هل فيروس كورونا نذير أفول نجم الرأسمالية؟

هذا المقال ترجمة لمقال: «?Will coronavirus signal the end of capitalism» لكاتبه: Paul Mason على موقع Al Jazeera . الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر عن تبيان.

هل فيروس كورونا نذير أفول نجم الرأسمالية؟
قضتْ ثورة الفلاحين بعد طاعون القرن الرابع عشر على النظام الإقطاعي. فيا ترى اليوم، هل بعد انتهاء جائحة فيروس كورونا المُستجد سيأتي الدّور لهلاك الرأسمالية؟

بدأ الوباء في آسيا، وامتدّ عبر عواصم أوروبا وأباد ثلث البشرية على الأقل. ومع انجلاء الوباء، اندلعت ثوراتٌ أسقطتْ من شأن المؤسسات الدينية المُقدّسة، وأعادتْ هيكلة النظام الاقتصادي بأكمله. ما سردْناه هو التاريخ الموجز للموت الأسود، أو ما يُعرَف بجائحة الطاعون الدبلي الناجم عن بكتيريا يرسينيا الطاعونية (Yersinia pestis)، والتي تفشّت في منغوليا وانتشرتْ حتى وصلتْ إلى أوروبا الغربية في أربعينيات القرن الرابع عشر.

بعدها عادتْ الحياة إلى طبيعتها وتعافتْ تعافٍ سريعًا نسبيًا. لأن الاقتصاد آنذاك كان قائمًا على الزراعة والحرف اليدوية المحلية.  إلا أنّ الوباء بما أحدثه من تقليص حادٍ في حجم اليد العاملة، منح الناجين منه قدرةً متزايدةً على المطالبة بحقوقهم من مُلّاك الإقطاع، والتي سرعان ما تُرجمت على أرض الواقع بظهور مفاهيمٍ جديدة للحرية انتشرت بين سكان مدن العصور الوسطى. وبدوره، بدأت عملية تغيير اقتصادي أدت إلى إنهاء النظام الإقطاعي، ويجادل البعض في أنها أدت إلى ظهور الرأسمالية.

كابوس الطاعون الرأسمالي

اليوم، تواجه الرأسمالية كابوسها الطاعوني الخاص بها. صحيحٌ أن الفيروس لا يقتل سوى نسبةٍ تتراوح ما بين 1% و4% من أولئك الذين يُصابون به، إلا أنّه على شفا إحداث تأثيرٍ على الاقتصاد أكثر تعقيداً بكثيرٍ من التّأثير الذي أحدثه الطاعون الدبلي على الاقتصاد الذي كان موجودًا في أربعينيات القرن الرابع عشر؛ لما لاقتصادنا المعاصر من نظامٍ جيوسياسيٍ أكثر هشاشةً، ومجتمعٍ متوجسٍ بالفعل من تغييرات المناخ.

دعونا نتفكّر في التغييرات الهائلة التي أحدثتها الجائحة على أرض الواقع:

  • تسبّبتْ بالإغلاق الجزئي للحياة اليومية في مناطق شاسعةٍ من الصين والهند ومعظم أوروبا والعديد من الولايات الأمريكية.
  • أحدثتْ أضرارًا بليغة بسمعة الحكومات والنّخب السياسية الذين إمّا أنكروا خطورة الأزمة، وإمّا فشلوا في استنفار أنظمة الرعاية الصحية لمواجهة الأزمة في مراحلها الأولى.
  • أحدثتْ انخفاضًا فوريًا في إنفاق المستهلكين لدى جميع الاقتصادات الكبرى، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى أعمق ركود في تاريخ البشرية؛ فقد انهارت فعليًا أسعار الأسهم، وهذا بدوره سيَضُر بالعوائل من الطبقة الوسطى، والتي يتعين على صناديق التقاعد المُخصّصة لهم الاستثمارَ في الأسهم. وفي الوقت نفسه، فإن الغطاء المالي لشركات الطيران والمطارات وسلاسل الفنادق أصبحت موضع شكٍ.

وردًا على ذلك، أطلقت الحكومات حزم إنقاذٍ اقتصادية ضخمة للغاية لدرجة أن معظم الناس لم يدركوا بعد آثارها. فالحكومة الأمريكية ستقوم بضخ تريليوني دولار في الاقتصاد -عبر مزيج من المدفوعات المباشرة للمواطنين والقروض للشركات- وهذا المبلغ هو أكثر من نصف ما تجمعه الحكومة من الضرائب في عام واحد.

بينما تحولت البنوك المركزية إلى شكل جديد وقوي من التيسير الكمي [1]. وكما حدث بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة في عام 2008 بالضبط، فسيطبعون أموالًا جديدة لشراء الديون الحكومية، ولكن هذه المرة لن تكون عملية الطباعة متدرجةً، أو مُركزةً على السندات الحكومية الأكثر أمانًا. وباعتبار مقدار التسهيل الكمي كمقياس للذعر الذي حدث عام 2008، فيبدو أن التسهيل الكمي سيستمر لعقود.

أمّا السياسيون فهم منشغلون في طمأنة الناخبين بأن “الركود سيكون على شكل حرف” V تراجع حاد يتبعه ارتداد إلى الأعلى، لأن “الاقتصاد الحقيقي” -حسب مزاعمهم- لا يزال سليمًا.

انهيار أساسات المبنى

لفهم سبب اعتبارنا لهذا التفاؤل بأنه مفرط، دعونا نضرب مثلًا بمبنى. في الأزمة المالية لعام 2008، بدا أن النظام المالي (السقف) قد تداعى فسقط على الهيكل الرئيسي للمبنى. وعلى الرغم من تضرره، إلا أنّه صمد وتمكّنا بعدها من إعادة بناء السقف.
لكن هذه المرة، فالعكس قد حدث، فقد انهارت أساسات المبنى؛ لأن كل الحياة الاقتصادية في النظام الرأسمالي تقوم على دفع الناس للذهاب إلى العمل ومن ثمّ إنفاق رواتبهم. ولأننا الآن يتعين علينا إجبارهم على اعتزال الأعمال، والابتعاد عن جميع الأماكن التي كانوا ينفقون فيها عادةً رواتبهم والتي حصلوا عليها بشقّ الأنفس، فلا يهمّ مدى قوة المبنى نفسه.

وفي الواقع، فالمبنى ليس بهذه القوة. فمعظم النمو الاقتصادي الذي شهدناه خلال 12 عامًا منذ الأزمة المالية الأخيرة؛ كان مدفوعًا بطباعة البنوك المركزية للنقود، وإنقاذ الحكومات للنظام المصرفي، والديون. فبدلاً من أن نسدّد الديون، فقد كدّسنا ما يقدر بنحو 72 تريليون دولار ديون إضافية. والأنظمة التجارية والمالية اليوم في القرن الواحد والعشرين أمستْ غايةً في التّعقيد، على عكس ما كان عليه الحال في الطاعون الدبلي قديماً. وكما تعلّمنا من أزمة 2008، فإن هذا التّعقيد هو ما جعل تلك الأنظمة هشةً.

وإن العديد من الأصول المتداولة في النظام المالي – كما هو الحال في الفترة التي سبقت أزمة عام 2008 -عبارةٌ عن حزمٍ معقدة من سندات الديون الصادرة عن البنوك ومجموعات التأمين والشركات المالية الأخرى. وقيمتها تكمن في حقيقة أنها تعطي صاحبها حق المطالبة بدخلٍ مستقبلي.

إن اشتراكاتنا في الصالات الرياضية، وسدادنا للقروض الطلابية، وإيجاراتنا، وسداد أقساط سياراتنا، سواءً لهذا العام أو العام المقبل أو ما بعده؛ كلها يتم احتسابها على أنها بالفعل “مدفوعةٌ”، بينما يعمل بعض الأفراد في النظام المالي على أخذ هذه المدفوعات في رهاناتٍ معقدةٍ بشأن مقدار قيمتها.
ولكن ماذا يحدث عندما لا نذهب إلى صالة الألعاب الرياضية، ولا نشتري سيارةً جديدة؟ ستصبح بعض سندات الدين هذه عديمة القيمة ويتعين على الدولة إنقاذ النظام المالي.

ما كان من المحرمات، أصبح واقعا

إنْ كان معظم الناس العاديين لا يفهمون مدى خطورة هذا الأمر؛ فمن هم في السّلطة يفهمون ذلك. ولهذا أقنعوا البنوكَ المركزية بتأميم أسواق السندات تأميمًا حقيقيًا. ويعني هذا التأميم بأن الحكومات ستُصدر سندات ديون لإنقاذ الناس والشركات مالياً -كما هو الحال مع صفقة ترامب التي تبلغ قيمتها تريليوني دولار- وأن هذه الديون سيتم ابتلاعها من قبل جزءٍ آخر من الدولة نفسها؛ وهو البنك المركزي.

لقد رجّح الاقتصاديون اليساريون مُنذِرين -وأنا منهم- أنْ يؤدي ركود النمو والديون المرتفعة على المدى البعيد إلى اتباع هذه السياسات الثلاث: دفع الدول لمواطنيها دخلًا عالميًا [2]، مع انتشار الأتمتة التي تجعل الأعمال بأجورٍ عالية أعمالًا غير مستقرةٍ ونادرةً [3]؛ إقراض البنوك المركزية للدولة مباشرةً لإبقائها واقفةً على قدميها؛ وتأميم واسع النطاق للشركات الكبرى حتى تصبح ملكيةً عامة بغرض إدامة الخدمات الحيوية التي لا يمكن تشغيلها مقابل أرباح.

في المناسبات النادرة الماضية التي طُرِحتْ مثل هذه الاقتراحات للمستثمرين، كان الردّ عادةً بهزة رأسٍ رافضةٍ مهذبةٍ أو الإهانة والنَّهر من قبل الذين شهدوا انهيار الشيوعية السوفيتية. فقد كان رأي هؤلاء بأنّ ذلك سيقضي على الرأسمالية.

لكن الآن، ما كان حرامًا أصبح واقعًا كلّه: فقد تم اعتماد المدفوعات العالمية، وقامت الحكومة بعمليات إنقاذٍ مالية، وتمّ تمويل ديون الدولة من قبل البنوك المركزية بسرعةٍ صدمت حتى المدافعين المعروفين عن هذه الإجراءات. والسؤال هنا الآن، هل سنفعل ذلك بحماس وبرؤيةٍ واضحةٍ للمجتمع الجديد الذي سيتشكّل بتأثير تلك الإجراءات فيما بعد؟ أم نقوم به الآن على مضض، بقصد إنعاش النظام الذي انهار للتو؟

دعونا نفهم ما الذي دفع الاقتصاديين للمبالغة في معاداة تدابير الأزمة حتى الآن. فمثلًا، أشار السياسي المحافظ البريطاني “لاين دونكان سميث” إلى أنّ مشكلة اعتماد نظام مدفوعات الدخل العالمية هي أنها “قد تثني الناس عن الذهاب إلى العمل”.

وعندما يتعلق الأمر بملكية الدولة ومحاولات تخطيط الإنتاج من قبلها (على سبيل المثال: كما يحدث في التهافت الحالي على أجهزة التنفس الصناعي)، يرى اقتصاديو السوق الحرة أن مثل هذه المحاولات للسيطرة البشرية الواعية على السوق تقف في طريق السوق، بينما هم يؤمنون بأن السّوق -حسب رأيهم- يعمل كآلةٍ ذكية، ونظّم السّوق العالمَ بطريقة لا يمكن لأيّ هيئة تخطيطٍ أو حكومةٍ أن تقوم بها.

أما فيما يتعلق بتمويل ديون الدولة من قبل البنوك المركزية، فيُنظر إلى هذا على أنه اعترافٌ بالهزيمة الأخلاقية للرأسمالية؛ لأنه من المفترض بأن العمل الحر والمنافسة هما من يدفعان الاقتصاد للنمو، وليس طباعة الأموال من قبل بنك إنجلترا أو بنك الاحتياطي الفيدرالي وإقراضها لخزينة الدّولة. لذلك، فإن الرأسمالية التي تعتمد اعتمادًا دائمًا على هذه الآليات لا يمكن التفكير فيها بالنسبة لمعظم الاقتصاديين التقليديين.

على المدى القصير

بالنسبة لي، فإنّ هذه التّدابير الطارئة كان يمكن التفكير فيها دائماً. ومنذ عام 2015، وأنا أجادل بأننا سنضطر إلى تبني نموذجٍ رأسماليٍ جديدٍ ومختلفٍ للغاية، وإن لم يكن بسبب التّكاليف الاقتصادية لدعم شيخوخة السكان [4]، فبسبب التّهديد بالفوضى المناخية. إلا أنّ أزمة جائحة كورونا قربتْ كل شيءٍ إلى المدى القصير.

إنّ الرأسمالية التي ستنبثق عن ذلك في أواسط العقد القادم ستكون قد دفعت بالفعل عشرات المليارات من الدولارات من مدفوعات الدخل الأساسية؛ وستشهد تأميم شركات الطيران وسلاسل الفنادق؛ وبالنّسبة للديون الحكومية للاقتصادات المتقدمة والتي يبلغ حاليًا متوسطها بما يعادل نسبة 103% من ناتجها المحلي الإجمالي، فسترتفع تلك الديون إلى أعلى من ذلك بكثيرٍ. ونجهل إلى أي مدى سترتفع، لأنّنا لا نعلم إلى أيّ مدىً سينخفض ​​الناتج المحلي الإجمالي.

وإذا تعثّر حظّنا بالمرّة، فقد تؤدي سلسلةٌ من حالات التخلف عن سداد الديون والانهيارات الحكومية في بعض الدول الهشة، إلى إلحاق ضررٍ خطيرٍ بالنظام العالمي المتعدد الأطراف. ويخشى مخططو الأمن أنه إذا وقعت دول مثل فنزويلا أو كوريا الشمالية أو أوكرانيا في حالةٍ من الفوضى، فإن هذا سيغري بشدّة الدول العملاقة المجاورة مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا “لإنقاذهم” بإرسال قواتهم.

لقد شهدْنا تراجعًا سريعًا للعولمة من قبلُ في أوائل الثلاثينيات. حيث ابتدأتْ بأزمةٍ مصرفيةٍ، تلتْها نقْض ترتيبات العملات الدولية، ومن ثمّ انتهت برفض المعاهدات وما تضمّنته من عمليات ضمٍ عسكريةٍ قسريةٍ.

وعلى الرغم من أنّنا نواجه أزمة اليوم بمؤسساتٍ أقوى بكثير من قبل -مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة وغيرها- إلا أننا نعاني من نفس المشكلة الأساسية كما في ثلاثينيات القرن الماضي؛ وهي غياب الدولة القوية الواحدة المستعدة لتولي القيادة ووضع معايير السلوك واعتماد الإقراض كحلٍ أخير.

إذا ما افترضْنا أن الأزمة انتهت واتبعنا على إثرها التوجيهات الاقتصادية التقليدية كتلك التي اتُبعت بعد أزمة 2008، فستنادي النخب السياسية بزيادة إجراءات التقشف؛ من تخفيضات نفقات الرعاية الصحية، وتخفيضات الأجور، ورفع الضرائب على الناس للحد من الإنفاق الحكومي وتسوية تراكمات الديون. سيعدّ الكثير من الناس هذه الإجراءات ضربًا من الجنون، على الرغم من حقيقة أنّ هذا هو منطق السوق الحرة.

وهذا هو عين ما حاولتْ النخب الإقطاعية القيام به في القرن الرابع عشر بمجرد انتهاء مرحلة الوفيات الجماعية من جراء الطّاعون. فحاولوا إعادة فرض امتيازاتهم وتقاليدهم ومنطقهم الاقتصادي القديم، على شعب اجتاز للتو أشدّ محنةٍ مرتْ على البشرية.

وفي ذلك الوقت، دفعتْ هذه الإجراءات مباشرةً إلى اندلاع ثوراتٍ دمويةٍ، مثل ثورة الفلاحين في إنجلترا، وما يسمى بـ ثورة الجاكية (Jacquerie) في فرنسا، والاستيلاء على مدنٍ مثل غنت وباريس وفلورنسا من قبل الحرفيين تقودهم مجموعةٌ من المواطنين عُرفوا بغاية الشراسة وأطلق عليهم بالفرنسية اسم “البرجوازية”.

على الرغم من فشل ثورات ما بعد الطاعون، فقد أشار المؤرخ صموئيل كلاين كوهن في كتابه “الشّوق إلى الحرية”:

إلا أنها أدت إلى تغير عقليات الجماهير إلى الأبد، من اليأس التام والخوف إلى ثقة الجماهير بنفوسها.. على قدرتها لتغيير العالم وتغيير ظروف حياتها الاجتماعية والسّياسية تغييرًا جذريًا. وهذا بدوره مهّد الطريق للثورات البرجوازية التي أطلقت العنان للرأسمالية.

كوكب الرأسمالية

لفهم ما يتعين علينا القيام به اليوم، يستلزم هذا الأمر إطار عملٍ أوسع ممّا هو موجود في أذهان معظم السياسيين. فبالنّسبة لهم، هم يشبهون أزمتيْ المناخ وجائحة كورونا بكُويكبَيْن سيضربان الكوكب؛ أي يعتبرونهما صدمةً خارجية تتطلّب استجابةً مؤقتةً يمكن إلغاؤها فيما بعد. ولكن في الواقع، فإن الصّدمات يولِّدُها “كوكب الرأسمالية” من داخله نفسه، أو على الأقل الشكل المُتّبع من هذه الرأسمالية.

ومن هذه الصدمات الداخلية التي نعيشها الشكل الحالي من الرأسمالية الصناعية، فلا نعرف كيف ستبدو الرأسمالية الصناعية بدون الكربون، لأن مؤسساتنا وممارساتنا وثقافاتنا كلها تعتمد على استخراج الوقود الأحفوري. وبالمثل، لا نعرف كيف ستبدو العولمة بدون مليار شخص يعيشون في الأحياء الفقيرة، وبدون إزالة الغابات، وبدون أسواق الحيوانات الحية، ودون انتشار أمراض الفقر على نطاق واسع في العالم المتقدم. ويعود هذا الأمر أيضا لكونه سمات أساسية للرأسمالية المُتّبعة على أرض الواقع.

ولهذا رجحتُ مجادلًا بأن الرأسمالية لن تنجو على المدى الطويل. وأمّا على المدى القصير فلا يمكنها النجاة إلا من خلال اتباع سمات “ما بعد الرأسمالية”.

بدت نداءاتي من قبلُ وكأنها صرخة في فلاة لحين صدمَنا فيروس كورونا. فالناخبون كانوا يرفضون حتى البرامج السياسية المعتدلة نسبيًا فيما يخصّ تدخل الدولة، والتي يروج لها شخصيات مثل السياسيين اليساريين من أمثال زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين أو المرشح الديمقراطي للرئاسة بيرني ساندرز.

لذا، فوجئت عندما رأيت محللين من مجموعة الاستثمار الأسترالية Macquarie Wealth -وهي واحدة من أشدّ الشركات رأسماليةً في العالم- رأيتهم يخبرون المستثمرين بأنّ: “الرأسمالية التقليدية تحتضر، أو على الأقل تنمسخ إلى شيء أقرب لنسخةٍ من الشّيوعية”. لقد أدرك محللو Macquarie أنّ هذا لن يحدث بغتةً لأنّنا أصبحْنا نحتاج لتدخل الحكومة، ولكن أيضًا لأن أولويات الناس العاديين قد حولت اختيارات السوق إلى مفاهيم الإنصاف والرفاهية.

إذا كان الطاعون الكبير في القرن الرابع عشر قد أثار التّصورات لما بعد الإقطاعية، فمن الممكن والمرغوب أن تؤدّي هذه الأزمة إلى إثارة تصوراتٍ لما بعد الرأسمالية، وعلى وجه السّرعة.


[1] تبيان: التيسير الكمي quantitative easing هو سياسة نقدية غير تقليدية تتمثل بطباعة النقود من قبل البنوك المركزية لتنشيط الاقتصاد القومي عندما تصبح السياسة النقدية التقليدية غير فعالة. حيث يشتري البنك المركزي الأصول المالية لزيادة كمية الأموال المحددة مقدمًا في الاقتصاد.

[2] تبيان: الدخل الأساسي العالمي universal basic income هو راتب حكومي تدفعه الدولة كحقٍ للمواطنين، وللمواطنين حق الاستفادة من هذا الراتب سواءً عملوا أم لم يعملوا. وقد بدأت تجربة هذا الشكل الاقتصادي في مناطق محدودةٍ من العالم، وهو أشبه ما يكون بسهمٍ لكل مولود في الإسلام زمان انتعاش الاقتصاد في الخلافة الإسلامية. وهو الآن ما يحدث في ظل أزمة كورونا من مشروع ترامب لضخّ ترليوني دولار قسم منها كدخلٍ أساسي للعوائل الأمريكية الجالسة في بيوتها من جراء الإغلاق بسبب جائحة كورونا.

[3] تبيان: حتى يُتمكن من تطبيق فكرة فرض الدخل الأساسي، فإن الأتمتة (استبدال الموظفين بآلات) تساعد في القيام بذلك، وتجعل من الوظائف الخطرة ذات الرواتب العالية نادرةً.

[4] تبيان: تعاني المجتمعات الغربية من ظاهرة شيخوخة السكان (زيادة نسبة المسنين) نتيجة قلة الرغبة في الزواج والإنجاب اجتماعيًا، بالإضافة لتطور أنظمتهم الصحية، وهو ما يضع عبئًا على الاقتصاد في تلك الدول.

المصادر

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى