هل المطالبة بإقامة الشريعة من مسئولية العلماء فقط؟
لم يكن سؤال تحكيم الشريعة مطروحًا من قبل؛ إذ اعتبره المسلمون أصلًا من أصول الإسلام. وقد حُكمت الأمة الإسلامية من أعراق وأجناس مختلفة، ولكن بعد تردّي أحوال العالم الإسلامي تحت وطأة المستعمر خاصة البريطاني، فُرِضت على المسلمين تشريعات وقوانين وضعية ضلت بوصلة المسلمين.
ومنذ ذلك الحين، اشتعلت النزاعات بين العلماء والدعاة والمفكرين، وضل فهم الناس لمفهوم الشريعة، حيث أصبح البعض يخاف من كلمة تحكيم أو إقامة الشريعة؛ بسبب بعض التصورات الخاطئة عنها.
وانعدم التصور حول كيفية تحكيم الشريعة عند فريق آخر، وتصور بعضهم أن من الصعب إقامة الشريعة لعدم صلاحيتها للوقت المعاصر! فما الشريعة المراد إقامتها في البلاد؟ ومن المعنيون بالمطالبة بذلك؟
الكثير والكثير من الاختلاف حول ذلك المفهوم الجليل «الشريعة»، وهذا أمر طبيعي؛ فالاختلاف سنة كونية قد قدَرها الله بين عباده. ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (هود 118، 119).
والحل الوحيد في هذا الاختلاف الذي قدره الله تعالى هو الرجوع إلى النهج الإسلامي والشرع الحنيف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء59).
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى10). ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء٦٥).
والخلاف في الأمور أزلي، وليس فقط في مسألة إقامة الشريعة، وكثرة التنازعات في ذلك الأمر لا يلغي صلاحيته أو يلغيه من الأصل؛ فقد كان الاختلاف قائمًا في مفاهيم وقيم، كمفاهيم: الديمقراطية، والحرية، والخير والشر، والسعادة، وغيرها، وتعددت المدارس والاتجاهات والمذاهب لتفسيرها.
ما الشريعة؟
الشريعة في اللغة: هي مصدر شَرَعَ، ومنه قول الله عزّ وجلّ:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية18)؛ أي جعلناك على طريقة مستقيمة.
والشريعة الإسلامية هي ما شرعه الله لعباده المسلمين من أحكام وقواعد ونظم لإقامة الحياة العادلة، وتصريف مصالح الناس، وأمنهم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة في شُعَبِها المختلفة لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين»:
فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.
ويقول:
فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي قطب العالم، وقطب الفَلَاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
التحاكم إلى الشريعة
هل أوجب الله الحكم بشريعته، وحذَّر منَ العُدُولِ عنها أو التحاكم إلى غيرها؟ جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم تحذيرات لمن يتحاكمون لغير الشريعة. ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة 49)
ثم يُنكر الله على من خرج عن حكمه، ويُثني على من تحاكم له ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة50). ويحذر الله من ترك الحكم بما أنزل الله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة 47،45).
إن قضية إقامة الشريعة هي الأساس والقاعدة الصلبة لهوية الأمة ودينها، ولا ينبغي إبراز قضية الشريعة بالغموض والشذوذ عن الواقع؛ فتحكيم الشريعة هو الأصل والقاعدة، وليس الاستثناء! وينبغي على كل مسلم التسليم والانقياد والاتباع لشريعة الله.
هل تصلح لكل زمان؟
إن الإسلام دين كامل مُكتمل بذاته، والشريعة لم تترك أي فجوة؛ فالتشريعات بدأت من الأمور البسيطة من آداب الطعام والشراب، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث، ثم تتعمق أكثر في الأمور السياسية والحروب بكامل التفاصيل.
وهذا الاكتمال يجعل من الصعب دخول تشريعات أخرى من خارج الدين لتسد أي فجوة؛ فسورة «الطلاق» تتضمن أحكام الطلاق، وسورة «النساء» تتضمن في مطلعها أحكام المواريث، وفي سورتي «التوبة والأنفال» الكثير من أحكام الحروب والقتال.
فالإسلام وضع الأساس والمبادىء العامة للتشريعات، لذلك كان الأصل الإباحة إلا بنص بالتحريم. إن جيل الصحابة أَحْسَنَ فهمَ ذلك الأمر، وعلم أن الإسلام قادر وكافٍ على احتواء جميع نواحي الحياة.
يدلل على ذلك قول عمر في كتابه لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- لما ولاه القضاء:
ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك.
ومن هنا استوعبت الشريعة أحكامًا أوسع من مجرد الوقوف على ألفاظها ونصوصها، ولو كان هناك ما لم يُنَص عليه، أو يدخل تحت عموم، أو ليس له ما يقاس عليه، فهو إذن حلال على البراءة الأصلية (الأصل في الأشياء الإباحة)، ولو سأل سائل عن دليل عدم حرمتها قلنا:(الدليل عدم الدليل)؛ أي عدم دليل التحريم.
وليس غريبًا أن الله -عز وجل- ختم تشريعه بقوله:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة3). وفي خطبة الوداع، روى مسلم (1218) من طريق حَاتِم ابْن إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- حديث حجة الوداع، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبهم بعرفة وقال:
… وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟” قَالُوا: “نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ”، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ “اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ” ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
من هم المعنيون بالمطالبة بإقامة الشريعة؟
يظن كثير من الناس أن المطالبة بإقامة شرع الله من مسئولية العلماء، وعادة يُختزل هؤلاء العلماء في علماء الأزهر الشريف، الذي يتمثل عند البعض في شيخ الأزهر. وهذا الكلام يردده الكثير من الناس في الوقت الحالي باقتناع راسخ، بل ومن الممكن أن يصف أي شخص أو داعية من خارج علماء الأزهر يطالب بإقامة شرع الله بالتآمر أو التخريب، فهل يظن نفسه أعلم من علماء الأزهر؟
والحقيقة أن المطالبة بإقامة وتحكيم الشريعة هي مسئولية الجميع. وإن النوازل والبلاءات التي نزلت بالأمة نزلت نتيجة التحاكم إلى القوانين الوضعية، ولما نزلت تلك المِحن عَمَّ شرُها على المسلمين جميعًا.
ويجب على الجميع الصغير والكبير، والذكر والأنثى أن يعلم أن أحكام رب العالمين كلها خير ومصلحة للعباد، وأن تركها مفسدة يترتب عليها فساد أحوال العباد والبلاد. وهناك الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة.
- يقول تعالى:
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال25).
يقول صاحب الظلال في تأويل تلك الآية (ص 1496):”والفتنة: الابتلاء أو البلاء.. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره -وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة- ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين.. جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.
فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع (فضلًا على أن يروا دين الله لا يتبع، بل أن يروا ألوهية الله تُنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!) وهم ساكتون.
ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون! ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال، فقد عاد القرآن يُذكِّر العصبة المسلمة -التي كانت تُخاطَب بهذا القرآن أول مرة-.
بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها.. وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقًا طيبًا.. فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله، ولا عن تكاليف هذه الحياة التي أعزها بها الله، وأعطاها وحماها”.
- وقد جاء في حديث أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه-:”إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ”.
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ-، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة 105)، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ:” إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغِّيِروه، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ”.
فالواجب على المسلمين جميعًا أن يطالبوا بتحكيم الشريعة، ولا فرق في المطالبة بذلك بين أزهري أو عامي، ولا بين ذكر وأنثى؛ فالمجتمع مسئول مسئولية كاملة عن إقامة الشريعة، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
فالواجب على المسلمين تغيير وإزاحة تلك الأنظمة الوضعية بكل ما استطاعوا، سواء كان تغيير المنكر باليد، أو باللسان، أو بالقلب، ولكن من الضروري القول إن إنكار المنكر بالقلب هو أن لا يخالط المنكر كما حذرنا الله تعالى:﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ (النساء 140)، فالإنسان إذا جلس مع أهل المنكر صار حكمه حكمهم.
إن الشريعة الإسلامية هي الملاذ، فكلها عدل ورحمة وحكمة، وفي إقامتها خير الدنيا والآخرة من صلاح للعباد والبلاد، كما أن في هجرها والتحاكم إلى غيرها من القوانين الوضعية فساد البلاد والعباد.
المصادر
- سيد قطب، في ظلال القرآن.
- ابن القيم، أعلام الموقعين.
- الشيخ عبد الناصر حمدان بيومي، مقاصد تطبيق الشريعة الإسلامية والرد على شبهات المعارضين.
- د/ فهد بن صالح العجلان، سُؤالات تحكيم الشريعة.
- صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان (مقال).
الامة الان فى حالة من الضعف والتردى وليس من الحكمة انتظار او محاولة تغيير الانظمة القمعية الحاكمة حتى نقيم شرع الله فى الارض ولكن على كل مسلم ان يقيم شرع الله فى نفسه وفى بيته وبين اهله ما استطاع الى ذلك سبيلا وان يسدى النصيحة لمن يتوسم فيه الخير