ظواهر خطيرة في ميزان الشريعة

في عصرنا الحالي طغت المؤثرات الخارجية لمجتمعنا على ميزان الشريعة، فأصبح المسلم يقيم أفعاله من وجهة نظر المجتمع قبل النظر إليها من خلال ميزان الشريعة، فيمتنع الناس على ما يمس أخلاقهم وصورتهم أمام المجتمع ولا يمتنعون عما سواه حتى لو كان من كبائر الذنوب مادام قد أصبح شيئًا شائعًا بين أبناء عصرنا اليوم، والأمثلة كثيرة وسنعرض بعضًا منها تحذيرًا وتذكيرًا للمسلمين بحرمانية هذه الأفعال الكبيرة حتى لو كانت منتشرة في مجتمعنا المعاصر.

انتشار الربا مثالًا

انتشر أكل الربا اليوم في مجتمعنا العربي والإسلامي بشكل موحش، ولا يجد الناس عيبًا في ذلك فضلاً عن أنه حرام ومن كبائر الذنوب، بل يتسارعون للحصول على أعلى فائدة ربوية من هنا وهناك، ولا نجد خوفًا ولا حرصًا في أخذ القروض الربوية أو التعاملات الربوية بل يحرص الجميع على البحث عن أكبر استفادة مادية ممكنة، وهل نسى هؤلاء قول الله -عز وجل-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ .. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُون} أم تغافلوا عن توعّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له باللعنة، فعن جابر -رضي الله عنه- قال:«لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه» رواه مسلم.

وللأسف إذا أردت أن تتأكد أن الناس ينظرون إلى ميزان المجتمع ومؤثراته الخارجية قبل ميزان الشريعة فانظر إلى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الربا سبعون حوبًا أيسرها أن ينكح الرجل أمه)، فما رأيك في هذا الكلام؟ إذا سألتك سؤالاً صريحًا وواضحًا: أيهما أصعب على المجتمع الآن رجل يأكل من الربا أم رجل ينكح أمه؟.. للأسف المجتمع لا يجمع الفعلين في سطر واحد بل أن ينكح الرجل أمه ذنب كبير وفاحشة في المجتمع ليس لها مثيل -وبالفعل هي كذلك في الشريعة- لكن أكل الربا أعظم من ذلك بكثير فلماذا لا ينال آكل الربا هذا التشنيع والضيق من فعله!

ترك الصلاة مثالًا

نحن هنا نتحدث عمن ترك صلاته وأخرها حتى يمر وقتها دون عذر شرعي، وقد اختلف العلماء في تكفيره أو فسوقه، فأين هؤلاء من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) رواه مسلم. ومن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ولا يجوز التهاون في الصلاة أبدًا لأي مسلم فإن التهاون والكسل في الصلاة من صفات المنافقين{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً} ورغم أن الصلاة عماد الدين وثاني أركان الإسلام إلا أن المجتمع لا ينظر إلى تارك الصلاة نفس نظرة شارب الخمر أو من ارتكب فاحشة الزنا أو جريمة السرقة -ولا خلاف أنها ذنوب شنيعة- ولكن ترك الصلاة حتى يمر وقتها دون عذر شرعي أكبر بكثير عند الله من هذه الذنوب، فهل يعي المسلم ذلك جيدًا؟!

قول النميمة مثالاً

الشريعة

أصبحت النميمة عادة منتشرة بين أبناء مجتمعنا الحالي، ولو انتبهوا إلى خطورتها لكفوا عنها حتى لو كلفهم ذلك عناء قطع ألسنتهم، فالناس اليوم لا يسمون النميمة بالنميمة أصلاً بل يحرفونها ويدخلوها في جلسات السمر وجلسات الأهل والأصدقاء وكأن الحديث لا يستقيم ولا ينضبط دون الوقوع في النميمة وهتك أعراض الناس بغير حق ونقل أسرارهم وحديثهم بين الناس، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13)}. [القلم] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخل الجنة نمام) وفي رواية أخرى: (قتات).
فهل يعرف الناس خطورة النميمة مؤخرًا وأنها من كبائر الذنوب وتكون من أسباب عذاب القبر،  عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير؛ أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة». لا يسْتَتِر من البول: لا يجعل سترة تستره من الأعين عند البول، ولا يتخذ سببًا يقيه من بوله.
يمشي بالنَّمِيمَة: ينقل كلام الغير بقصد الإِضرار.
وانتبه جيدًا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وما يعذبان في كبير): أي أنهم لا يظنان أنه كبير، لكنه بالفعل كبير وسبب عذابهم في القبر وفي الآخرة، فاحذر أن تقع في ذلك.

وانتشرت النميمة اليوم بصور مختلفة منها النميمة على السوشال ميديا، وتعمد أذى الناس وإثارة الفتنة والخصام بينهم، ولا ينتبه المسلم لأخطائه أصلًا بل يرى أنه يتصفح بشكل طبيعي وينشر تغريدات أو منشورات لا يلقِ لها بالاً ولا يضعها في ميزان الشريعة بحجة انتشارها أو أنها معتادة بين جمهور مواقع التواصل الاجتماعي.

الأمثلة كثير في مجتمعنا الحالي، وهناك كثير من المعاصي التى يرتكبها الناس اليوم ويستخفون بها رغم أنها من أكبر الكبائر وتفوق معاصي أخرى يخشاها المجتمع وينظر إليها أشد نظرة ممكنة، فاحفظ هذه القاعدة جيدًا: اضبط معاييرك بميزان الشريعة، ولا تعلقها بالمؤثرات الخارجية. لأن المؤثرات تتغير في كل عصر ونحن لا نخضع لها أصلاً بل نخضع لله وحده لا شريك له في الحكم والعبادة.

العلاقة بين العقل والفطرة الشريعة

العقل: هو وسيلة التمييز والفهم عند الناس، وكان سببًا في تفضيل بني آدم عن باقي المخلوقات، فقد قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
الفطرة: هي الصبغة (الحالة) التي خلق الله عليها الإنسان، ووضعها في نفسه، فهي أمور مكتسبة من عند الله عز وجل.
الشريعة: هي دين الإسلام الذي أنزله الله على الرسل والأنبياء جميعًا، وآخر الشرائع وأتمها هي التي نزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وقال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
 
هذه المحاور الثلاثة تسير في اتجاه واحد دائمًا مهما مرت الأزمنة واختلفت العصور، وقد يغلب هوى الإنسان عقله أحيانًا، وقد تنتكس فطرته أحيانًا بسبب المؤثرات الخارجية للمجتمع وعوامل التربية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.. لكن الشريعة دائمًا ثابتة ولا تتغير، فهي الركن الثابت والأصل في هذه الأركان الثلاثة، فيجب على المسلم أن يلجأ لها دائمًا ويحتمي في صلابتها وسط مؤثرات العصر، فالمسلم الفطن إذا لجأ إلى الشريعة دائمًا غير مهتم بما يقيمونه الناس والمجتمع لعلِم جيدًا أن تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر شرعي مصيبة من المصائب الكبيرة وأعظم عند الله من السرقة وشرب الخمر وارتكاب فاحشة الزنا، ونحن هنا لا نشجع على ارتكاب هذه الفواحش فهي تعد من كبائر الذنوب لكن نوضح قيمة ذنب ترك الصلاة مقارنة بهذه الفواحش التي تلقى صدى كبير في مجتمعنا المعاصر، ولا تنسَ دائمًا أن تلجأ لشريعة الله تعالى وتضبط من خلالها عقلك وفطرتك، لأننا نعيش في مجتمع صعب جدًا يغير بكل ما عنده من قوة فطرتك ويحاول أن يقلب موازين عقلك، فهم يحاربون الآن من أجل نشر الشذوذ وفرضه على المجتمع، ويحاربون من أجل التطبيع مع القتل والاحتلال إن كان على أراضٍ عربية إسلامية ويقفون ضده إن كان على أراضٍ أوروبية، فهم أحيانًا يرتكبون الفعل ونقيضه ويحاولون أن يقنعوا العالم كله بأفكارهم مهما كانت مختلة وخاطئة، فلا تجعل محاولتهم تؤثر عليك وتنال من عقلك وفطرتك ودينك، لا تفك قبضتك أبدًا عن الدين فهو الركن الثابت المحفوظ من عند الله -عز وجل- حفاظًا على نفسك من التشتت وسط كل هذه الأفكار المنتشرة حولنا، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: (بدأ الإسلام غَريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطُوبى للغرباء).
 
وما أصدق كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن واقعنا الحالي، فلن تجد كلامًا يصف ما نحن فيه الآن خيرًا من كلماته الجميلة: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر -أو قال: على الشوك-) صححه الأرناؤوط، وفي رواية الترمذي: يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر. وصححه الألباني.

مصطفى جعفر

مسلم مهتم بشأن دينه، وليس من يكتب لدعـوة كمن يكتب لِـنزوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى