الجزية.. تصحيح المفهوم
لعل البعض يرى أن الحديث عن قضية مثل الجزية في مثل واقع المسلمين اليوم هو نوع من الترف الفكري، حيث أنه لا دولة للإسلام أصلًا تحتكم إلى شرائعه لنبحث إن كانت الجزية ستطبق فيها أم لا. إلا أن الحقيقة التي أراها هي أن موضوع الجزية هو مثال جلي لعمليات العبث المستمرة في العقل المسلم بغية إخضاعه لضوابط أخرى غير ضوابط الشرع المنزل من الله تعالى.
فالجزية تمثل إحدى المطاعن التي اعتاد أعداء تلك الأمة الطعن على الإسلام من خلالها، فكانت دائمًا منفذًا لأولئك الذين يريدون إثبات رجعية الإسلام وعدم مناسبته لنظم الدولة الحديثة، أو أولئك الذين يريدون إثبات توحشه وتسلطه بالقهر على من يخالفه، وكذلك هؤلاء الذين يسخرون من الرغبة الكامنة في نفوس كثير من المسلمين إلى العودة إلى التحاكم إلى الشريعة الربانية التي لم يعرفوا عزًا ولا مجدًا إلا في ظل حكمها. إذ كيف تجنحون إلى شريعة توصي بأخذ الجزية من أهل الكتاب وتنتظرون منها رفعة ومجدًا؟!
وقد انبرى كثير من بين أهل هذا الدين لرد تلك الشبهة ودحضها، فمنهم من وفقه الله بتوفيقه، ومنهم من دحض شريعة الجزية دحضًا للشبهة!
ولكننا اليوم لسنا بصدد الغزل على أحد هاتين الطريقتين، ولكننا سنتعرض للأمر بطريقة أخرى. وقبل أن نفعل دعونا نحرر معنى الجزية ونفهمه.
ما هي الجزية؟
الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن.
ذكره الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.وذكره القرطبي في تفسيره.
أما في الاصطلاح فهي تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون.
وبناء على ما سبق… فإن أي ضريبة أو رسوم يتم تحصيلها مقابل تمتع غير المسلمين بحماية الدولة الإسلامية والإقامة فيها فهي تحمل معنى الجزية. وكذلك فإن أي دولة -غير دولة الإسلام- تُحصّل رسومًا أو ضريبة على غير مواطنيها المقيمين على أرضها مقابل تمتعهم بالإقامة والحماية فهي تحصل جزية وإن سمتها بغير ذلك.
فهل دولة الإسلام هي الدولة الوحيدة التي حصلت مثل تلك الضريبة؟
قديمًا
لا يكاد يكون هناك نبي ظهر على أعدائه، ولا دين حكم غير أبناءه إلا وضرب عليهم الجزية. والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، منها مثلًا:
نقل العهد الجديد حين قال المسيح لسمعان: “ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب. قال له يسوع: فإذًا البنون أحرار” (متى 17/24-25).
وحين تغلب النبي يوشع على الكنعانيين “فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيدًا تحت الجزية” (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
والمسيحية لم تنقض شيئًا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متممًا للناموس لا ناقضًا له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها، فقد قال لسمعان: “اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولًا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارًا، فخذه وأعطهم عني وعنك” (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها “فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: “يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن، أيجوز أن تعطي جزية لقيصر أم لا؟ فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة. قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه” (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الإثني عشر (انظر متى 9/9).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقًا مشروعًا، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمرًا دينيًا، إذ يقول: “لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة… إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضًا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضًا، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام” (رومية 13/1-7).
وعلى ذلك فإن الجزية ليست شريعة جديدة على الأرض أتى بها الإسلام ولم تأت في الشرائع قبله، بل هي معروفة مألوفة مثبتة في كتب الأمم السابقة وشرائعها.
حديثًا
لا توجد دولة في العالم أجمع لا تفرض رسومًا أو ضرائب شهرية أو سنوية على غير مواطنيها مقابل السماح لهم بالإقامة داخل حدودها وتمتعهم بالخدمات المقدمة من حكومتها. وتتعدد أشكال تلك الضريبة وقيمها بتعدد أغراض الإقامة، فمن رسوم التأشيرات السياحية، إلى تكاليف استخراج إقامة بغرض الدراسة، وكذلك رسوم الإقامات السنوية لغرض العمل… وهكذا.
يحدث هذا في أوروبا وأمريكا والخليج وأستراليا وآسيا ودول أفريقيا. يحدث يوميًا في كل بقاع الأرض مع كل أجنبي يقيم في غير بلاده بلا نكير من أي جهة.
فلماذا الجزية وحدها إذا هي المستهجنة والمستنكرة؟!
الحقيقة إن ما يجري مع قضية الجزية هو نفس ما يجرى مع كثير من القضايا المتعلقة بالشريعة الإسلامية من محاولات إخضاع العقل المسلم وإخراجه عن أطره وضوابطه الحاكمة وتغريبه.
فهم إنما يطعنون على الجزية لكونها جزء من الشريعة التي يعلمون أن استمساك المسلمين بها هو محور المجد والرفعة لتلك الأمة، يعلمون ذلك ويوقنونه أكثر من المسلمين أنفسهم، ولذلك فهم يبذلون ما يبذلون لتغريبهم عن شريعتهم.
يطعنون بالجزية لأنها على اتصال وثيق بقضيتين طالما أرادوا وأدهما في قلوب المسلمين، أولاهما هو وجود دولة الإسلام، إذ كيف يقيم المسلمون ضريبة بدون دولة وسلطان؟!
أما الثانية فهو حد المواطنة في تلك الدولة، حيث إن حد المواطنة فيها هو العقيدة، وعلى ذلك فهي لا تفرض الجزية على مسلم، بل تفرضه على غير المسلمين، وتعتبر كل مسلمي الأرض من مواطنيها الذين يجب بذل الولاء لهم.
فإقرارهم بالجزية إذًا هو إقرار منهم بأحقية المسلمين في إقامة دولة لهم تتحاكم إلى شريعة الإسلام ويكون حد المواطنة فيها هو الإسلام. وذلك إقرار منهم دونه رقابهم. وتلك هي حقيقة رعبهم من الجزية في الإسلام.