حقيقة التغيير الديموغرافي

وإن كان كَثُرَ الحديث في هذه الأيَّام عن التغيير الديموغرافي الحاصل في سوريا إلّا أنَّ هذا التغيير ليس الأوّل من نوعه ولن يكون الأخير، فهناك أمثلةٌ كثيرةٌ مِنَ العالم عن تغييرات ديموغرافية تم فرضها على عدد من الشعوب والدُّول أدَت إلى إبادة وتشريد وتهجير الملايين من الناس وفقـًا لتبعيتهم السّياسية والقوميّة والدّينية، ولعلَّ أوّل و أعظم هذه التغييرات هو إبادة ما يزيد عن 112 مليون إنسان بينهم 18.5 مليون من الهنود الحمر قُتِلوا و دُمِرَت قُرَاهم ومُدُنهم لتقوم الإمبراطورية الأمريكية، بالإضافة إلى عشرات وعشرات العمليات الأخرى للتغيير التي قامت بها روسيا بحق الشركس في القوقاز و تلك التي قام بها ستالين بحق كل من التتار والشيشان و الأنغوش والبلغار و الأتراك المسخيت  والقراشاي من القرم وشمال القوقاز إلى المناطق النائية في سيبريا حيث قُتِلَ زُهاء 90 ألف شخص خلال عمليات التهجير القسرية تلك.

كل ذلك بغرض إقامة إمبراطوريات على أسس دينية أو قومية أو سياسية أي اتباع السياسة الميكافيلية التي عرضها في كتابه الأمير قائـلاً [ومن يصبح حاكمـًا لمدينة حرّة ولا يدمرها فليتوقع أن تقضي هي عليه لأنّها ستجد الدافع دائمًا للتمرد باسم الحريّة وباسم أحوالها القديمة… فالنّاس لا تتخلى عن ذكريات حريتها القديمة بسهولة… لذلك فإنَّ الطريقة الأكيدة إما أن تخربها أو أن تقيم فيها]

كل هذا وفقًا لمنظوره بأنّ الغاية تبرر الوسيلة، علمًا أنّ مثل هذه الأعمالا لتي تهدف إلى إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسّكان من الأرض التي يقيمون عليها جريمة من جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

فوفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدّولية فإنّ [إبعاد السّكان أو النقل القسري للسكان متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد أي مجموعة من السُّكان المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية]

كما أنّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949حظرت النقل القسري الجماعي والفردي للأشخاص أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى إلّا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.

التغيير الديمغرافي في البلاد العربي

و بالعودة إلى المنطقة العربيّة فإنّ عددًا من شعوبها قد تعرضوا للتهجير القسري بنية التغيير الديموغرافي كالشعب الفلسطيني الذي يعاني من التهجير منذ النكبة عام 1948 في سياسة ممنهجة تتبعها إسرائيل. وفي مصر أيضًا قامت السلطات المصرية بقيادة عبد الفتاح السيسي بعمليات تهجير  متواصلة في شبه جزيرة سيناء لمدة عامين و هو ما أشار إليه تقرير سابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش بعنوان ((ابحثوا عن وطن آخر)) عدت فيه أعمال القتل والتشريد الحاصلة في سيناء انتهاكًا للقانون الدولي.

التغيير الديمغرافي في العراق

وليس ببعيد منها أحواز العراق التي تتعرض لحملة شرسة من إيران لمحوها والقضاء على هويتها المسلمة، وبالعودة إلى الخليج العربي ترزح فئة البدون تحت وطأة اللاهوية ولا جنسية بفعل حدود سياسة خرقاء كمن يلتزم بها جعلتهم محرومون من أقل حقوقهم كاللجوء إلى المشافي وحق التملك.

التغيير الديمغرافي الشيعي في سوريا

وأمّا سوريا فإنّ ظاهرة الباصات الخضراء التي انتشرت حديثًا ليس سوى الشكل الأكثر وضوحًا من التغيير الديموغرافي الذي اشتدت وتيرته مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة عام 2000 و الأهم فيها قيام الإيرانيين بشراء أراضٍ وعقارات و استئجار أخرى بالقرب من “المزارات الشيعية ” كالسيدة زينب جنوب دمشق أو كمقام السيدة رقية في دمشق القديمة  ومقام أويس القرني في الرّقة و مقام النّبي هابيل في ريف دمشق الغربي، ومقام سكينة في داريا الذي لم يكن معروفًا قبل سنة 1999، ويعتبر دخيلًا على داريا، ويقول أهالي المدينة إنه يعود لقبر امرأة تسكن في المنطقة، التي كانت نائيةً عن وسط المدينة، بينما يذهب آخرون إلى أنه قبر “كلب” لرجلٍ يدعى “أبو صادق” حيث تم إحداثه عام 2003 لجذب المواطنين والتجار الإيرانيين ودفعهم لتملك العقارات في محيطه.

الحافلات الخضراء في حلب

ثم أخذوا بالتوسع بهذه المزارات و تنشيط العمران في محيطها و القيام بأنشطة اقتصادية واستحداث مكاتب للتشيع حيث تحولت مدينة السيدة زينب بأغلبيتها السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية و صار الوجود الشيعي منتشرًا بكثرة بمحيط السّيدة رقية في دمشق القديمة.

ولم يكن التهجير بحق السنة فقط حيث يتم الضغط على، المسيحيين في قلب العاصمة دمشق  وفي أحياء القيمرية و باب توما المجاورين لحي الأمين الذي تعيش فيه أغلبية شيعية لبيع بيوتهم والخروج من المنطقة كما يجري الاستيلاء على البيوت التي خرج منها سكانها لسبب، أو آخر و إحلال آخرين مكانهم في إطار تشييع المنطقة، و قد تم تشييع، مدن بأكملها استغلالًا للفقر وللجهل كقمحانة في حماة والجفرة في دير الزور وغيرها الكثير مع محاولات باء معظمها بالفشل في قرى السويداء ذات الأغلبية الدرزية.

مشروع الـ 66

ناهيك عن مشروع الـ 66 الذي عاد إلى الواجهة مجددًا حيث بدأ الحديث عنه فعليًا في 2006، وتم وضع مخطط يبدأ بالمزة الشرقية باتجاه مزارع الصبار خلف الرازي، والليوان والحبال، انتقالًا إلى أول منطقة من داريا ليتم ضم أجزاء من المدينة بعد ذلك على مراحل.

المشروع خُطِّط له من قبل جهات عدة كان على رأسها جهة إيرانية،  وقت بدأ العمل الجدي في الـعامين 2008 و2009، عندما تحول من مخططات إلى مجسّم كبير للمنطقة، كان موجودًا لدى سامر قلعي، مدير مكتب رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، وبالرغم من توقف المشروع في 2010 وانطلاق الثورة السورية، أصدر الأسد، في 2012، المرسوم رقم 66 الذي ينص على إحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق ضمن المصور العام لمدينة دمشق، وتشمل المنطقة الأولى تنظيم منطقة جنوب شرق المزة، والثانية تشمل تنظيم جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية “مزة – كفر سوسة – قنوات بساتين – داريا – قدم”.

ولكن المشروع قد واجهه بعض العقبات بسبب صعوبة إخراج السكان من بيوتهم وشراء الأملاك منهم. وفيما يبدو أن الثورة قد قدمت للنظام تسهيلات كبيرة بهذا الشأن فقد عمل على مداهمة المنازل وقتل واعتقال الشباب بهدف ترويع السكان ودفعهم إلى الإخلاء الطوعقهري ومن تبقى منهم تلقى إنذارًا بالإخلاء من فرع الأمن العسكري 215، ليتم إخلاء المنازل الواقعة في بساتين حي المزة، خلف السفارة الإيرانية، ومشفى الرازي، خلال مدة أقصاها شهران، تحت تهديد فرع الأمن بهدمها بعد انتهاء الفترة المحددة للإخلاء، ليبدأ بعدها تجريف الأراضي على مساحات واسعة.

وإن كان الهدف الظاهر للعيان من وراء المشروع اقتصاديا يهدف لإعادة الإعمار إلا أنه يحمل في ثناياه هدفًا آخر وهو التغيير  الديموغرافي عن طريق تهجير سكان المناطق الأصليين، واستبدالهم بعائلات من أطياف أخرى فما إن تم تفريغ مدينة داريا من ساكنيها عن طريق تهجيرهم قسرًا إلى الشمال السوري حتى خرج وزير الإدارة المحلية في حكومة النظام معلناً أن جزءًا من المدينة سيدمج في مشروع التنظيم خلف الرازي.

تفاصيل التغيير الديمغرافي في الشام

فيما كشفت صحيفة “الشرق الأوسط”  عن نقل 300 عائلة عراقية  شيعية إلى داريا بعد تهجير أهلها منها، وبالانتقال إلى الشريط الحدودي اللبناني السوري فقد قامت المليشيات الإيرانية اللبنانية بهدم و تدمير كل من القصير و يبرود وتهجير سكانها بالإضافة إلى فرض حصار شديد على كل من مضايا والزبداني انتهى بإخراج سكانها قسرًا إلى مخيمات اللجوء في الشمال السوري تاركين بيوتهم وممتلكاتهم و أعمالهم.

زيارة إمام لواء الحسين الشيعي إلى داريا

بالإضافة إلى إخراج سكان الهامة وقدسيا و التل وخان الشيح وبردى والمعضمية وغيرها… خوفًا من عودة نار الثورة من جديد بعد أنا أخمدتها معاهدات الذل مع النظام و للإنصاف حملات التهجير هذه بلغت عقر دار الشيعة في كفريا والفوعا حيث اقتلعتهم عنجهية النظام وأعوانه من مدنهم لتكمل البزل الناقص في سوريا الشيعية المفيدة.

و لنكن أكثر واقعية فحكاية التهجير القسري لم تنتهِ بخروجي من بيتي مرغمـًا لا أجرُّ خلفي سوى عار الخذلان تاركـًا بيتـًا مليئـًا بذكرياتٍ إن كانت لا تسمن ولا تغني من جوع إلّا أنّها تسمن بالغضب والكره و الطمع بالعودة لا للذكريات ولكن للثأر واضعـًا رحالي في  مخيمات الذّل واللجوء في الشمال السوري لا أحمل سوى حمم همومي أقتات من إغاثات منظمات تقتات بالشحادة على اسمي ناسيةً أنّنا شعبٌ بحاجةٍ إلى أكل العلم لا علف الدواب.

نحتاج إلى عملٍ لنعيد بناء انكسار أنفسنا أمام  وسم النازح الذي لن يفارقنا يومًا و سيذكرنا على الدّوام بالازدراء البشري المقيت الذي حوّل مصطلحًا عادلًا إلى وصمة عارٍ على جباهنا دافعًا البعض لركوب عرض الموت باحثًا عن الذّل إن كان لا محالةً ملاصقًا له فليكن في بلاد بعيدةٍ عن الموت. ودافعًا البعض الآخر إلى الانجرار وراء داعش لعله بذلك يسعى للتنفيس عن غضبه المستعر بداخله.

وبقي البعضُ حاملًا أحلامه والبندقية متناسيـًا حدود السياسة غير ناسٍ أنّه هُجِرَ ليُسمى نازحًا على أرض الأمّة الإسلاميةِ التي يقاتلُ باسمها. إنها ليست أزمة تهجير فقط بل أزمة هوية، وأزمةُ انتماءٍ. وأزمة ثأرٍ.

سأكسر قاعدة ميكافيلي هنا لأقول من عمق تجربتي أنه وإن اقتلعنا من أرضنا سنزهر في غيرها، لن نكون قوم تبعٍ، سنثور ونموت ولكن لن نركع.


مصادر

وكيبيديا الموسوعه الحرة

Iraq: Turkey, the Deployment of U.S. Forces, and Related Issues
تقرير الكونغرس بشان تركيا
وكالة اعماق – مجازر الطيران الترك

1-كتاب أميركا والإبادات الجماعية

3-كتاب الأمير لميكافيلي

4-نظام روما الجنائي للمحكمة الجنائية الدولية

5-اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949

-6قانون الجنسية البحرينية- 1963 وتعديلاتها

7-مديرية تنفيذ المرسوم التشريعي

66.damascus.gov.sy

منى العبَّار

حقوقية مهتمة بالشأن السياسي العربي والعالمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى