ملخص كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية

روجيه جارودي مفكر فرنسي، اهتدى للإسلام بعد أن درس وتعلم ما يتعلق بهذا الدين، فانبرى للكتابة مدافعًا عن دينه الجديد، داعيًا إلى إيقاظ أمة الإسلام من سباتها، وتذكيرها بعظمة حضارتها وبما لها من فضل على العلم والعلماء. لكن توجهه الجديد، سبب له الكثير من المتاعب من مثقفي الغرب، وبعض كسالى الشرق، بعدما أعلن موقفه من إسرائيل خاصة في هذا الكتاب، مع أنه محاولة لاستكشاف حقائق التاريخ، لتفنيد ما استندت إليه الصهيونية العالمية لإنشاء دولة إسرائيل بالحجج والوثائق التاريخية. فشن اليهود عليه حربًا ضروسًا بتلفيق تهمة معاداة السامية، ونجحوا في تعبئة الرأي العام الفرنسي ضده، فأعدموه أدبيًا دون إعطائه الحق للدفاع عن نفسه. الكتاب طبعته دار الغد العربي.

أولًا: الأساطير اللاهوتية

أسطورة الوعد

أ‌-  في التفسير المسيحي

من خلال “البيردي بوري” أستاذ العهد القديم في كلية اللاهوت بجنيف، فإن الموضوع التوراتي لهبة الأرض؛ يستمد أصوله من الوعد الإلهي لإبراهيم، كما ورد في سفر التكوين؛ بأن الله وعد الآباء وذرياتهم بملكية الأرض التي كانوا في سبيلهم إلى الاستقرار بها. وهذا الوعد ينطبق على المناطق الواقعة حاليًا في الضفة الغربية. فالقصَّاصون التوراتيون عرضوا تاريخ أصول إسرائيل، وأدخلوا كل الذكريات والتواريخ والخرافات والحكايات والأشعار التي نقلها التراث الشفهي، ضمن إطار محدد للأنساب والتأريخ. واتفق معظم المفسرين المحدثين على أن هذه الصورة التاريخية ما هي إلا صورة وهمية إلى حد كبير، أخذوها عن الوعد المعطى للآباء بمعناه الكلاسيكي على أنه إضفاء للشرعية على الغزو الإسرائيلي لفلسطين، أو على أنه امتداد للسيادة الإسرائيلية في عهد داود، بمعنى أن الوعد أدخل ضمن أحاديث الآباء بغية اتخاذ هذه الملحمة السلفية، كتمهيد وكإعلان عن العصر الذهبي الداوديّ والسُّليماني.

أصول الوعد المُعطى للآباء

أرض الميعاد
الخريطة تظهر الأرض الموعودة لدى اليهود والتي ذكرت في التوراة.

الوعد بالأرض: بمعنى الوعد بالاستقرار، وجه إلى قبائل البدو الرحل التي كانت تطمح إلى الاستقرار في مكان ما بالمناطق الصالحة للسكنى، بمعنى أن الوعد كان جزءا من الإرث الديني والروائي لعدة قبائل بدوية متباينة.

وعد الرُّحَّل: كان الغرض منه الاستقرار في منطقة محدودة. وفي الأصل، فإن الوعد الذي تحدث عنه سفر التكوين، لم يقطعه الرب (يهوى) الذي دخل فلسطين مع مجموعة الخروج، لكنْ الرب الكنعاني ايل في إحدى أقانيمه المحلية. والرب المحلي مالك الأرض وحده الذي يستطيع منح الرحل حق الاستقرار في أراضيه. وبعدما استقرت قبائل الرحل مع قبائل أخرى لتشكيل “شعب إسرائيل”، أصبحت الوعود أهدافًا محققة، بعدها اتخذ الوعد أبعادًا سياسية وعسكرية وقومية، ففسر الوعد على أنه تجسيد سابق للغزو النهائي لفلسطين، وإضفاء للشرعية على مملكة داود.

ب- التفسير اليهودي

إنه من غير المقبول من أي إنسان، الادعاء بأن إنشاء دولة إسرائيل حاليًا هو تحقيق لنبوءة توراتية، وأن كل الأفعال التي قام بها الإسرائيليون لقيام دولتهم تنفيذ لإرادة الرب. إن السياسة الحالية لإسرائيل طمست المعنى الروحي لإسرائيل. فمن خلال إرث النبوءات، فإن إخبار الأنبياء باستعادة صهيون، لا يعني أن الأرض هي التي لها صفة القداسة، بل يعني استعادة العلاقة بالرب بعدما قطعت من جانب الملك وشعبه. وليست الأرض وحدها هي التي تتوقف عليها مراعاة العلاقة مع الرب والإخلاص لها، بل إن الشعب الذي أعيد توطينه في صهيون يخضع لنفس مقتضيات العدالة والاستقامة والإخلاص التي للعلاقة مع الرب. فتقاليد النبوءات توضح بجلاء أن قداسة الأرض لا تتوقف على تُربتها، ولا على شعبها، ولا على وجوده وحده على هذه الأرض. فلا الشعب مقدس، ولا الأرض مقدسة؛ وهُما ليسا جديرين بأية امتيازات روحية في العالم. الأمر الوحيد المقدس والجدير بصهيون، هو التحالف الإلهي الذي تعبر عنه مواقف شعبه.

إن النزعة الشمولية الصهيونية التي تسعى إلى إخضاع كل الشعب اليهودي -ولو بالعنف-؛ تجعل هذا الشعب شعبًا كباقي الشعوب الأخرى، وإسرائيل الحالية ليس لها أي حق في ادعاء تحقيق النية الإلهية من أجل عصر مسيحي.

أسطورة الشعب المختار

إن إسرائيل هو الشعب المختار: وهو ركن أساسي من أركان العقيدة، وهذه الأسطورة إيمان دون أي أساس تاريخي، بأن الوحدانية ولدت مع العهد القديم، مع أنه من خلال التوراة نفسها يتضح بأن يهوى وإيلوهي اللذين كتباها لم يكن أي منهما وحدانيًا، بل كانا يناديان فقط بتفوق الإله العبراني على سائر الآلهة، إذ كان الاعتقاد سائدًا في إسرائيل بوجود آلهة أجانب وقوتهم. والجدل بشأن الوحدانية يرجع تاريخه إلى النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد. فالوحدانية هي ثمرة نضج الحضارات الكبرى ما بين النهرين وحضارة مصر، حيث حدث هذا التحول بعدما تم الاعتراف بأن الآلهة المختلفة ما هي إلا تجليات لإله واحد، فلم يبقَ سوى خطوة واحدة لبلوغ نوع من الوحدانية.

أما بخصوص مقولة مقاومة الاضطهاد من أجل التحرر -كما في سفر الخروج- فليست إلا حدثًا تاريخيًا لا يخص كافة العبرانيين، بل بعض الهاربين فقط. لكن هذا الخروج تم إدماجه في التاريخ المقدس ليهوى، ليصبح هو الصك المؤسس لنهضة شعب انتشله ربه من العبودية، وهي تجربة موجودة لدى مختلف الشعوب. إن الحياة الخاصة بالمسيح ورؤيته الجديدة لمملكة الرب، لن تطمس لصالح مخطط تاريخي يبدأ فقط من وعود النصر المضروبة لشعب ما، وحتى تحقيق هذه الوعود.

أسطورة يشوع: التطهير العرقي

تعتبر أسفار التوراة والكتب التاريخية؛ التي تخبرنا بالعديد من عمليات الإبادة للشعوب التي وقعت على يد يشوع؛ بمثابة تجميع خطيّ للتقاليد الشفهية لمؤرخي القرن التاسع، ونساخ سليمان الذين كان همهم إضفاء الشرعية على غزوات داود ومملكته، والتي لا سبيل للتحقق منها سوى من الكتابات التوراتية؛ التي تردها مسألتان: الأولى: اصطدامها بعلم الآثار، فالحفائر برهنت على أن الإسرائيليين الذين وصلوا في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لم يستولوا على أريحا لأنها كانت غير مأهولة في ذلك الوقت. وفي القرن الرابع عشر سكنت بصورة ضعيفة، ولا شيء ينتسب للقرن الثالث عشر. وهذا ما أكدته الباحثة “كينون” بقولها، من المستحل ربط تدمير أريحا بدخول الإسرائيليين في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وكذلك مدينة عاى، فقد قامت بعثتان بالتنقيب في الموقع، وجاءت النتائج متطابقة، وهو عدم وجود مدينة وقت قدوم الإسرائيليين.

الثانية: لماذا لا يحذو أي يهودي متدين ومتطرف حذو هذه الشخصيات الجليلة المتمثلة في موسى ويشوع؟

كرر سفر تثنية الاشتراع: “وإذا أدخلك الرب، إلهك الأرض التي أنت صائر إليها لترثها واستأصل أممًا كثيرة فأبسلهم إبسالًا”، “فلا يقف أحد بين يديك حتى تفنيهم”.

ألم تكن مسيرة يشوع هي مسيرة مناحم بيجن عندما قضى على سكان دير ياسين؟ ولم يكتف بطرد العرب بل استولى على كل فلسطين. وطريقة موشي ديان الذي قال إذا كنا نمتلك التوراة فينبغي لنا امتلاك أرض التوراة. أما وسائل وأساليب هذا الاستيلاء على الأرض؛ فقد حددها رابين عندما كان جنرالا على الأراضي المحتلة، بتكسيره عظام أطفال الانتفاضة. ألم تكن هي مسيرة باروخ جولدشتين منفذ مذبحة الحرم الإبراهيمي؟

فهذا التطهير العرقي الذي يمارس في إسرائيل اليوم ينبع من مبدأ النقاء العرقي الذي يمنع امتزاج الدم اليهودي بدماء الآخرين. ففي سفر الاشتراع؛ الشعب المختار لا ينبغي له الاختلاط بالآخرين “ولا تصاهرهم ابنتك لا تعطها لابنه وابنته لا تأخذها لابنك”. وهذا الفصل العنصري هو الطريقة الوحيدة لمنع تدنيس العنصر المختار من الرب، والدين الذي يربطه به. ولم يتقاعس عزرا ونحميا ويهوى في تطبيق هذا الفصل العنصري، بمنع الزواج من غيرهم، ومحاربة الملابس واللغات الأجنبية، ومن خالف ذلك تعرض للمحاكمة القاسية، والتهديد بغضب الرب.

لذا اعتبرت منظمة الأمم المتحدة سنة 1975 الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وهو ما تم إلغاؤه سنة 1991 من طرف الولايات المتحدة.

ثانيًا: أساطير القرن العشرين

اليهودية

أسطورة معاداة الصهيونية للفاشية

دعا إسحاق شامير سنة 1941 للتحالف مع هتلر ضد بريطانيا. وتواطأت الجماعة الصهيونية رغم أقليتها في ألمانيا معه، فانقلبت السلطات النازية من الاضطهاد إلى محاورة الصهاينة الألمان ومعاملتهم معاملة تفضيلية عن اليهود الذين كانت تطاردهم. فهذه الأقلية كانت منظمة تنظيمًا جيدًا جمعت قادة صهاينة، همهم الوحيد إنشاء دولة يهودية قوية. لكن الغالبية العظمى من المنظمات اليهودية، بعد إعلان الحرب على ألمانيا؛ لم تكن مع هتلر، بل وقفت إلى جانب الحلفاء. كتب رئيس الوكالة اليهودية خطابًا إلى رئيس وزراء إنجلترا يخبره أنهم في صف بريطانيا، فكان الخطاب بمثابة إعلان حرب صريح من اليهود ضد ألمانيا؛ ممَّا أسفر عن احتجاز اليهود الألمان في معسكرات الاعتقال.

ولقد برهن الزعماء الصهاينة في عصر الفاشية الهتلرية والموسولونية على سلوك غامض ومشبوه، بدءًا من عرقلة الكفاح ضد الفاشية حتى محاولة التعاون. فالهدف الأساسي للصهاينة لم يكن إنقاذ حياة اليهود؛ وإنما إنشاء دولة يهودية في فلسطين. وهو ما عبر عنه بن جوريون أمام القادة الصهاينة بخصوص مسألة إنقاذ كل الأطفال بتوجيههم لإنجلترا أو إنقاذ نصفهم فقط إذا ما تم نقلهم لإسرائيل الكبرى، فرشح الاختيار الثاني لأنه لا ينبغي الحرص على حياة الأطفال فحسب، بل على تاريخ شعب إسرائيل. فلقد كانت الدولة اليهودية بالنسبة لهم أهم من حياة اليهود، ساعدهم على ذلك الزعماء الهتلريون بالاتفاق على التخلص من اليهود من أجل إنشاء دولتهم في فلسطين، وذلك لأن الصهيونية لا تتعارض مع برنامج الاشتراكية القومية التي تهدف إلى إبعاد يهود ألمانيا تدريجيًا.

وفي مقابل الاعتراف الرسمي بالزعماء الصهاينة كمُمثلين وحيدين للطائفة اليهودية، قاموا بكسر الحصار الذي فرضه أعداء الفاشية، فبدأ التعاون بإنشاء شركة في تل أبيب وشركة في برلين تلزم اليهودي الذي يريد الهجرة بإيداع مبلغ لا يقل عن مائة جنيه إسترليني. وبهذا المبلغ يشتري المصدرون اليهود بضائع ألمانيا وتوجيهها إلى فلسطين، وعندما يصل المهاجر إلى فلسطين يتسلم ما يعادل المبلغ الذي أودعه في ألمانيا. فكانت العملية مربحة للطرفين، كسر النازي الحصار، وحقق الصهيوني هجرة انتقائية للأغنياء فقطـ؛ لأنهم المُعوَّل عليهم في تنمية الاستيطان الصهيوني بعد إنقاذ رؤوس الأموال اليهودية من ألمانيا النازية.

أما اليهود الأوربيون المُعدَمُون فحياتهم عالة فقط؛ لذا إن مهمة الصهيوني لا تكمن في إنقاذ بقية إسرائيل الموجودة في أوربا، ولكن في إنقاذ أرض إسرائيل للشعب اليهودي. والأقلية التي يجب إنقاذها ينبغي اختيارها وفقًا لاحتياجات المشروع الصهيوني. لذا لم يتردد الزعماء الصهاينة من جماعة الهاجاناه في تفجير السفينة الفرنسية التي أقلَّتْ اليهود المهددين من هتلر، بعد توقفها في ميناء حيفا سنة 1940؛ مما أدى إلى وفاة 252 يهودي وطاقم السفينة. بالإضافة لما قامت به الأجهزة السرية من قتل وترويع لإرغام يهود العراق بالهجرة فيما سمي بعملية علي بابا.

تلاعب المؤرخون الرسميون بالتاريخ، كما حدث في كتاب يهودا باور “يهود للبيع”، فتعامل مع المصادر التي عالجت الموضوع بسطحية، حيث مرَّ عليها مرور الكرام لعدم قدرته على تجاهلها؛ ولأنها تتعارض مع نظريته التي تهدف إلى إبراز دور الزعماء الصهاينة في إنقاذ الفقراء اليهود من يد هتلر، بينما هم مارسوا الانتقاء، كما أنه تجاهل تواطؤ جمعية أرجون مع هتلر، ووضع أسماء المتفاوضين مع هتلر، وأضاف أنهم كلهم أصبحوا أبطالًا. فكانت غاية الكتاب هي محاولة إخفاء حقيقة أن ما كان يشغل الزعماء الصهاينة ليس إنقاذ اليهود من نار النازي؛ بل هو تأسيس دولة يهودية قوية. والموضع الثاني الذي أراد طرحه هو الإيهام بأن حرب هتلر هي حرب ضد اليهود.

أسطورة عدالة نورمبرج

اجتمع الزعماء المُنتصرون في الحرب بلندن في 8 أغسطس سنة 1945، لإنشاء محكمة عسكرية لمُعاقبة كبار مُجرمي الحرب التابعين لقوى المحور. صرح هؤلاء الزعماء أنفسهم بكثير من التصريحات التي تظهر مدى عنفهم ودمويتهم. ومع ذلك لم يقف لا تشرشل ولا ترومان ولا ستالين في قفص الاتهام كمجرمي الحرب، ولم يقف المنادون بأفظع الجرائم كتيودور كوفمان الذي وجه نداء بالإبادة الفعلية لألمانيا، وغيره كثير ممن لم يحاكموا في نورمبرج؛ لإن إجراءات المحكمة انبثقت عن اختيار المتهمين من بين المنهزمين وحدهم؛ ولأن المحكمة لم تتقيد بالقواعد المتعلقة بإقامة الأدلة والبراهين، فمجرد شهرة عمل ما ستعتبره ثابتًا، وستعتبر الوثائق الرسمية لحكومات الحلفاء براهين صحيحة.

اعتبر هذا القانون قاعدة مُسلَّمًا بصحتها ومعايير لحقيقة تاريخية لا يمكن مسها، ويعاقب بالحبس أو الغرامة كل من أنكر جريمة أو جرائم ضد الإنسانية، كما جاء في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة. وهي قرارات أشعرت كبار القانونيين في العالم بالخجل من إجراءات نورمبرج. واعتبرت هذه المحكمة رقم أسطورة الستة ملايين من الضحايا اليهود رقمًا رسميًا؛ مما جعله الرقم المتداول في الصحافة والإعلام والسينما وحتى في المقررات الدراسية. غير أن هذا الرقم لا يستند إلا إلى شهادتي ضابطين من ضباط الأمن النازي: شهادة هوتل لأحد معارفه: “نحو 4 ملايين يهودي قتلوا في مختلف معسكرات الاعتقال، كما أن هناك مليونين ماتوا بوسائل أخرى”. أما الثاني فنقل عنه “كان إيخمان يقول إن شعوره باقترافه مصرع خمسة ملايين شخص هو مصدر لسعادته ورضاه”. وهذا الرقم اعترض عليه الكثير لافتقاده السند، ومنهم من اعتبره رقمًا مشبوهًا.

تجاهلت هذه المحكمة القواعد الثابتة لإجراءات أي قضية حقيقية؛ سواء ما تعلق بإقامة الدليل على صحة النصوص، أو تحليل الظروف التي حدثت فيها الأحداث، أو البحث العلمي لسلاح الجريمة. وهو ما سيتبين من خلال تتبع هذه الإجراءات.

أ‌-  النصوص

تعتبر النصوص أدلة حاسمة في التدليل على أوامر الإبادة من القادة الكبار كهتلر وهيدريش وهيملر. بالنسبة لهتلر، فرغم الجهود التي بذلها المنظرون للإبادة الجماعية والهولوكوست، لم يجدوا أمرًا خطيًا مكتوبًا، ينص بوضوح على توجيهات هتلر للإبادة بالغاز في أوشفيتز، كما لا يوجد أي أمر بإيقافها. ولا توجد أي وثيقة من هتلر أو هيملر أو هيدريش تتحدث عن إبادة اليهود، كما لا تظهر عبارة الإبادة في خطاب جورنج الموجه إلى هيدريش بشأن الحل النهائي للمسألة اليهودية، فرغم البحوث المتعمقة، لم يتم العثور مطلقا على أمر من هتلر بإبادة اليهود. بل حصل تغيير في اللوحة التذكارية في أوشفيتز من 4 ملايين إلى عبارة أكثر من مليون قتيل. كما حملت اللوحة المثبتة على معسكر بيركيناو عبارة “هنا وفي الفترة ما بين 1940، 1945، عذب أربعة ملايين من الرجال والنساء والأطفال، وقتلوا بواسطة عمليات الإبادة الهتلرية”. وتم تعديل النص في متحف الدولة بما لا يبعد عن الحقيقة ليصبح “هذا المكان، الذي قتل فيه النازيون مليونًا ونصف مليون رجل وامرأة وطفل، معظمهم من اليهود والقادمين من مختلف البلدان الأوربية…”. فهذا المثال يبين لنا أن التاريخ إما أن يكون قابلًا لإعادة النظر والتعديل وإما أن يكون محض دعاية مقنعة.

أما بخصوص أوامر هتلر: أشار راؤول هيلبرج في كتابه “القضاء على يهود أوربا” الطبعة الأولى أن هتلر أصدر أمرين بالإبادة، لكن في الطبعة الثانية حذفت جميع الإشارات إلى أوامر هتلر بشأن “الحل النهائي” وذكر أن أمر هتلر كان شفويًا!

لكن هتلر في كتابه “كفاحي” نادى برغبته في طرد اليهود من ألمانيا. واقترح غيره تجميعهم في مدغشقر كحل نهائي لتفريغ أوربا منهم. أما بخصوص افتراض لغة سرية لغرض إبادتهم هو افتراض بلا سند لوجود وثائق واضحة بخصوص عدة جرائم أخرى، إلا ما يتعلق بهذه الجريمة فلا توجد أصول ولا صور. وليس هناك ما يبرر افتراض هذه اللغة الشفرية. وكمثال على ذلك نص مؤتمر وانسي الذي لم ترد فيه مطلقًا عبارة غرف الغاز أو الإبادة، ولكن ورد نقل اليهود فقط إلى الشرق الأوربي. وهو محضر فيه كل خصائص الوثيقة المزورة؛ فلا خاتم ولا تاريخ ولا توقيع، فضلًا عن ذلك أن هذا المؤتمر ادعى طوال أكثر من ثلث قرن أن قرار إبادة يهود أوربا قد اتخذ أثناء انعقاده، لكن اختفى من أدبيات أعداء المطالبين بمراجعة التاريخ، وتخلوا صراحة عن هذا التفسير أثناء انعقاد مؤتمر شتوجارت، فقيل عن تفسير وانسي “تفسير أحمق”!!

وفي السنتين الأخيرتين للحرب أرجئ حل مسألة اليهود إلى ما بعد الحرب، فهتلر كان في حالة ميؤوس منها، لاشتغال الحلفاء بتدمير مراكز الإنتاج الحربي، فاضطر لحشد أعداد أخرى للعمل بالمصانع، بمن فيهم عدد كبير من اليهود مقابل علاوة للجميع. فهذا يشكل دحضًا إضافيًا لأطروحات الإبادة.

ب‌-  الشهادات

لم تستطع المحكمة أثناء محاكمة أوشفيتز بفرانكفورت تفادي الاعتراف بأنها لا تملك سوى عناصر واهية لدعم حكمها، حيث كان ينقصها معظم وسائل المعلومات من جثث الضحايا، وتقارير التشريح، واستنتاجات الخبراء بأسباب الوفاة، وآثار المتهمين، وسلاح الجريمة، وعدم التحقق من الشهادات إلا في حالات نادرة.

وبما أن سلاح الجريمة هو “غرف الغاز”؛ فإن القضاة لم يجدوا لها أثرًا. وكان يكفي أن يكون الأمر معروفًا للكافة وهو ليس كذلك. فما يعرض على الزوار على أنه غرفة للغاز هو مَحرقة لجثث الموتى، ولم يكن هناك غرف للغاز بألمانيا كما قال أحد الخبراء القانونيين الأمريكيين، مؤكدًا قتل الكثير من اليهود لكن لم يبلغ عددهم المليون. ونظرًا لانعدام وثائق لا يرقى إليها الشك، قامت محمكة نورمبرج على شهادات الفارِّين بناءً على ما سمعوه وليس على ما شاهدوه. والشاهد الذي جيء به لإثبات نظرية المنتصرين هو رودلف هيس قائد معسكر أوشفيتز، أوضح في كتاب سيرته الذاتية أن الاعترافات انتزعت منه بالضرب، وأنه وقع التقرير دون معرفة ما فيه. وأكد تعذيبه روبرت بتلر في كتابه “فيالق الموت”. ورفض آخر قائد لمعسكر أوشفيتز إثبات وجود غرف الغاز في القطاع الذي كان يشرف عليه، بعدما تم توقيفه، وبعدها توفي في السجن في ظروف غامضة!

أعلن معهد التاريخ في ميونخ، أن غرف الغاز في داخاو لم توضع موضع التنفيذ أبدًا، بل كان ذلك في مناطق محدودة من بولندا المحتلة فقط، وليس في ألمانيا. ومن بين شهادات مُجرمي الحرب، شهادة الجنرال أوهلندورف، أعلن أثناء المحاكمة العسكرية أنه تلقى أوامر شفوية لكي يضيف وظيفة إبادة اليهود إلى وظائفه. لكن في شهادته الثانية تراجع عن تصريحاته السابقة، واعترف بأنه قتل عددًا من اليهود في إطار المعركة ضد العدو، وليس بموجب خطة لإبادة اليهود.

لم يدحض المؤرخون النقاد هذه الأقاويل بسبب فرض الصمت والاضطهاد عليهم وعلى كل البحوث المنتقدة، في مقابل التمويل الوافر للمدافعين عن هذه المحرمات. إن القمع ضد التاريخ الانتقادي للجرائم الهتليرية ترتكز على حجج كاذبة، مع أن جرائمه ضد اليهود والشيوعيين… لم تكن في حاجة لأية أكذوبة للكشف عن فظاعتها، وأن الحديث عنها انتقاديًا في نظر أعداء التاريخ الانتقادي بمثابة تبرئة هتلر أو التخفيف من حدة جرائمه.

إن التدليل على أن جرائم النازية لم تقتصر إلا على اليهود هو عنصرية. ونقد الشهادات المحققة تاريخيًا التي تمنح الرأي العام إمكانية التفكير في جرائم الأمس للحيلولة دون تكرارها، هو التزام أخلاقي بقدر ما هو التزام علمي. وهو الأمر الذي غاب في كثير من الأعمال الفنية كفلم الهولوكوست الذي يعتبر أكبر فيلم ساهم في التلاعب بالرأي العام العالمي والسيطرة عليه، وهو ما يعتبر جريمة ضد الحقيقة التاريخية. ومن المؤلفات “أيام موتنا” لدايفيد روسيه الذي جمع فيه بأسلوب روائي بارع كل ما هو مبتذل وتافه لتشكيل قالب أدبيات معسكرات الاعتقال. وكذلك كتاب “باسم كل أبناء جلدتي” الذي استعان بكاتب فرنسي كبير لوصف معسكر لم يره قط. وذروة هذه الأدبيات كتاب “يوميات آن فرانك” فتاة يهودية اعتقلت في أحد المعسكرات، تم فحصه في معمل البوليس الجنائي الألماني، فكانت النتيجة أن جزءًا من يوميات آن فرانك كتب بقلم جاف لم ينزل الأسواق إلا سنة 1951 في حين توفيت الفتاة سنة 1945.

فهذه الشهادات تشير إلى قتل الضحايا بالغاز، دون أن يوضحوا طريقة تشغيل غرفة واحدة. والذي أثبت لوختر استحالة ذلك ماديًا وكيميائيًا.

ج- سلاح الجريمة

آلاف الشاحنات المجهزة لعمليات القتل، اختفت ولم تظهر واحدة منها في أي محاكمة كدليل إثبات. بعد أن قام لوشتر باختبار عينات غرف الغاز في أوشفيتز وغيره من المعسكرات توصل إلى أنه لم يوجد في أي من هذه الأماكن غرف غاز قاتل. ولمعسكر أوشفيتز ألبوم يضم 189 صورة تظهر منظرًا للحياة في معسكرات الاعتقال، وليس فيه ما يثبت الإبادة الجماعية بل تستبعدها. إن الحجج الوحيدة المستخدمة حيال الرافضين للتاريخ الرسمي، هي الامتناع عن المناقشة، والاغتيال، والرقابة والاضطهاد.

أسطورة الستة ملايين “الهولوكوست”

اليهودية

لا شك في كون هتلر اتخذ اليهود أحد الأهداف المفضلة؛ بسبب نظريته العنصرية التي تقول بتفوق الجنس الآري. فخلط عمدًا اليهود والشيوعيين، وأطلق عليهم عبارة “اليهودية البلشفية” التي اتخذها هدفًا، بعدما أنشأ حزبه “القومي الاشتراكي”؛ من أجل استئصال اليهود وطردهم جميعًا من ألمانيا وأوربا، ونفذ ما آمن به بطريقة أبعد ما تكون عن الإنسانية عن طريق التهجير، والنفي، والحبس في معسكرات الاعتقال أثناء الحرب، ثم بإلإبعاد نحو مدغشقر، ثم نحو بولندا التي أهلكهم فيها بالأشغال الشاقة، ثم بالأوبئة كالتيفوس.

ولهذا فإن الهيمنة الهتليرية لم تكن حكرًا على اليهود وحدهم، بل كانت كارثة بشرية لا مثيل لها. لذا كانت هذه الأسطورة ترضي الجميع: فالحديث عن أكبر عملية إبادة جماعية في التاريخ كان بالنسبة للاستعماريين الغربيين، إسدالًا للستار على جرائمهم في قتل الهنود في أمريكا، والرقيق السود. وبالنسبة لستالين كان محوًا لآثار عمليات القمع الوحشية التي قام بها، وغيره من الزعماء كفلنتر وجورنج وآخرين الذين يستحقون الوقوف أمام محكمة دولية محايدة كمجرمي حرب، اكتشفوا لأنفسهم حججًا “بغرف الغاز” و”عمليات الإبادة الجماعية”.

وعبارة “الهولوكوست” المطبقة على نفس هذه المأساة منذ السبعينات والتي انتشرت بعد عرض فيلم “الهولوكوست”، تشِيْ هي الأخرى بالرغبة في استغلال الجريمة التي ارتكبت ضد اليهود، وجعلها حدثًا استثنائيًا لا مثيل له. مما أتاح لأحد الحاخامات القول “إن إنشاء دولة إسرائيل، هو رد الرب على الهولوكوست”. ولتبرير الطابع المقدس للهولوكوست، كان لا بد من الإبادة التامة واختراع عمليات التنفيذ ثم الحرق. ومع هذا لم يقدم أي نص يثبت أن الحل النهائي للمشكلة اليهودية بالنسبة للنازيين كان هو الإبادة. وارتبطت معاداة هتلر للسامية بمعركته ضد البلشفية مستخدمًا تعبير اليهودية البلشفية، وكانت معسكرات الاعتقال مخصصة للشيوعيين الألمان الذين ماتوا بالآلاف، أما اليهود فكان اتهامه لهم بكونهم من أنشط الحركيين في الثورة البلشفية، وفي نفس الوقت من أشد الرأسماليين استغلالًا للشعب الألماني؛ لذا بعد تصفيته الحركة الشيوعية بدأ بتفريغ ألمانيا، ثم أوربا منهم، عن طريق تهجيرهم في ظروف تمكنه من سلب أموال أغنيائهم. فنقلهم بشكل مكثف إلى معسكرات في بولاندا التي ذاقوا فيها أشد أنواع التعذيب من تجويع، وسير إجباري للضعفاء، والأشغال الشاقة، بحيث لم يبق معها مبررًا لللجوء إلى أساليب أخرى لشرح الموت الفظيع، من أجل المبالغة في الأرقام، ثم الاضطرار إلى تخفيضها لاحقًا. إن قتل إنسان بريء واحد سواء أكان يهوديًا أو لم يكن هو جريمة ضد الإنسانية.

ورغم وجود خلط لدى الناس بين “محارق الموتى” و”غرف الغاز” ووجود عدد مهم من هذه المحارق في المعسكرات الهتليرية لوقف انتشار وباء التيفوس، ليست حجة كافية، نظرًا لوجود هذه المحارق في العديد من المدن كباريس ولندن. وحرق الموتى فيها لا يعني الرغبة في إبادة السكان؛ لذا أضيفت “غرف الغاز” إلى المحارق لإقامة الذرائع والأدلة على الإبادة بالنار، وهو ما لم يثبت.

أسطورة أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض

قامت الإيديولوجية الصهيونية على فرضية واهية، مصدرها ما جاء في سفر التكوين “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”، فأعلن الزعماء الصهاينة حتى ولو كانوا لا أدريين أو ملحدين أن فلسطين أعطيت لنا من الرب. تشير إحصائيات الحكومة الإسرائيلية أن 15% فقط من الإسرائيليين متدينون. لكن هذا لا يمنع إيمان 90% منهم أن هذه الأرض منحها لهم الرب. وهذا ما شرحه ناثان وينستوك في كتابه “الصهيونية ضد إسرائيل” قائلًا لو ألغينا مفاهيم “الشعب المختار” و”الأرض الموعودة” لانهارت الصهيونية من أساسها.

تطابقت الممارسة السياسية مع النظرية الغربية التي مفادها: الاستيلاء على الأرض بطرد سكانها كما فعل يشوع، خليفة موسى. وهو ما عبَّر عنه مناحيم بيجين: “أن أرض إسرائيل الكبرى ستعود إلى شعب إسرائيل، كلها وللأبد”. وهكذا وضعت إسرائيل نفسها فوق كل قانون دولي؛ لذا لم يتردد بن جوريون في معرض حديثه عن التقسيم أن إسرائيل تعتبره باطلًا وكأنه لم يكن؛ وبالتالي تقسيم فلسطين المنبثق عن قرار الأمم المتحدة لم يحترم أبدًا. وهذا يشي بمخططات الغرب، فبالرغم من أن اليهود في ذلك التاريخ لا يمثلون سوى 32% من السكان و5.6% من الأرض حصلوا على 56% من الأراضي الخصبة، بضغط من الولايات المتحدة. ولما احتج العرب على هذا الظلم تمادى الإسرائيليون في الاستيلاء على أراضي جديدة كيافا وعكا، بعد طرد الفلسطينيين بالترهيب، ومصادرة المنازل والأراضي والقتل كما في دير ياسين، التي قال عنها بيجين لولا الانتصار فيها لما قامت إسرائيل. وهو ما سماه الوسيط الأممي في تقريره بالسلب الصهيوني مما كان سببا في اغتياله.

وبعد هذا السلب بدأت سياسة التمييز العنصري بمنع الفلسطينيين من دخول عدد من المدن بعدما حرم القانون أن يسكنها غير اليهود، وانعكست هذه السياسة على الثقافة والتعليم في سبيل خلق أغلبية يهودية في فلسطين التي سكانها الأصليين عربًا. فقام هذا المشروع الاستيطاني على طرد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم لدفع عجلة الهجرة اليهودية. فشكلت موجة المهاجرين من روسيا نوعًا من التحول باستبعادهم الفلاحين الفلسطينيين وخلق طبقة عاملة وزراعية يهودية، حينها بدأ استبدال الشعب الفلسطيني بشعب آخر، وتم إنشاء “الصندوق القومي اليهودي” الذي شرع لنفسه بأن الأرض التي تقع في حوزته أصبحت أراضي إسرائيل؛ لذا لا تباع ولا تؤجر لغير اليهود. ولمحو ذكرى وجود السكان الزراعيين الفلسطينيين، والتأكيد على أسطورة “بلاد الصحراء”، دمرت 385 قرية عربية، وهدمت منازلها وأسوارها وحتى قبورها. وحرف “قانون العودة” لصالح اليهود، فأي يهودي نزل مطار تل أبيب يصبح مواطنًا إسرائيليًا، أما الفلسطيني المولود في فلسطين من أبوين فلسطينيين قد يحرم من الجنسية.

ومما يحز في النفس أن تتوصل الصهيونية إلى تحقيق الغرض الذي وضعه المعادون للسامية، وهو انتزاع اليهود من أوطانهم وحبسهم داخل جيتو عالمي. بعد توالي الهجرات الكبرى عقب عمليات ذبح اليهود في روسيا القيصرية، ثم المهاجرين البولنديين ويهود المغرب هربًا من الاضطهاد، وشكل يهود ألمانيا أهم مجموعة بسبب معاداة هتلر للسامية، ليصل عدد اليهود في فلسطين سنة 1947 ستمائة ألف من مجموع مليون وربع من السكان، فبدأ الاجتثاث المنظم للفلسطينيين من “الصحراء” المزعومة التي كانت تصدر الحبوب والموالح التي ضاعف “البدو” إنتاجها عشر مرات في حوالي خمسة عشر سنة.

انطلق المشروع الاستيطاني في البناء والتشييد والسيطرة في انتهاك فاضح للقوانين الدولية وخاصة اتفاقية جنيف، وما يتبع ذلك من قتل واعتقال وتعذيب لفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

ثالثًا: الاستخدام السياسي للأسطورة

اليهودية

اللوبي في الولايات المتحدة

يعيش في الولايات المتحدة ستة ملايين يهودي؛ مما قد يجعل صوتهم الانتخابي حاسمًا في نجاح المرشح للرئاسة أو فشله، وأقوى لوبي معترف به يوجه السياسيين هو “إيباك” (لجنة الشؤون العامة الأمريكية- الإسرائيلية). إن سياسة الولايات المتحدة في فلسطين يشكلها الصوت الانتخابي اليهودي، والإعانات المقدمة من العديد من الشركات اليهودية الكُبرى؛ ممَّا طمأن الزعماء الإسرائيليين على تدفق الأموال من الخارج والمتمثلة في التعويضات الألمانية والنمساوية، والسخاء غير المشروط للولايات المتحدة، وتحويلات أبناء الشتات، فوضعوا تصورا لسياستهم الخارجية بنوها على تطلعات طموحة لإنشاء إسرائيل الكبرى، تبدأ بتفكيك مصر إلى مقاطعات منفصلة، وتشكيل دولة قبطية في صعيد مصر، ثم ليبيا والسودان وسوريا والعراق على أساس معايير عرقية أو دينية. وحرب العراق خير مثال بداية التنفيذ وعلى كون اللوبي الإسرائيلي نجح في دفع الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق؛ لاعتباره القضاء على صدام حسين سيزيل خطر أقوى بلد عربي. ولوبي رجال الأعمال الذي اعتقد أن الحرب ستنعش الاقتصاد الأمريكي. وهذا الدور من اللوبي طالما حظي بمدح الزعماء الصهاينة.

إلا أنه مع ذلك لا يمكن الخلط بين اليهودية كدين محترم، وبين الصهيونية السياسية التي فرضت الولاء غير المشروط لإسرائيل التي حلت محل “رب إسرائيل”؛ مما سيؤدي حتمًا إلى تغذية مُعاداة السامية والغطرسة الإسرائيلية التي لم تسلم منها الولايات المتحدة نفسها، وذلك لكون اللوبي اليهودي يشكل الفرع الحقيقي للحكومة الإسرائيلية، يتحكم في الكونغرس ومجلس الشيوخ ورئاسة الجمهورية، ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، ووسائل الإعلام والجامعات وحتى الكنائس. وكل الوسائل بالنسبة له ملائمة وجيدة، بدءًا من الضغط المالي وحتى الابتزاز الأخلاقي مرورًا بمقاطعة وسائل الإعلام والناشرين والتهديد بالقتل.

اللوبي في فرنسا

يوجد لوبي قوي مناصر لإسرائيل في فرنسا، يمارس نفوذه وتأثيره في الدوائر الإعلامية خاصةً؛ مما يشكل ضغطًا على كل مرشح لرئاسة الجمهورية الفرنسية؛ مهما كان انتماؤه الحزبي، لا بد من الذهاب إلى إسرائيل ليحصل على المباركة والتغطية الإعلامية. وبلغ من تأثيره أن يتلاعب بالرأي العام على هواه. مع أن اليهود لا يمثلون سوى 2% من سكان فرنسا؛ فإن الصهيونية تهيمن على معظم مُتخذي القرارات السياسية في الإعلام والسينما ودور النشر.

ولقد فرضت الهيمنة شبه الكاملة على أجهزة الإعلام في أمريكا وفرنسا، من الصهيونية الإسرائيلية على العالَم أجمع قلبًا للمعاني، حتى أصبح الدفاع عن الوطن إرهابًا، وغزو إسرائيل للبنان يسمى السلام في الخليل، والمقاومة الشعبية إرهابًا، وأصبح التشكيك في الجرائم المقترفة ضد الإنسانية جريمة بموجب “قانون جيسو”. وبهذا حرم أي مؤرخ من وضع استنتاجات محكمة نورمبرج موضع الشبهات والمراجعة. وبهذا لوحت الصهيونية دائمًا بشبح معاداة السامية؛ للإقناع بأنها تهديد مستمر ضد إسرائيل ولضرورة الهرولة لنصرتها ومساعدتها.

أسطورة “المعجزة الإسرائيلية” التمويل الخارجي لإسرائيل

اليهودية

طالبت إسرائيل ألمانيا بتعويضات مالية كبيرة، امتثلت لها ألمانيا وشكلت دفعاتها عاملًا حاسمًا في انطلاق الاقتصاد الإسرائيلي، وبناء البنية التحتية من سكك حديدية وموانئ… ثم ابتزت النمسا من أجل التعويضات، وبالإضافة لذلك تتمتع إسرائيل بإمدادات لا حد لها من الأسلحة والأموال التي تأتيها من الولايات المتحدة، والهبات المقدمة من أبناء الشتات من أجل تمويل ما أسموه “المعجزة الإسرائيلية” على صعيد التسليح والاقتصاد. وهناك مصدر مالي آخر مكون من سندات دولة إسرائيل؛ وهي صكوك بالدولارات وتباع في الخارج، ولكن سداد أصولها وفوائدها يتم بالعملة الإسرائيلية. والسندات التي بيعت في أمريكا وضعت تحت تصرف الاقتصاد الإسرائيلي.

كما تضمنت المعونة الاقتصادية تسهيلات ممنوحة للصادرات الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتمتع بتعريفات تفضيلية، وبذلك دخلت 96 بالمائة من هذه الصادرات خالصة من جميع الضرائب. فقوة اللكمة اليهودية تأتي من القفاز الفولاذي الأمريكي الذي يلفها، والدولارات التي تبطنها.

خاتمة: الأسطورة المتنكرة في ثياب التاريخ واستخدامها السياسي

إن نقد التفسير الصهيوني للتوراة والأسفار التاريخية لا يمس بأي حال من الأحوال التوراة وما تضمنته من معتقدات دينية. “الخروج” مثلًا سيظل رمز التخلص من كل أنواع العبودية، لكن ما نرفضه هو القراءة الصهيونية القبلية والقومية لهذه النصوص، والتبرير السابق لجميع أنواع السيطرة والاستعمار والمذابح؛ كما لو كان تاريخ العبرانيين هو التاريخ الوحيد في العالم. ولم يدر في خلدنا فكرة تدمير إسرائيل، بل أردنا إبطال صفة القداسة عنها، وتطبيق قانون دولي لا يخلد علاقات الغاب، وفي الشرق نود تطبيق قرارات التقسيم التي اتخذتها الأمم المتحدة، وهي قرارات تستنكر التوغل داخل حدود البلدان المجاورة والاستيلاء على مياهها.

إن نقد أسطورة الهولوكوست ليست بحساب عدد الضحايا ولكن بالاستغلال السياسي لها من طرف دولة لم تكن قد وجدت بعد، والمبالغة في أرقام الضحايا لإثبات أن معاناة البعض لا تشبه معاناة الآخرين وإضفاء القداسة عليها. ولا يتعلق الأمر كذلك بالتشكيك في أصحاب النوايا الطيبة الشرفاء الذي صدقوا هذه الأساطير التي روج لها الإعلام. فالكتاب يهدف لإتاحة الفرصة لكل هؤلاء للحكم على شرور الأساطير الصهيونية التي تساندها الولايات المتحدة دون قيد أو شرط، ولمعرفة مدى تأثير اللوبي على القوى الكبرى والرأي العالمي وما يشكله من تهديد مستمر لوحدة العالم وسلامه.

د. أسماء غيلان

حاصلة على دكتوراه في التاريخ ودكتوراه في أصول الدين، أحب البحث في القضايا التاريخية والدينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى