في ذكرى ولادة الديموقراطية الأمريكية: الاستيطان في كتابات فلاسفتهم

يبدو أن هذا هو رأي عامة الناس هنا” أي أن قتل السكان الأصليين أينما وجِدوا عمل يستحق التقدير والمكافأة.

وليام جونسون مراقب الشئون الهندية البريطاني في أمريكا (1766)[1].

مقدمة توضيحية

في دراسات سابقة فصلت بإسهاب كيف أن الدول الغربية التي تطبق الديمقراطية في داخلها وتدعو لها في الخارج أهملت تطبيقها على الشعوب التي قامت هي بالعدوان عليها. وسردت أمثلة على ذلك وعلى عدم إدخال رغبات هذه الشعوب في عملية تقرير مصيرها. كما فصلت دور الديمقراطية الغربية في العدوان على بعض الشعوب الأصلية وكيف أن هذا العدوان صدر بقرارات ديمقراطية.

وبمناسبة ذكرى إعلان الاستقلال الأمريكي (الرابع من تموز/ يوليو/ جويلية 1776) الذي نتج عنه ولادة الديمقراطية السياسية الأمريكية التي تتزعم الديمقراطيات الغربية اليوم وتقود نشر الديمقراطية في العالم ولو بطرق غير ديمقراطية! فإنه من المناسب بحث دور الشعوب الغربية في دعم عمليات الهجوم على العالم غير الأوروبي. وإن كان ذلك واضحًا من طبيعة النظام الديمقراطي الذي تمثل فيه الحكومة إرادة الأغلبية، إلا أنه من المفيد الاطلاع أيضًا على دور هذه الإرادة في دعم العدوان لا سيما في وجود آراء تتخذ من تنوع المواقف داخل المجتمعات الغربية وسيلة قد تؤدي في النهاية إلى تمييع مواجهة العدوان المستمر الملموس بحجة وجود آراء إنسانية ترفض هذا العدوان داخل هذه المجتمعات رغم أننا لا نلمس أثرًا عمليًا لهذا الرفض.

فلاسفة ومفكرو النهضة والتنوير يمهدون للعدوان

اتضحت ملامح النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، وقد أدت فيما بعد إلى ظهور العالم الغربي بشكله الحالي، ولكن الجوانب الإصلاحية والعقلية والعلمية والإنسانية التي طبعت العصر الحديث بطابعها كان لها آثارًا سلبية جدًا على الإنسان غير الأوروبي، ولم يكن ذلك بطريق الخطأ الجانبي أو غير المقصود، فقد أسس مفكرو النهضة لهذه السلبيات عمداً وعن سبق الإصرار:

1- المدينة الفاضلة لتوماس مور مدينة استعمارية

توماس مور
توماس مور

اشتهر السير والقديس والفيلسوف الإنجليزي توماس مور (1477-1535) بأنه أحد رواد الحياة المثالية والمدينة الفاضلة بعد تأليفه روايته الشهيرة يوتوبيا (1516) التي تحدث فيها عن مكان خيالي في القارة الأمريكية يعيش فيه شعب بطريقة تخلو من جميع العيوب التي كانت أوروبا المسيحية تعيشها في ذلك الزمن[2]، وكان المقصود من الرواية إظهار المثل العليا للحياة الإنسانية ومنها التسامح والمشاركة والعلم، وقد أصبحت هذه الرواية رمزاً لكل من يسعى إلى الحياة الفاضلة المثالية.

ومع هذا فقد احتوت هذه الجنة على صفة لن تلبث بعد ذلك أن تصبح من صفات المجتمعات الأوروبية الاستعمارية وهي التوسع المستمر؛ فقبل قرن من بداية الاستعمار الاستيطاني الإنجليزي في أمريكا، وضع الإنساني توماس مور مبرراته الأخلاقية التي ستتوسع بمرور الزمن[3]، وقال:

إذا زاد عدد السكان في الجزيرة كلها على الحد المعين، فإنهم يختارون عددًا من المواطنين من كل مدينة ويقيمون لهم مستعمرة تخضع لقوانينهم على جزء من أرض القارة المجاورة لهم، في مكان تكثر فيه لدى السكان الأصليين الأرض غير المأهولة وغير المزروعة.

وهذا هو بالضبط التبرير الذي حمل البيض في أمريكا على سلب أراضي الهنود مع التوسع كثيراً في تفسير “غير المأهولة وغير المزروعة” حتى لم يبق للهندي ما يقف عليه! وتتابع الرواية المثالية:

وإن أراد السكان الأصليون أن يسكنوا معهم سمحوا لهم بالانضمام إليهم، وعندما يتم هذا الاتحاد، يندمج الفريقان معًا، أما إذا رفض هؤلاء السكان طاعة قوانين اليوتوبيين، فإنهم يطردونهم من الأرض التي اختاروها لأنفسهم، فإذا قاوموا، شنوا عليهم الحرب، فهم يعدون أن أعدل مبرر للحرب هو أن يتمسك قوم بقطعة من الأرض لا يستغلونها بل يتركونها بورًا. [4]

ولن يكون من الصعب بعد ذلك على من يتبنى هذه الآراء أن يهمل واجباته فيها، كالاندماج مع السكان الأصليين، وينتقي ما يناسب حقوقه منها، كالاستيلاء على الأرض وطرد أصحابها بحجة عدم استعمالهم إياها، وهي الخطوة التي سيقوم بها فكريًا الفيلسوف جون لوك فيما بعد في مقالته الثانية عن الحكومة (1689)، وحجة عدم استعمال الأرض هذه هي نفس الحجة التي بررت ما حصل في أمريكا وبعد ذلك في فلسطين حيث طُرد الأهالي ولم يُسمح بالعودة حتى للذين قبلوا منهم “بالعيش بسلام مع جيرانهم” كما نص على ذلك قرار الأمم المتحدة رقم 194.

2- السير والتر رالي (1552-1618):

والتر_رالي-1
السير والتر رالي

وقد وُصف بأنه مساهم رئيس في التطورات التي شهدها المجتمع الإنجليزي بداية من عهد الملكة إليزابيث الأولى والتي وصلت أوجها بالديمقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية والتسامح الديني وانتصار العلم الحديث، ولكنه إلى جانب كل ذلك كان مؤسسًا لفكرة الاستعمار بصفتها حلًا لمشاكل إنجلترا وعطاء لجميع أبنائها؛ “من العاطلين عن العمل إلى البروتستانت، ومن تجار المدن إلى الأبناء الأصغر للعائلات الكبرى”، وهو الذي موَّل الرحلات الأولى لأمريكا، وشارك في إخضاع وقتل الإيرلنديين، ودعا إلى ضرورة إزاحة التحدي الإسباني للهيمنة الإنجليزية، وهو ما تحقق بهزيمة الأرمادا (1588)، كما أنه رعى أول عملية استيطان إنجليزي في العالم الجديد (1584)[5]، ورغم فشل محاولاته الاستيطانية الأولى، فقد “قادت جهوده المثابرة عملية الاستيطان الإنجليزي الدائم في العالم الجديد”[6].

3- جون لوك يمارس الاستشراق الاستئصالي لتبرير عملية غزو أمريكا:

قدمت أفكار الفيلسوف والاقتصادي والكاتب السياسي الإنجليزي الشهير جون لوك (1632-1704) إلهامًا للثورة في كل من إنجلترا (1688) والولايات المتحدة (1776)، ولهذا عُد من رواد عملية التغيير الاجتماعي في العصر الحديث[7]. وقد قدم لوك أفكارًا اقتصادية شهيرة فيما يتعلق بحق الإنسان في الملكية الفردية الناتج عن عمله في الموارد الطبيعية، وحقه في استخلاص ما يبذل جهده فيه من هذه الموارد ولا سيما الأرض منها. وعد ذلك بديهية وأحد مقتضيات القانون الطبيعي الذي يسلم بكون الإنسان مالكًا قواه التي تعمل. ولكنه لم يقف عند هذا الحد، وعند التطبيق العملي لأفكاره الاقتصادية قام بالخطوة اللازمة لتجاوز حقوق السكان الأصليين كما وُصفت في “يوتوبيا” وذلك بممارسة ما أسميه الاستئصال (وهو الاستشراق معممًا على جميع السكان الأصليين في العالم).

جون_لوك
جون لوك

على الهنود الحمر التعامي عن حقيقة ماثلة للعيان آنذاك وهي عمل الهنود في الزراعة، وإنكار قيامهم بجهود في تطوير الأرض التي يعيشون عليها مما جعل أراضيهم أرضًا “قاحلة” و”يبابًا” ومن حق المستوطن أن ينتزعها لنفسه بالعمل[8]. وذلك رغم أن هذا المستوطن تعلم كثيرًا من أساليب الزراعة في العالم الجديد من الهندي نفسه[9].

ومع ذلك فقد قام هذا المستوطن بخطوة أخرى في العدوان متقدمة عما أقرته فلسفة لوك المتقدمة أصلاً على فلسفة توماس مور، وهذا من طبيعة تطبيق النظريات عندما تقتضي المصالح؛ وذلك عندما لم يكتف المستوطن بالاستيلاء على ما يكفي قوته من الأرض التي وصفت بالقاحلة بل نشأت مصالح كبرى من الاستيلاء على أراضٍ واسعةٍ استنادًا إلى الرشوة والفساد[10]. وهو ما أدى في النهاية إلى إبادة السكان الأصليين بعد تضييق مصادر الرزق عليهم وعدم الإبقاء على الحد الأدنى الذي يقتاتون به وذلك على عكس ما ادعت النظريات الفلسفية المبررة للعدوان والتي لم تستحِ فيما بعد من ممارسة استشراق فاضح بالادعاء أن فلسطين أرض بلا شعب.

الإرادة الشعبية الأمريكية واحتلال القارة

يلاحظ قارئ التاريخ الأمريكي أنه مثل كل الكيانات الاستيطانية الاستعمارية الأوروبية كانت مصلحة قاعدته الشعبية تدفع باتجاه الاستيلاء على أراضي وممتلكات وموارد السكان الأصليين بطريقة كان على حكومات هذه الكيانات أن تتدخل كثيرًا لضبطها ليس من باب الإنسانية والحرص على مصالح الهنود بل من باب السياسة وتقدير المنافع والأضرار وبخاصة أنه كثيرًا ما ثبت عمليًا أن اتباع الطرق الدبلوماسية في الحصول على أرض الهندي أرخص من استعمال الوسائل العسكرية[11]التي وصلت نفقات بعضها إلى مليون دولار لقتل الهندي الواحد[12]، ولكن المشكلة في المقياس النفعي أنه لم يكن يمنع اللجوء إلى أية وسيلة حتى لو لم تكن أخلاقية لتحقيق الهدف وهو الحصول على أرض الهنود والذي هو بدوره غير خاضع للضوابط الأخلاقية.

الامبريالية

الكتلة البيوريتانية وعدائها ضد الهنود الحمر

ولأن موضوع هذه الدراسة هو عدوان الديمقراطية الغربية فإنني لن أتطرق بتوسع إلى موقف أوروبا من فتح أمريكا قبل حلول العصر الديمقراطي، إلا أنه من المفيد الإشارة إلى أن الكتلة البيوريتانية الإنجليزية في عصر تميز بغلبة المشاعر الدينية حملت عداء للسكان الأصليين منذ بداية الاستيطان، وَعَدَّت انقراضهم بالأوبئة في بعض المناطق التي بدأ الاستيطان الأبيض فيها نعمة إلهية لإخلاء الأرض لشعب الله المختار. كما دخل المستوطنون كجبهة موحدة في حروب طاحنة مع القبائل الهندية في الصراع على الأرض والموارد وكانوا يسقطون رؤاهم التوراتية على هذه القبائل فهي كالفلسطينيين القدماء أعداء يهوه والمستوطنون كبني إسرائيل أحباء الرب. وهذه الرؤى والعداوات استمرت من العصر البيوريتاني في القرن السابع عشر، إلى عصر العقل (الكلاسيكي الجديد) في القرن الثامن عشر، ثم العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر وما بعده من تطورات. وكل ما حدث هو علمنة للمفاهيم الدينية دون تغير في جوهر المعتقدات القائمة على المصالح في اغتصاب الأرض ونهب الموارد وإبادة السكان.

تحول نحو الديموقراطية وأيضًا نحو الاستعمار

لقد كان التغير الذي شهدته السياسة الإنجليزية في القرن السابع عشر، من الاستبداد إلى الديمقراطية والليبرالية، والتسامح وانتصار العلم الحديث منذرًا بالتحول أيضًا نحو الاستعمار الذي أصبح هو الحل لمشاكل إنجلترا الداخلية كزيادة السكان والبحث عن الموارد الطبيعية للصناعات الوليدة وعن الأسواق لتصريف المنتجات الصناعية مما سيؤدي إلى استقلال البلاد اقتصاديًا وسيستفيد الوثنيون أيضًا من هذه الحملة التي ستجلب لهم أنوار الكتاب المقدس[13](!)

وقف المد الاستيطاني من دواعي الثورة

وقد أجمع المؤرخون على حقيقة استمدت من إعلان الاستقلال الأمريكي نفسه وهي أن القرار الذي اتخذه الملك البريطاني جورج الثالث بوقف المد الاستيطاني داخل أراضي الهنود (1763)، كان أحد الحوافز الرئيسة للمستعمرات الأمريكية على إعلان الثورة والاستقلال عن العرش البريطاني، استنادًا إلى أفكار الفيلسوف جون لوك آنف الذكر، الذي عمل في الإدارة الاستعمارية الإنجليزية، والذي اعترف الرئيس توماس جيفرسون كاتب إعلان الاستقلال بدينه لأفكاره التي وصفها بأنها تعبير عن العقلية الأمريكية[14]. كما وُصف لوك بأنه “الأب الفلسفي للتنوير السياسي الأمريكي وللعقيدة الأمريكية”[15]. ووُصف الأمريكيون بأنهم جميعًا يمثلون نظرية جون لوك[16]، وكون القرار البريطاني بكبح الاستيطان هو من أسباب الثورة فهذا أمر يلخص حقيقة الهجوم الذي شنته الإرادة الشعبية الأمريكية على السكان الأصليين في الوقت الذي وصمت فيه بالاستبداد محاولة كبح العدوان على أراضي الغير، ولهذا لم يكن من العجيب أن تكون الثورة الأمريكية كارثة مدمرة على القبائل الهندية.

مأساة الهنود الحمر

في العصر الجمهوري الأمريكي

أصبحت الحكومة ممثلة للإرادة الشعبية بعد إزاحة الحكم البريطاني الذي لم يعط المستوطنين حق انتخاب ممثلين في البرلمان–ولهذا رفعوا شعار الثورة: لا ضرائب بلا تمثيل-كان السياسي الأمريكي مسئولاً أمام جمهور يؤلف أصحاب المصلحة في الاستيلاء على أراضي الهنود نسبة كبيرة منه، سواء من المستوطنين أو التجار الذين يدين الهنود لهم بمبالغ ضخمة من الأموال أو المضاربين في الأراضي[17]، في الوقت الذي افتقد فيه الهندي القدرة على التأثير في هذه الحكومة إلا بواسطة القوة والمقاومة المسلحة، وبعدما كان يمكن للهنود اللجوء إلى حماية العرش البريطاني من تعديات المستوطنين إلى حد ما، أصبحوا مكشوفين أمام أصحاب المصلحة المباشرة في تجريدهم من أملاكهم وهم الذين بيدهم السلطة في الجمهورية الناشئة.

يتبع ..


المصادر:

[1] -Stuart Banner, How the Indians Lost Their Land: Law and Power on the Frontier, The Belknap Press of Harvard University Press, Cambridge (Massachusetts), 2005, p. 98.

[2]Encyclopedia Britannica, 15thEdition, 1987, Vol. 8, p. 314.

[3] -Stuart Banner, p. 30.

[4] -توماس مور، يوتوبيا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ترجمة وتقديم: د. إنجيل بطرس سمعان، ص 158.

[5] -Robert A. Williams, Jr., The American Indian in Western Legal Thought: The Discourses of Conquest, Oxford University Press, 1990, pp. 174-177.

[6]New Standard Encyclopedia, Ferguson Publishing Company, Chicago, 1999, Vol. 14, p. R-79.

[7] -كرين برينتون، تشكيل العقل الحديث، سلسلة عالم المعرفة (82)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر 1984، ترجمة: شوقي جلال، ص 395 (من الهوامش بقلم المترجم).

[8]-Robert A. Williams, pp. 246-249.

-Stuart Banner, pp. 46-47.

[9] -Roy Harvey Pearce, Savagism and Civilization: A Study of the Indian and the American Mind, University of California Press, Berkeley, 1988. P.66.

[10] -Robert A. Williams, p. 249.

[11] -Stuart Banner, pp. 39, 42.

[12] -Richard Carlisle (ed.), The Illustrated Encyclopedia of Mankind, Marshall Cavendish Corp., 1978, Vol. 20, p. 2653.

-Ralph K. Andrist, The Long Death: The Last Days of the Plains Indian, University of Oklahoma Press, Norman, 2001, 95.

[13] -Robert A. Williams, pp. 175-176.

[14] -نفس المرجع، ص246.

[15] -أناتول ليفن، أمريكا بين الحق والباطل: تشريح القومية الأمريكية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ترجمة: د. ناصرة السعدون، ص 238.

[16] -Roy Harvey Pearce, p. 68.

[17] -Stuart Banner, p. 139.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى