دور الدب الروسي في المسرح الدولي

برز دور روسيا في العقد الأخير بشكل لافت، لدرجة اعتبرها البعض منافسة لأمريكا، لا سيما بعد تدخلها العسكري في جورجيا، وضمها شبه جزيرة القرم عنوة من أوكرانيا، ودورها البارز في سوريا، وتدخلها على نحو ما في الصراع الدائر في ليبيا. فهل روسيا في موقع يسمح لها بالمنافسة على دور الدولة الأولى في العالم فعلاً، وهل لديها مقومات تجعلها قادرة على التدخل في القضايا الدولية والتأثير بالمشهد السياسي الدولي حسب أجندتها الخاصة؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من التوقف عند واقع روسيا الحالية كناتج لمجموعة من التحولات الكبرى التي مرت بها خلال القرنين الأخيرين.

روسيا بين القيصرية والشيوعية

تعتبر الإمبراطورية الروسية التي حكمها القياصرة على مدار قرنين من الزمن (1721م إلى 1917م)، من أكبر الدول الاستعمارية وأهمها وأكثرها شراسة ومنافسة للإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس لعظم حجم مستعمراتها في العالم حينها، وقد دخلت الدولتان في تحالفات معًا حينًا على نحو ما جرى بينهما ضد التمدد الفرنسي بقيادة نابليون أوائل القرن التاسع عشر، وتطاحنتا في حروب أحيانًا أخرى على نحو حرب القرم  (1853 – 1856)، فيما تنافستا على مناطق وسط آسيا، وكانتا في سباق للانقضاض على الدولة العثمانية والتهام ممتلكاتها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

نجحت الثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين عام 1917م في إسقاط النظام القيصري، فتغيرت تركيبة السلطة وهوية الدولة وتوجهاتها، وتحولت إلى نظام اشتراكي ضمن كيان جديد هو الاتحاد السوفييتي لسبعة عقود. أدى هذا التغيير إلى خلق كيان جديد بأيديولوجيا جامدة وجسم ضخم، لكنه بلا فاعلية مستقلة في المسرح الدولي، فقد كان محاطًا بالصين الشيوعية الماوية المناهضة له بذريعة انحراف قيادة الحزب الحاكم في الاتحاد السوفييتي عن المبادئ الشيوعية. وكان تدخله في القضايا الدولية يمر عبر التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو ما جرى حين تدخل الاتحاد السوفييتي لإيقاف العدوان الثلاثي الذي قادته بريطانيا مع فرنسا و”إسرائيل” ضد مصر عام 1956 أو حين توافقتا على استراتيجية تحجيم دور أوروبا في العالم.

واقع النظام الشيوعي

قامت الشيوعية من حيث المبدأ ضد الرأسمالية، وقد تمكنت من فضح شرورها وأخطارها وبشاعة استغلالها للبشر إلى حد بعيد جدًا، فاجتذبت الكثيرين إلى فكرة العدالة والمساواة  المطلقة، ونفرتهم من الرأسمالية الجشعة التي تعيش على استعمار الآخرين واستغلالهم. لكن عجز الفكرة الشيوعية عن تطوير بديل عملي يعالج شؤون الناس ويحسن رعايتهم أدى إلى انقلاب الناس عليها.

فقد صادرت الدولة ثرواتهم وأممت الأراضي الزراعية والمصانع، وألغت الملكية الفردية أو حدت منها إلى درجة بعيدة، ووزعت الثروة بطريق مغلوط، وتبنت فكرة الإلحاد بالخالق واعتبار كل شيء خاضع للمادة وقوانينها. وفرضت تصوراتها هذه كمرجعية لتشريع الأنظمة والقوانين التي تناقض فطرة الإنسان، فغريزة التدين أصيلة فيه، وحب التملك الخاص لدى الفرد من مظاهر غريزة البقاء يكافح من أجلها، واعتماد فكرة توزيع الثروة حسب الحاجة، مع إغفال مدى القدرة على الكسب وحب التنافس والحصول على قيمة تعويضية مرضية، يحبط الإنسان ويقعده عن الاجتهاد والإبداع.

بالمحصلة، أدى تطبيق الأنظمة الشيوعية إلى الفقر والفساد والإحباط، وكانت صفوف المواطنين الطويلة البائسة تنتظم للحصول على فتات الطعام. كما عانى الناس من تغول الحزب الشيوعي الحاكم واستبداده وتعسف أجهزته الأمنية، الذي لاحق الممتعضين قبل المعترضين، وسحق مناوئيه ببشاعة قل نظيرها، وشاعت التصفيات الجسدية، وكثرت حملات الاعتقال والتهجير التعسفي، ما أدى إلى خلق كيان أمني مرعب يعشش في ربوعه الخوف والفقر والقهر والاستبداد.

انهيار الاتحاد السوفييتي

أدرك الغرب الرأسمالي قصور الأنظمة والقوانين الشيوعية وبشاعة ممارسات الحزب الشيوعي وقسوته، فأطلق حملة دعائية منظمة ومتناسقة ومركزة ضد الشيوعية، مظهرًا مدى البؤس والشقاء الذي تسببت به، مع إبراز ما يتمتع به المواطن في دول الغرب الرأسمالي من ثراء وحرية وديموقراطية، فوجدت تلك الحرب النفسية صداها، لا سيما في المراحل الأخيرة من زمن الاتحاد السوفييتي، حيث ازدادت الأوضاع سوءًا وساد الكساد العام في الأسواق.

ترافق ذلك مع تصعيد الرئيس الأمريكي رونالد ريغن استراتيجية سباق التسلح بعد وصوله لرئاسة أمريكا عام 1981، فزاد الإنفاق العسكري على التسلح بشكل كبير، وتبنى مبادرة الدفاع الأمريكية الاستراتيجية المعروفة “بحرب النجوم” عام 1983، التي تعتمد المنظومة الصاروخية الفضائية لحماية أمريكا من أي هجوم محتمل بواسطة الصواريخ السوفيتية الباليستية العابرة للقارات، ما يعني تحولًا نوعيًا في موازين القوى بين البلدين، حيث كانت العلاقة قبل ذلك قائمة بينهما على إمكانية التدمير الشامل المتبادل في حال نشبت حرب بينهما، أما مبادرة الدفاع الاستراتيجي فتقوم على أساس أن أمريكا باتت قادرة على تنفيذ هجمات ضد الاتحاد السوفييتي، فيما يعجز الأخير عن الرد بسبب الشبكة المتطورة من الصواريخ الأمريكية، ما يعني شل الأسلحة النووية السوفيتية وإحالتها إلى التقاعد لعدم قدرتها الوصول إلى أهدافها، بل مع إمكانية تدميرها في فضاء الاتحاد السوفييتي نفسه.

دفع كل ذلك قادة الاتحاد السوفييتي إلى إعادة النظر في الأنظمة الشيوعية المعمول بها، وقام “ميخائيل غورباتشوف”  آخر رئيس للاتحاد السوفييتي بتبني الـ “بيريسترويكا” عام 1987م بهدف إعادة هيكلة الاقتصاد الشيوعي من خلال “إصلاحات” مطعمة بالرأسمالية، تضمنت تخفيف تدخل الدولة في تنظيم السوق، والسماح بعمل شركات استثمارية غير تابعة للحكومة وتوسيع مساحة الملكيات الخاصة، وتخفيف القبضة الأمنية عن المواطنين. لكن هذا كله كان أقل بكثير مما يحتاج الاتحاد السوفييتي لإنعاشه، بل كان بمثابة المسمار الأخير الذي دق في نعشه وأدى إلى انهياره عام 1991م وسقوط الدول الشيوعية المرتبطة به كسقوط أحجار الدومينو.

روسيا بوريس يلتسين

بوريس نيكولايفيتش يلتسين هو سياسي روسي سوفيبتي.

مرت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بمرحلة عصيبة، فقد سقطت الطبقة السياسية التقليدية الحاكمة مع سقوط النظام السياسي الشيوعي، ودخلت البلاد مرحلة انعدام توازن، تزعم أثناءها بوريس يلتسين (المنتخب حديثًا رئيسًا لجمهورية روسيا الاتحادية) الحملة لمواجهة الانقلاب الذي قاده أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ضد غورباتشوف عام 1991م. في العام نفسه وقع يلتسين مع زعماء آخرين اتفاقية حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وإعلان وفاة الاتحاد السوفييتي. ثم واجه يلتسين البرلمان الروسي بالسلاح بعد محاولة النواب عزله من الحكم عام 1993م فتخلص منهم واستبدلهم بمجالس تشريعية جديدة.

اتسمت فترة حكم يلتسين بالانفتاح على الغرب، وبتبني النظام الرأسمالي، ما سمح بوصول نخبة من رجال الأعمال المرتبطين بالغرب إلى مراكز حساسة في الدولة، وإلى سيطرتهم على أهم مرافق الصناعة والاقتصاد والإعلام في روسيا. كما انتشرت عصابات الجريمة المنظمة بشكل كبير، وبرزت النزعات الانفصالية والاستقلالية عن روسيا، ودخل الجيش الروسي في عدة حروب، ظهر فيها عجزه وضعفه وسوء أدائه لا سيما في حرب الشيشان الأولى التي استنزفته وأذلته وأدت إلى سقوط عدد كبير من العسكريين الروس، وانتهت بتوقيع اتفاق سلام بين موسكو والفصائل الشيشانية المسلحة، انسحبت إثرها القوات الروسية من الشيشان.

كما ظهر عجز روسيا عن القيام بأي رد فعل ضد حلف الناتو أثناء تمزيقه يوغوسلافيا – حليفة روسيا الاستراتيجية في أوروبا. ويمكن تلخيص مهمة يلتسين في هذه المرحلة بالقضاء على إرث الاتحاد السوفييتي المتلبس بالشيوعية، وبناء روسيا كدولة قومية رأسمالية، وعلى دمج روسيا في العالم الغربي، لكن التخبط والفوضى وانتشار الجريمة المنظمة واختراق الغرب للمجتمع الروسي من خلال رجال المال والإعلام كانت هي السمة السائدة في عهده.

روسيا فلاديمير بوتين

تسلم فلاديمير بوتين الحكم من خلفه بوريس يلتسين أواخر عام 1999، كان بوتين ضابط مخابرات في جهاز الاستخبارات السوفيتية الـ KGB لمدة 16 عامًا، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي عمل مع بوريس يلتسن كمدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، ثم رئيسًا للوزراء، وقائمًا بأعمال الرئيس بعد استقالة يلتسين.

ورغم اعتبار بوتين أن تفكك الاتحاد السوفيتي أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـعشرين، إلا أنه عارض استعادة الشيوعية كأيديولوجيا رسمية للدولة، واستمر في تبني التوجهات الرأسمالية التي ألحقت روسيا بالمؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. ومارس بوتين السياسة بمنطق براغماتي محض انطلاقًا من تصوراته للمصالح الوطنية والفرص المتاحة لاستعادة وحدة روسيا وهيبتها وتماسكها وفرضها ندًا للدول الغربية الكبرى لا تابعة لها. 

تبنى بوتين أفكار الفيلسوف الروسي إليان إيفان (1883-1954) الذي اعتبر أن استخدام الغرب لأفكار “التحول الديمقراطي” و”الحرية” ضد روسيا يهدف إلى تفكيكها وجعلها دولة ضعيفة، معتبرًا أن الديمقراطية مستحيلة في بلد ضخم مثل روسيا، وأن روسيا بحاجة إلى قوة مركزية مع قائد قوي في القمة يعرف الذي يجب عمله لحماية روسيا من الثورات والفوضى.

وقد روج بوتين لأفكار إليان على اعتبارها تساند تصوراته حول الديمقراطية السيادية، فيما انتهز الفرص داخليًا لتصفية رجال الأعمال الموالين للغرب والمتحكمين بالاقتصاد والإعلام، كما حجّم شبكات المافيا الروسية، وأزاح كافة منافسيه ومناوئيه ليتفرّد بالسلطة في روسيا ويصبح صانع القرار فيها، ويتم تلقيبه في الفضاء الإعلامي بقيصر روسيا. 

الاستراتيجية الروسية في السياسة الدولية

لم يعد بوتين يكترث كثيرًا لتلبية معايير الغرب على نحو ما كان يفعله يلتسين، واعتبر الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا وانضمام دول البلطيق إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي جزءًا من المؤامرة على روسيا. كما أعاد الشيشان بالقوة العسكرية إلى الحضن الروسي، وشن حربًا في جورجيا، ودعم الحركات الانفصالية عسكريًا في شرق أوكرانيا، بعد أن قضم شبه جزيرة القرم منها. واهتم بتطوير قدرات روسيا العسكرية والأمنية والاقتصادية ليفرض روسيا دولة ذات شأن بمنطق القوة، لا بمنطق المساير أو التابع للغرب. وعندما حقق شيئًا من ذلك، قال بوتين: 

لم يكن أحد يريد التحدث إلينا، لم يكن أحد يريد الاستماع إلينا، عليهم أن يستمعوا الآن.

ولتوضيح الخلفية التي توجّه سياسة روسيا في العالم اليوم بشكل منهجي، وفهم كيفية اتخاذ زعمائها القرارات والتفاعل مع الأحداث، رصد معهد راند للدراسات والأبحاث السياسية خمس ركائز مترابطة مهمة ينبغي الوقوف عليها، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

الدفاع عن الدولة والنظام السياسي الحاكم

تعيش روسيا هاجسًا حقيقيًا من إمكانية العبث بها من الداخل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، سواء من خلال دعم المعارضين للنظام السياسي أو من خلال تحريك قوى انفصالية من قبل الغرب، مع وجود شكوك حول مدى تماسك مؤسسات الحكم والسلطة في روسيا. كما تنظر روسيا إلى الدول المحيطة بها (لا سيما الدول الصغيرة منها) باعتبارها قواعد محتملة لتحرك الأعداء من خلالها أكثر من كونها دولًا جارة أو صديقة. لهذا اعتمد بوتين تشريعات تُمكنه من ضرب المنظمات الأجنبية التي تشكل تهديدًا أو خطرًا على أمن الدولة أو النظام العام بيد من حديد، كما يقوم بالتحرك عسكريًا تجاه الدول المجاورة عند شعوره بوجود تهديد محتمل مثلما فعل تجاه أوكرانيا وجورجيا.

فرض الهيمنة والتأثير على البلدان المجاورة

تشعر روسيا أن هناك تهديدًا محتملًا لانتقاصها من أطرافها الشاسعة، لذلك تعمل دائمًا على ضمان نفوذها في الدول المحيطة بها، تعتمدها كمناطق حائلة بينها وبين أي اعتداء خارجي عليها. لذلك فإنها تعتبر الحفاظ على ولاء الدول المحيطة بها جزءًا من أمنها القومي، ويمتد مجالها الحيوي إلى مجمل دول الاتحاد السوفييتي سابقًا، وتعتبر روسيا أن نفوذها في هذه الدول يجب أن يكون مصدر أي قرارات مهمة تتعلق بالسياسة الخارجية والأمنية فيها، وأن طلباتها بمثابة أوامر على قادة هذه الدول تنفيذها. إضافة إلى هذا تتطلع روسيا بشكل مستمر لتوثيق صلتها بالدول التي كانت تابعة لها تحت مظلة حلف وارسو مثل صربيا وبلغاريا وهنغاريا وبولندا ورومانيا.

النظر إلى روسيا باعتبارها قوة عظمى

إن أكثر ما أغاظ روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، هو تعامل الغرب معها كمجرد دولة أخرى موجودة في العالم! فيما تنظر هي لنفسها على أنها قوة عظمى يجب أخذها بعين الاعتبار والتعامل معها على هذا الأساس بكل ما لها من تبعات واستحقاقات. فكونها دولة كبرى يقتضي من الدول الكبرى الأخرى حفظ مصالحها، وعدم التحرش بها أو بمناطق نفوذها الحيوية، وإشراكها في بحث القضايا العالمية. بالتالي، تدعم روسيا وجود عالم متعدد الأقطاب، تكون هي أحد أبرز أقطابه وأكثرهم قدرة على منافسة الدولة الأولى في العالم، أما التفرد الدولي والهيمنة لدولة بعينها على القرارات الدولية يعني تحجيم روسيا وإلغاء دورها الدولي.

عدم السماح بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول

تصرّ روسيا على التمسك بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وأنه لا سبيل لذلك دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وتمثل المؤسسات الدولية الكبرى والقوانين المعمول بها هناك مرجعية مهمة لدولة مثل روسيا كي تفرض رأيها من خلالها. وتمسك روسيا بالمرجعية الدولية لا ينبع في حقيقة الأمر من حرصها على سلامة الدول، إنما لأنها لا تقوى على التصدي لأمريكا وأوروبا وحلف الناتو الذي يجمعهما إذا كان القرار صادرًا خارج المنظومة الدولية المعترف بها.

كما أن تمسكها بهذا المبدأ هو للحيلولة دون تدخل أمريكا في البلدان المجاورة لروسيا، فيما تسعى هي إلى الحفاظ على نفوذها في تلك الدول من خلال اتفاقيات ثنائية أو إقليمية مشتركة. كذلك فمن شأن هذا المبدأ أن يطلق يد روسيا في التصرف مع الجمهوريات التابعة لها على اعتبار أنها جزء من شأنها الداخلي على نحو تعاملها مع جمهورية الشيشان، بالتالي تقطع الطريق أمام الغرب للتدخل في شأن روسي الداخلي.

اعتماد روسيا كشريك سياسي واقتصادي باعتبارها دولة مساوية للقوى الكبرى الأخرى

تسعى روسيا بشكل دؤوب إلى أن تكون مشاركًا رئيسيًا في حل النزاعات الدولية الساخنة، ولديها هاجس دائم من تهميش دورها وعدم إشراكها في بحث أو حل تلك القضايا، لدرجة أن المبعوث الأمريكي ريتشارد هولبروك كتب أنه “خلال المفاوضات التي جرت في البوسنة في التسعينيات شعرنا بأن هدف موسكو الأساسي لم يكن إدارة المفاوضات أو إفسادها.

بدلًا من ذلك، كان أكثر ما أرادته هو استعادة الإحساس، حتى ولو كان رمزيًا، بأنها لا تزال تشكل أهمية في العالم.” وفي سوريا، ساعدت روسيا على التفاوض بشأن نزع أسلحة النظام الكيميائية، وعززت وجودها العسكري، وشنت غارات جوية واسعة النطاق دعمًا لنظام بشار الأسد، وشاركت في المفاوضات على أكثر من جبهة لإجراء تسوية سياسية.

وفي الأزمة الأوكرانية، أشركت فرنسا، وألمانيا، وأوكرانيا في المفاوضات واستثنت أمريكا، كي تظهر أنها قضية أوروبية لا شأن لأمريكا بها. كما قامت روسيا بتأييد اتفاقيات لمنظمات بديلة عن تلك التي تخضع للولايات المتحدة ووقعت اتفاقية ثنائية بشأن أمن المعلومات مع الصين، وأجرتا سوية تدريبات بحرية مشتركة في مناطق مختلفة، و”عملتا معًا من خلال منظمة شنغهاي للتعاون للحد من الوجود العسكري الأمريكي في وسط آسيا”، وتسعى الدولتان عمليًا إلى الاضطلاع بدور أكبر في العالم بوصفهما دولًا كبرى.

خلاصة مهمة

إن محاولات روسيا لاستفزاز الغرب أو الظهور بموقف المناوئ له، ليس في حقيقته سوى محاولة لفرض نفسها كلاعب في المسرح الدولي، فكل ما تسعى إليه هو إشراكها في اللعبة الدولية، وتأمين مصالحها، واعتبارها لاعبًا أساسيًا لا مجرد دولة أخرى كإيران أو كازخستان أو فنلندا مثلًا. 

وقد أكد هذا المفهوم وزير الخارجية الروسي لافروف بقوله:

نحن لا نسعى إلى المواجهة مع الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو حلف الناتو. بل على العكس، روسيا مستعدة لأوسع تعاون ممكن مع شركائها الغربيين، لكن على أن يكون التعاون على أساس الشروط الروسية للشعور العام بالمساواة والأمن للجميع.

لكن أهم ما يجب إدراكه في هذا السياق، إن الذي يصنع من روسيا دولة ذات شأن هو وحدتها وتماسكها والسيطرة على الدول المحيطة بها، فإذا ذهبت وحدتها، أو فقدت سلطتها المركزية أو تلاشى نفوذها من الدول المحيطة تصبح عارية من عوامل القوة العظمى. فروسيا ليست كأمريكا التي تتواجد في أغلب دول العالم، ولديها حلفاء وعملاء في كثير من البلاد، فضلًا عن امتلاكها قواعد عسكرية وقوات تدخل سريع لحماية نفوذها وفرض أجندتها في المناطق الساخنة.

كذلك فإن روسيا ليست كبريطانيا التي لها شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، وشراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وما زال لديها الكثير من الدول التابعة لها في آسيا وإفريقيا. بالتالي فإن أي حدث يمكن أن يؤثر على الوضع في روسيا البيضاء أو أوكرانيا أو جورجيا هو أهم بكثير بالنسبة لها مما يجري في سوريا أو ليبيا، فهي تدرك أن تواجدها في خارج محيطها الإقليمي يمنحها سمعة دولية، أي أن أهميته نابعة من تعزيز هيبة روسيا وإشراكها في القضايا الدولية، لكنه ليس من عوامل صناعة قوتها كدولة عظمى، بل إن تواجدها في خارج محيطها هو حتمًا بالتوافق مع الدول صاحبة النفوذ في تلك المناطق.

لذلك عندما استشعرت روسيا في لحظة ما جدية تحرك أمريكا تجاه النظام في سوريا إبان رئاسة أوباما بعد ضربات النظام الكيماوية التي تسببت بقتل كثير من المدنيين، بدأت روسيا مباشرة بسحب قطعها البحرية من ميناء طرطوس، معلنة أنها غير مستعدة للقتال من أجل الدفاع عن أحد، فيما كانت خطواتها سريعة ومتحدية وحاسمة في أوكرانيا وجورجيا والشيشان مثلًا.

المصادر

  1. وجھات النظر الروسیة بشأن النظام الدولي: مؤسسة راند للدراسات والأبحاث والتطوير لتقديم تحليلات وأبحاث للقوات المسلحة الأميركية. 
  2. فلاديمير بوتين.. قيصر روسيا العائد (الجزيرة نت).
  3. خطأ غورباتشوف الذي لم يرتكبه بوتين (علي قاسم، العرب نت).

حسن الحسن

أكاديمي من فلسطين يعمل أستاذاً جامعياً في بريطانيا في مجال العلوم والتكنولوجيا. بكالوريوس هندسة كمبيوتر… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى