد استشهاده وبقي ثابتًا على العهد حتى لقي ربه في عام 1834م، ليخلفه الإمام شامل. وهكذا استمرت مسيرة الإباء من قائدٍ إلى آخر تتوارث العهد بوفاء.
مقاومة الإمام شامل
وارتفع ذكر “الإمام شامل” الذي جمع شمل كافة شعوب شمال القوقاز للقتال تحت قيادته، واستمر على هذه الحال 25 سنة. ويعد الإمام شامل أحد أشهر أعلام الأمة الإسلامية المجاهدين ضد الاحتلال الروسي (1797 – 1871م)، والذي لقبه المسلمون بـ “أسد القفقاس” و”صقر الجبال”.
ولا عجب أن بقي اسم هذا الإمام متوارثًا في التراث الشعبي القوقازي من أناشيدٍ حماسيةٍ وقصصٍ بطوليةٍ إلى يومنا هذا. وما زال جهاده يلهم الأجيال الجديدة رغم بعد المسافة الزمنيّة بين العصرين الماضي والحاضر.
لقد تعاظمت قوة الحركة الجهادية تحت قيادة الإمام شامل، فشكلت عقبةً صلبةً أمام الحملات الروسية الصليبية، وبفضل حرب العصابات التي أتقن فنونها الإمام شامل وجنده تجرع الروس مرارة الهزيمة مرارًا وتكرارً، كان أشدها غصاصة هزيمة جيوش القيصر نيكولا الأول (1825-1855م)، في عام 1837م، عندما واجههم الإمام شامل فقلب أحلامهم إلى كوابيس، وبدل سحق المقاومة في داغستان انهزموا راجعين، فزادت شعبية الإمام.
ولم يتمكن الروس بعد ذلك من القضاء على الإمام شامل رغم استعانتهم بالخونة والجواسيس، مما دفع الإمام شامل إلى نقل مقر قيادته إلى الشيشان، حيث استقبله قبائلها أحسن استقبال.
وبدأت مرحلة جديدة من استنزاف الروس، في ملاحم بطولية لا يزال التاريخ الشيشاني يتوارثها بفخر واعتزاز، مما اضطر الروس إلى الانسحاب من الشيشان، ومن مناطق شاسعة في القوقاز، بعد أن تحولت جبالها الوعرة وتضاريسها الشاقة إلى مقبرة لجيوش القياصرة.
فتيسر للإمام شامل حينها إقامة دولة قوقازية مستقلة، عرفت باسم “دولة شعوب القوقاز الموحّدة”، نظامها الشريعة الإسلامية، وتقوم عليها محاكم شرعية، كما ركز جهوده على تشييد القلاع ومصانع السلاح والبارود، ونشطت في ذات الوقت حركة الدعوة الإسلامية، فوصلت شهرة هذا الإمام لكل أنحاء أوروبا.
ويسجل التاريخ مساندة الإمام شامل للعثمانيين في حرب القرم (1853-1856م) ضد الروس، وهي الحرب التي هزموا فيها شر هزيمة، ولم تتمكن روح الانتقام الروسية من تحقيق أي انتصار على الإمام شامل، لكن ما إن توقفت حرب القرم، حتى تنكرت الجيوش العثمانية والإنجليزية والفرنسية المتحالفة لوعودهم للإمام شامل قبيل حرب القرم، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام جيوش “القيصر ألكسندر الثاني” (1855-1881م)، لاجتياح الإقليم بهدف إسقاط دولة الإمام شامل.
وجاءت هذه التطورات تزامنًا مع انشغال الإمام شامل بتصفية حسابات الخونة والمرتزقة بعد شراء الروس لذِمَمِ من هم حوله، وكان على رأس من باعه “الحاج مراد” زعيم قبائل الداغستان، والرجل الثاني في الحركة الجهادية بعد الإمام شامل، الذي غدر بأميره، ولكنه ما لبث أن انتقل لصف الروس حتى اختلف معهم وانقلبوا عليه وقتلوه، ولم يحققوا له شيئًا مما كان يطمح إليه.
من جانبها تخلت دول العالم عن هذا الإقليم وفتحوا الطريق واسعًا للعدوان الرّوسي الذي دخل بجيش قوامه 280 ألف مقاتل، فأطبقوا الحصار على الإمام شامل ليخسر أغلب جنوده وأسلحته ومؤنه ووفاء من كان يظنهم أصدقاء، فلم يصمد أمام هذه الظروف واعتقله الرّوس في 6 سبتمبر 1859م، وبقي في السجن إلى أن استجابوا لطلبه في الذهاب إلى الحج وكان شيخًا مسنًا، وبالفعل أدى فريضة الحج سنة 1287هـ/1871م، ولكن الله كتب له الموت ينتظره في المدينة المنورة فلقي ربه في أرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودفن في البقيع عن عمر يناهز 75 عامًا.
وحدث ولا حرج عن جرائم الرّوس في المنطقة بعد أن خمدت جذوة المقاومة، فبعد إعلان نهاية حرب القوقاز عام 1864م، سقط الجدار الذي كان يحمي دول آسيا الوسطى الإسلامية من الاحتلال الرّوسي، وبدأت تسقط قلاعها تباعًا في يد الدب الرّوسي، وفي أقل من عام سقطت طشقند ثم سائر بلاد التركستان، لكن مما يجدر ذكره في هذا المقام أن هذا التقدم كان على حساب دماء الرّوس وأموالهم حيث كانت هذه الأراضي مقبرة لجيوش القياصرة.
وتتحدث الأرقام عن خسارة الرّوس 1,5 مليون جندي في هذا الإقليم، ما بين تولي “كاترين” العرش سنة 1762م وحتى سنة 1864م لم يرجع منهم أحد قط.
الثورة الشيوعية والانعطافة الجادة
استمر الاحتلال الروسي في وسط آسيا يسطر الجرائم المتوالية بحق السكان ليخضعهم لحكمه، إلا أن العالم كان على موعد مع حديث خطير سيغير موازين القوى بشكل حاسم، ألا وهو الحرب العالمية الأولى 1914م، وأعقب هذا الحدث -بعد حجم الخسائر الثقيلة في صفوف الروس والتي أثرت على الرأي العام الروسي- قيام الثورة الشيوعية بقيادة فلاديمير بوتين وأفكار كارل ماركس، فدعمها المسلمون للإطاحة بالقيصرية.
ومن المفارقات العجيبة أن قادة الثورة وعلى رأسهم “لينين” كانوا يطلبون مساعدة المسلمين في إسقاط هذا النظام الروسي المجرم، وقد تمكنوا من خداع المسلمين، ومن كلمات لينين للمسلمين آنذاك:
ثوروا من أجل دينكم وقرآنكم وحريتكم في العبادة..
وإمعانًا في استمالة المسلمين قدّم لينين مصحف عثمان -رضي الله عنه- الذي كان بحوزة القياصرة إلى ممثلي المسلمين في بتروغراد.
وانتصرت الثورة الشيوعية سنة 1917م، ووصل البلاشفة للسلطة بعد سلسلة من الصراعات الداخلية انتهت بتقلد “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي” بقيادة فلاديمير لينين الحكم ليلة 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 1917م.
وأطلق البلاشفة بعد ذلك حزمة إصلاحات كان أبرزها الفصل بين الكنيسة والدولة وتأميم المصانع ورقابة العمال على المنشآت الصناعية، مما أدى إلى مواجهة محتدمة مع الاشتراكيين “المناشفة” وتحولت روسيا إلى حرب أهلية دامت رحاها خمس سنوات من (1917-1922م)، انتصر فيها البلاشفة بقوة الحديد والنار عبر أجهزة الأمن السياسي وكتائب “الجيش الأحمر”.
الاتحاد السوفيتي يظهر على الساحة العالمية
وأعقب هذا النصر البلشفي قيام اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في 30 ديسمبر/كانون الأول 1922م، الذي شمل كل من جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية وجمهورية أوكرانيا وجمهورية بيلاروسيا وجمهورية ما وراء القوقاز، واتخذ عاصمة له موسكو بدل بتروغراد التي تحولت إلى لينيغراد ثم سان بطرس بورغ في عام 1991م.
وضم الاتحاد إلى سلطانه خلال 1924-1940م جمهوريات أوزبكستان وتركمانستان (1924م)، وطاجكستان (1929م)، وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان (1936م)، وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدافيا (1940م).
وبعد وفاة لينين عام 1924م خلفه جوزيف ستالين، فقضى على خصومه وأصدر دستورًا جديدًا مكنه من سلطات دكتاتورية مطلقة.
وما لبث أن تمكن ستالين من السلطة حتى اقتلع تتار القرم من مواطنهم، وشهدت حقبته تطهيرًا عرقيًا ممنهجًا استهدف شعوب الجمهوريات والمناطق الإسلامية في القوقاز وتركستان وتترستان، فراح ضحية ذلك مئات الآلاف وهجّر الملايين من المسلمين إجباريًا من بلدانهم، وتم العمل على التغيير الديموغرافي بجلب الروسيين فيما يقدر بـ 12 مليون روسي استوطنوا البلاد.
واحتلت القوات الروسية أوزباكستان وطاجيكستان وكزاخستان وتركمانستان، ولم يكن احتلالًا عسكريًا فحسب، بل رافقه احتلال سياسي واقتصادي وثقافي ولغوي، فحرم المسلمون من أداء شعائر الإسلام وهدمت مساجدهم وأغلقت مدارسهم وألغيت المحاكم الشرعية، ومُنعت الكتابة بالحرف العربي وفُرضت على المسلمين اللغة الروسية والأيديولوجيا الشيوعية الإلحادية، وتزامنت هذه التطورات في نفس الوقت الذي كانت تجري فيه جرائم كمال أتاتورك في تركيا، بسلخ البلاد من مظاهر الإسلام وشعائره بعد نهاية الدولة العثمانية.
وكما هي طبيعة كل محتل فقد أمعن الروس في نهب ثروات المنطقة وانتهاك حقوق أهلها وتحويلها لمختبر تجارب لأنواع أسلحتهم بما فيها النووية، فقد سجلت بعض الدراسات ضحايا المسلمين على أيدي الروس ما يزيد عن 20 مليون مسلم قتلوا خلال نصف قرن فقط في حملة إبادة عرقية ممنهجة.
وامتد نفوذ الشيوعية وسلطانها على جمهوريات الاتحاد السوفيتي الخمسة عشر، والتي منها ست جمهوريات يشكل المسلمون أغلب سكانها، واستولى الشيوعيون في آسيا على أذربيجان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان وجورجيا وأرمينيا فترات مختلفة، وفي قارة أوروبا استولوا على داغستان والشيشان وقبردينو وبلغاريا والقرم وماري وأودمورتيا وتشوفاشيا وتتارية وأورنبرج وبشكيريا واستينا الشمالية.
ولعب التغيير الديمغرافي الممنهج دورًا حاسمًا في تغيير نسب المسلمين في دول وسط آسيا، فقد تأثر عددهم بشكل لافت بعد حملات التهجير الإجبارية والتنصير بالقوة، وتوطين العرقيات الأخرى في البلاد دون الحديث عن مقتل مئات الألوف من المسلمين البشكير والقيرغيز على أثر ثورتهم بعد عام (1336 هـ – 1917 م)، ومات مليون من المسلمين الكراخ والقيرغيز في مجاعات (1340 هـ – 1921 م)، وحوالي مليون آخر من مسلمي كزاخستان بسبب الشيوعيين الذين نهبوا ثروات هذه الجماعات الرعوية.
وتزامن مع الغزو الروسي للآسيا الوسطى وشن الشيوعيين حربًا شرسة على الإسلام حربًا شرسة أخرى في شينجيانغ من جمهورية الصين الشعبية شرقًا حيث كان يعيش المسلمون ذات البلاء من الاضطهاد والتغيير الديمغرافي.
أفغانستان والكلمة الأخيرة
تمكن الروس من احتلال أفغانستان في عام 1978م، وأطلقوا فيها آلة القتل والعدوان، ووقع ضحية المجازر الروسية آلاف المسلمين الأفغان، وسيطر الروس على كابل وعلى باقي أقاليم البلاد، وتشير التقارير إلى إبادة الروس ما يقارب المليون مسلم في أفغانستان في عام 1980م في ظل خذلان عالمي.
لكن طبيعة الشعب الأفغاني، التي ترفض الخضوع للاحتلال وشديدة الاعتزاز بالإسلام، أطلقت مقاومة شرسة ضد الروس فتكبدوا خسائر فادحة، وقويت أكثر هذه المقاومة بتوافد المهاجرين العرب والمسلمين من كل فج عميق في استجابة لنداء النصرة للشعب الأفغاني المسلم، ولم تنته الحرب إلا بنصر مبين على الروس وطرد الاحتلال من أفغانستان في عام 1989م، لتشكل هذه الهزيمة آخر مرحلة في حياة الاتحاد السوفيتي الذي انهار عام 1991م.
تفكك الاتحاد السوفياتي
خاض الاتحاد السوفياتي منذ بروزه في الساحة العالمية، صراعًا مع الرأسمالية الغربية التي كانت تقودها الولايات المتحدة، واجتمعت الأسباب لسقوط هذا الكيان الشيوعي حيث شكلت حربه الخاسرة في أفغانستان المقبرة الأخيرة له، فقد كانت بمثابة المسمار الأخير الذي يدق في نعش الاتحاد، وأعقب هذا التفكك حركة البروستريكا وصعود غورباتشوف للحكم على أنقاض الشيوعية، ولعل أبرز حدث رافق هذه المرحلة هو “استقلال جمهوريات وسط آسيا”، ولكنه استقلال شكلي حيث بقيت إداراتها مرتبطة مع روسيا بإدارة عسكرية وتواجد عسكري فعلي لا سيما على الحدود وخصوصًا في طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان.
ولم تترك الولايات المتحدة المنطقة لتتحرر وتزدهر وتقوم من جديد بل سارعت لفرض أغلال الهيمنة، فعمدت لإنشاء رابطة دولة وسط آسيا يدفعها في ذلك منع تمدد قلعة الإسلام المنتصر في أفغانستان والتصدي لانتشار دعاويها في بلدان وسط آسيا بعد هزيمتها للروس.
وفي الواقع لم يكن رحيل القوات الرّوسية دلالة على نهاية النفوذ الروسي في وسط آسيا؛ ذلك أن العلاقات الأمنية والعسكرية مع الجيش والأمن الرّوسي وارتباط دول وسط آسيا بإشراف روسي أمريكي في حلف أمني عسكري يتصدى لأي صعود من جانب أفغانستان كان أمرًا واقعيًا ملموسًا.
وبدل الاحتلال الرّوسي، استمرت المنطقة تحت الهيمنة الرّوسية والنفوذ الأمريكي واليهودي الغربي تتجلى آثاره بقوة في السيطرة الاقتصادية والثقافية، وحركات التبشير والتنصير التي جاءت لتعوض فراغ الاحتلال الشيوعي.
ولم تنته مرحلة الاحتلال الرّوسي للمسلمين في وسط آسيا إلا بخسائر كبيرة كان منها تناقص عدد المسلمين وضعف معرفتهم بالإسلام التي أصبحت سطحية.
من جانبها بقيت تركستان الشرقية تئن تحت وطأة الاحتلال الصيني إلى اليوم، وتواجه حملة إبادة عرقية، وحربًا على الإسلام تهدف إلى القضاء على معالم الحضارة التركستانية الشرقية الإسلامية.
دور الحكومات الوظيفية
وتمكنت الولايات المتحدة من شراء الذمم وتعيين وكلاء لها في وسط آسيا، سواء على شكل شخصيات أو أحزاب، تحت مسميات جديدة وشعارات رنانة كالقومية والوطنية والديمقراطية.
واتخذت الحكومات الوظيفية الجديدة التي جاءت برضا الروس وظيفة المستعمر القديم، ودخلت في حرب مكشوفة على الحركات الدعوية والنشاطات الإسلامية المختلفة، ولم تسلم منها المدارس ودور التحفيظ ومظاهر الالتزام كاللحية والحجاب، وبدأت مرحلة مطاردة واضطهاد جديدة تزداد حدة مع الأفكار الثورية ومبادئ المقاومة بحجة مكافحة “الإرهاب”.
ومن المفارقات أن تعلن جمهوريات آسيا الوسطى نفسها دولًا ديمقراطية، إلا أنها في نفس الوقت لا تتسامح مع أي نشاط سياسي إسلامي، وكان من ذلك رفضها لحزب النهضة الذي ظهر في طاجكيستان فقضت عليه في عام 2000م. وكذلك الحال مع الحركة الإسلامية الأوزبكية التي ضيق عليها حتى انتهت عام 2001م، ثم حزب التحرير الذي يقبع الآلاف من أعضائه في السجون ويوجس البقية خيفة من المطاردات.
وشهدت المنطقة بعض المحاولات لإسقاط هذه الأنظمة الوظيفية كما حصل في أوزباكستان، والتخطيط لقتل رئيس الدولة وتنفيذ بعض الأعمال الجهادية العسكرية لكنها باءت بالفشل.
الصحوة الإسلامية في وسط آسيا
شهدت بلاد وسط آسيا صحوة إسلامية لافتة ازدهرت فيها الميولات الإسلامية بقوة بعد سياسة الانفتاح التي وضعها ميخائيل جورباتشوف في الثمانينات، حيث خففت الحكومة السوفياتية من مطاردتها لكل ما يتصل بالإسلام، فعرَفت البلاد حركة إسلامية رائدة بإنشاء المساجد وانتشار الأدب والعلوم وعودة المدارس الدينية الخاصة، وأصبح الاهتمام بالقيم والأخلاق الإسلامية صفة سائدة بين سكان هذه البلاد.
ولا شك أن انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991م، أعقبه صعود إسلامي باعتباره التراث الوطني الذي لم تتمكن من محوه آلة الاضطهاد السوفياتية الشيوعية، فكانت عودة سكان وسط آسيا لإسلامهم بقوة دليلًا على أن الشعوب المسلمة ترجع دائما إلى جذورها الإسلامية الأصلية، فانعكست هذه العودة بتوجهٍ ملحوظٍ نحو التدين وبناء المساجد والمدارس للعلوم الدينية، وإقامة العديد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية، ومع ذلك لم تكن فصول هذا الصعود بعيدة عن أنظار الأنظمة الوظيفية المحلية التي كانت تضبطه وتراقبه.
وشهدت مرحلة الصحوة هذه بناء الجسور بين المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى مما أعطى فرصةً لشعوب المنطقة لتبادل أفواج الطلاب مع مختلف الدول الإسلامية، واستقبلت باكستان للمرة الأولى أول دفعة من طلاب الاتحاد السوفيتي في الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد، وبدأ تأثير المدارس الفكرية الكبرى في العالم الإسلامي يزداد بين شعوب المنطقة التي انتقلت إليها أفكار هذه المدارس، فانعكس هذا التأثير الذي لا يزال إلى اليوم بظهور حركات وتيارات كما يلي:[1]
1. حركات جهادية متأثرة بفكر تنظيم القاعدة، وتعتمد حمل السلاح نهجًا لتحقيق التغيير داخل المجتمعات، وبشكل خاص المجتمعات التي تحكمها حكومات قمعية تضطهد المعارضة، حيث نشأ قسم من هذه الحركات داخل آسيا الوسطى، وقسم نشأ خارجها، ونشط بعضها داخليًا والآخر خارجيًا مع تباين في درجة النشاط، ومن المجموعات النشطة في دول آسيا الوسطى والقوقاز الحركة الإسلامية في أوزبكستان، ومنها اتحاد الجهاد الإسلامي الذي انشق عن الحركة الإسلامية الأوزبكية عام 2001م تحت اسم “جماعة الجهاد الإسلامي” وهي جماعة محظورة، ومنها كتائب الإسلامبولي الشيشانية التي ظهرت عام 2004م إثر الهجوم على رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك “شوكت عزيز” ولكن الهجوم فشل، ومنها “جماعة جند الخلافة” في كازاخستان التي تأسست عام 2011م من قبل رينات عبيد الله وأورينباسار موناتوف ودامير زنالييف، ومنها “جماعة قبريدين بلقار” ومؤسسها إنزو استيمروف الذي قتلته القوات الرّوسية عام 2010م، ومنها “إمارة القوقاز الإسلامية” وغيرها من المنظمات الجهادية الكثيرة.
2. الحركات الإخوانية، وهي حركات متأثرة بحركة الإخوان المسلمين، على رأسها “حزب النهضة الإسلامي الطاجيكي”.
3. الحركات المتأثرة بحزب التحرير الإسلامي، وهي حزب التحرير الإسلامي في آسيا الوسطى ومنظمة الإكرامية التي تشكّلت في أنديجان عام 1996م، وهي منظمة ولدت من رحم “حزب التحرير” بعد انشقاق مؤسسها أكرم يولداشوف.
4. المجموعات الصوفية، وهي المتأثرة بالفكر الصوفي وقد نشأت في دول آسيا الوسطى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي منها “نورجيلار” أتباع الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (1870-1960م) و”الطريقة النقشبندية” وغيرها من الطرق الصوفية.
5. جماعة التبليغ، وهي جماعة دعوية تنشط في دول آسيا الوسطى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ومع أنها دعوية إلا أنها حُظرت بموجب القانون في أغلب الجمهوريات في آسيا الوسطى والقوقاز.
وفضلًا عن هذه الحركات والتيارات ظهرت عشرات الجماعات والأحزاب الإسلامية الأخرى بشكل بارز في أوزبكستان وطاجيكستان ومنطقة القوقاز، منها جماعات أوزون موكول (اللحية الطويلة) وعدالت أويوشماسي (جمعية العدل) وإسلام لشكر لري (جنود الإسلام) وتوبة (التوبة) ونور (النور) وحزب العدالة الإسلامي والحزب الديموقراطي الإسلامي وحزب آلاش في كازاخستان الذي أنشأ عام 1990م، إضافة إلى حزب إحياء الإسلام في طاجيكستان الذي يحارب حكومة طاجيكستان مع حركة النهضة الإسلامية، إلا أن الأخيرة تصالحت مع الحكومة فانشق عنها الحزب واستمر في معارضة الحكومة الطاجيكية.
وهكذا شهدت الحقبة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وارتخاء قبضة الاضطهاد والقمع على بلاد وسط آسيا نشاط عدد كبير من الأحزاب السياسية والجهادية الإسلامية، والتي لا تزال تظهر مما يعكس عمق الإسلام في هذه المنطقة.
ومع تباين نشاط هذه الجماعات وفعاليتها ودرجة تأثيرها، يظهر أن أكثرها تأثيرًا وقوة ونشاطًا “3 جماعات” تتواجد على طول وعرض آسيا الوسطى:
1. حزب النهضة الإسلامي: وهو حزب سياسي سلمي، ومع ذلك لم يحظ بقبول الحكومات وواجه المكر والمؤامرات لمنعه من استلام الحكم.
2. حزب التحرير الإسلامي: هو الحزب الذي أنشأه الشيخ تقي الدين النبهاني عام 1953م في الأردن، وصل لوسط آسيا في التسعينيات، وهو حزب سياسي إسلامي ينشد إقامة الخلافة الإسلامية عن طريق نشر الوعي السياسي بين الشباب بعيدًا عن الكفاح المسلح.
3. الحركة الإسلامية في أوزبكستان: التي انضمت في بداياتها إلى حزب النهضة الإسلامي فرع أوزبكستان، لكنها انشقت عنه كونها عارضت طريقته في الإصلاح عن طريق الانتخابات واتهمته بأنه صنيعة الحكومة، واختارت طريق الثورة والقوة فوُلد بعد هذا الانشقاق “حزب العدالة” الذي انتشر بسرعة فائقة في إنديجان ومارجيلان وكووا وكل وادي فرغانة حتى وصل تأثيره إلى منطقة أوش في قيرغيزستان مما أضعف تأثير حزب النهضة، وكان رد الحكومة في أوزبكستان حظر الحزب واعتقال قياداته في عام 1992م، فهرب البقية إلى طاجيكستان ومنها إلى أفغانستان، من أشهر قياداته “طاهر يولداشف” الذي سافر إلى أفغانستان والشيشان وقابل قيادات المقاومة الشيشانية، وجمعة باي نمنكاني اللذان أعلنا معا في كابول عام 1998م ولادة “الحركة الإسلامية الأوزبكية”، والتي احتضنتها طالبان في أفغانستان.
العمل للإسلام لم يتوقف في أحلك الظروف
لقد قدم نشاط هذه الأحزاب الإسلامية الكثيرة دليلًا على فشل النظرية الشيوعية، حيث لم تنفع سنوات الغزو الفكري والعسكري في مسح جذور الإسلام في هذه المنطقة، وسرعان ما توجه الناس له عند أول انفراجة.
وفي الواقع استمر مدد الإسلام خفيًا في داخل الشعوب المسلمة في وسط آسيا، حيث يسجل الباحثون استمرار المدارس الإسلامية السرية والمساجد الخفية والخانقاهات والطرق الصوفية محافظة على مستوى من التدين بين شعوب المنطقة وخاصة في الأرياف والقرى رغم آلة البطش الرّوسية، حيث تسجل التقارير حوالي ستمائة مسجدًا سريًا كان يعمل في أوزبكستان فقط عام 1945م، كما أن حوالي خمسمائة مدرسة ومسجد كانت تعمل في طاجيكستان في تلك الفترة.
ولعبت النساء دورًا مصيريًا في الحفاظ على الإسلام، وواصل آلاف الشيوخ غير الرسميين قيادة المراسم الدينية للناس في الموالد والمآتم والأفراح والأتراح.
ولم يتوقف الأمر عند السرية بل اختلط آلاف الشباب في ثمانينيات القرن الماضي في الحرب السوفيتية على أفغانستان بإخوانهم الأفغان فتأثروا بدعاويهم الجهادية، وتُرجمت الكتب الإسلامية إلى اللغة الرّوسية وإلى اللغات المحلية وكُتبت بحروف سيريلكية، وتم تداول هذه الكتب في داخل الأراضي الواقعة تحت سلطان الاتحاد السوفيتي، وتشير بعض التقارير إلى مركز دراسات المنطقة في “بيشاور” الذي لعب دورًا كبيرًا في إعداد هذه الكتب التي أحدثت تأثيرًا كبيرًا بين المسلمين في وسط آسيا.
العدو الجديد بعد الاحتلال الشيوعي
ومع الظهور اللافت للأحزاب والتيارات الإسلامية في دول وسط آسيا، ظهر أيضًا حلف روسي أمريكي غربي مع الحكومات المحلية، أدى إلى الصدام العنيف بين الطرفين، برزت خلاله أساليب المؤسسات الاستخبارية في ظل القبضة الحديدية للكيجيبي الروسية، والتي عملت على مراقبة الحركات والأحزاب الإسلامية وعمدت لقطع أسباب صعودها.
فأعلنت الحكومات حظر الأحزاب وتجفيف منابعها الفكرية، وذلك بمنع البعثات واستدعاء الطلاب الذين خرجوا لتحصيل العلم في الدول الإسلامية، وسنّت دول آسيا الوسطى قوانين تمنع على أساسها الأنشطة الدينية، وتجبر الناس على الخضوع لما يسمى بإسلام الحكومات فأغلقت العديد من المساجد والمدارس ووضعت جميع المؤسسات الدينية بما فيها المساجد تحت الرقابة والتفتيش.
ومن الأمثلة على ممارسات الحكومات في بلاد وسط آسيا إغلاق السلطات الأوزبكية أكثر من ثلاثة آلاف مسجد خلال سنتين إلى ثلاث سنوات وحولتها إلى نوادي ليلية ومصانع.
وانطلقت آلة محاربة كل مظاهر التدين، وسياسة القهر والقتل والخطف في السجون السرية، وتناقل الناس الآلاف من قصص اغتصاب النساء والتعذيب والقتل داخل السجون، إضافة إلى مراقبة الأنترنت وحصار المسلمين.
منها ما تم توثيقه في تقارير مؤسسات حقوق الإنسان التي اختصت برصد الانتهاكات الإنسانية في دول آسيا الوسطى. ورغم ما يتم تصديره اليوم من شعارات الديمقراطية والحريات، فإن الانفراجة التي عرفتها الأمة المسلمة في وسط آسيا لا تزال تهددها دعاوى مكافحة الإرهاب التي تعتبر كل دعوة إسلامية عدائية فضلًا عن التشويه المتعمد لجوهر الإسلام وحقيقته.
ومما تم رصده في واقع بلاد وسط آسيا اليوم أن الاستمرار في اضطهاد المسلمين وفشل الأداء الحكومي في الاستجابة لمطالب الشعوب، عزز أكثر الجماعات الجهادية المسلحة التي تصنف “إرهابية” حيث خرجت إلى أفغانستان ومناطق ذات تضاريس تسمح لها بمواصلة نشاطها، بل وانضم الكثير من المسلمين من بلاد آسيا الوسطى إلى جماعات بمشاريع عالمية كتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، ومنهم من وصل إلى غاية بلاد الشام لنصرة أهلها أمام العدو اللدود الرّوسي وقوى العدوان، فأصبحت تداعيات الاضطهاد أكبر بكثير من توقعات الحكومات الفاشلة وروسيا والولايات المتحدة، وبالتالي كلما اشتدت الحرب على الإسلام كلما لجأ أبناؤه إلى الكفاح المسلح وما يصنف في دائرة الإرهاب.
مستقبل وسط آسيا
اتفقت الخلاصات على أهمية وسط آسيا الكبيرة، فقد أكد زبينغوفي بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” على أهمية آسيا الوسطى كونها نقطة الوصل بين أوروبا وآسيا. ولذلك تعيش هذه المنطقة اليوم صراع نفوذ روسي أمريكي كبير، من جهة لموقعها الاستراتيجي، ومن جهة لحجم الثروات التي تزخر بها، ومن جهة لكونها تتحكم بخطوط نقل البضائع وأنابيب نقل النفط والغاز، وقد نجح الطرفان المتنافسان في اختراق المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وحتى عسكريًا، ومع ذلك لم يختلفا البتة في مسألة محاربة الإسلام التي اتخذت أشكالًا أكثر مكرًا مما سبق.
ومن زاويةٍ أخرى تتواجد في وسط آسيا اليوم ديانات أخرى غير الإسلام، ولكل ملة معتقداتها، ومن هذه المِلَل اليهود الذين يفوق عددهم 350 ألف يهودي أصلي، ينتظرون خروج آخر ملوك بني إسرائيل “الدجال” الذي تواتر ذكره في الكتب السماوية.
ويأتي اختيار اليهود لوسط آسيا تحديدًا من أوزبكستان إلى أذربيجان كونها محطة يخرج منها الدجال فينطلق بعد أن يتبعه سبعون ألفًا من يهود أصفهان لبقية أنحاء العالم.
وتعد إقامة الجالية اليهودية في المنطقة إضافة إلى الجالية اليهودية في إيران واجبًا وفرضًا يحرم عليهم الهجرة إلى دولة اليهود في فلسطين المحتلة على عكس باقي اليهود المستوطنين من كافة أنحاء العالم؛ وذلك لأنهم في مهمة انتظار خروج الدجال.
وكذلك يحمل المسلمون في نبوءات آخر الزمان دلالات على بقاء الإسلام في وسط آسيا قوة متصاعدة، بل وموطن مدد للأمة الإسلامية، حيث تشير الأحاديث إلى أن الرايات السود ستخرج من منطقة شمال أفغانستان إلى النهر وما وراءه، والتي يكون مع قوتها تمكين المهدي المنتظر الذي نبأنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا ويقود المسلمين للنصر في ملاحم آخر الزمان في الشام ضد اليهود والنصارى.
وهو ما يدفع بعض الباحثين المسلمين للتشديد على أهمية هذه المنطقة في خارطة العالم الإسلامي، ذلك أن تضافر النبوءات الشرعية والمعرفة التاريخية والاستقراءات السياسية مع الأسباب العسكرية يشكل بعدًا استراتيجيًا حاسمًا لقراءة مستقبل الأمة الإسلامية وهو ما اجتمع اليوم في وسط آسيا ليبشر بالخيرات.
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم في المستدرك، ولفظ ابن ماجه من حديث ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
يَقتَتِلُ عند كنزكم ثلاثةٌ كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلُعُ الراياتُ السود من قِبَلِ المشرق فيقتلونكم قتلًا لم يُقتَلهُ قومٌ… ثم ذكر شيئاً لا أحفظه فقال: فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوًا على الثلج، فإنه خليفة الله المهديُّ.
قال ابن كثير رحمه الله: “والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة يَقتَتِل عنده ليأخذوه ثلاثة من أولاد الخلفاء حتى يكون آخر الزمان، فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامرا”، وقال أيضًا:” ويُؤَيّدُ بناسٍ من أهل المشرق ينصرونه، ويقيمون سلطانه، ويشيدون أركانه، وتكون راياتهم سودًا أيضًا”.
وبناءً على ما تقدم من تاريخ دول وسط آسيا المسلمة، وبقاء الإسلام متجذرًا فيها رغم الاحتلال الذي امتد لعقودٍ، وبالنظر إلى تفاصيل الصحوة الإسلامية التي عرفتها البلاد والمستمرة رغم حجم الاضطهاد، وواقع المنطقة الذي تعيشه اليوم ببقاء حركات الدعوة والجهاد نشطة ومرنة فضلًا عن النبوءات الشرعية، فإننا نستبشر بانتصار الإسلام في وسط آسيا وامتداد بركات نصره إلى غاية مركز العالم الإسلامي، فيما يتصل اتصالًا وثيقًا بمستقبل الأمة قاطبة، فالعمل العمل على ربط جسور الوحدة الإسلامية مع شعوب المنطقة والاهتمام بهم ودعمهم كعضوٍ من أعضاء جسد واحد، حمدًا لله على نعمة الأمة الواحدة.
كانت هذه قصة الإسلام في بلاد ما وراء النهر، وسط آسيا، بحلوها ومرها تتدافع حلقاتها لترسّخ حقيقة ثابتة أن المستقبل لهذا الدين، ولهذا الدين فليعمل العاملون.
المصادر
- القسم الأول: آسيا الوسطى والقوقاز ..الأهمية الاستراتيجية والواقع السياسي والاجتماعي
- القسم الثالث: موقف الأنظمة الحاكمة من الأحزاب الإسلامية.
- منذ الفتح الإسلامي حتى اليوم لأحمد عادل كمال,
- التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر.
- محنة المسلمين في آسيا الوسطى والقوقاز لسعيد أحمد سلطان.
- المسلمون في الاتحاد السوفيتي “سابقًا” دراسة اجتماعية اقتصادية سياسية لمحمود طه أبو العلا.
- آسيا الوسطى والقوقاز تحت الاستعمار الروسي.
- الإمام شامل: بطل القوقاز الباسل.
- القسم الأول: آسيا الوسطى والقوقاز ..الأهمية الاستراتيجية والواقع السياسي والاجتماعي.
- أصحاب الرايات السود.
- الإسلام في الاتحاد السوفيتي
- بريجنسكي، زبيغو، ” الاختيار، السيطرة على العالم أم قيادة العالم” ترجمة عمر الأيوبي. دار الكتاب العربي للنشر، بيروت، ص15-20.
- الأقليات المسلمة في المعسكر الشيوعي، د. أحمد الخاني.
شكرا جزيلا للكاتب انرتم عقولنا بالمفيد