الفارق بین الاحتلال الإمبریالي والفتوحات الإسلامیة القدیمة
والفارق بین مركزیة المجتمع في النظام السیاسي في الإسلام، وبین صنمیة الدولة في النظم الحالیة، هو نفس الفارق بین “الفتوحات” وبین الاحتلال والتمدد الإمبریالي.
الفتح هو حركة عبور للأفكار، والأفكار یتبناها البشر، ولهذا فالبشر هم قبلة الفتوحات، الفتوحات تتجه نحو البشر حاملة رسالة إلیهم، والأفكار قد تحتاج في رحلة عبورها إلى قوة تكسر السلطة التي تعیق وصولها للناس، بینما الاحتلال هو بحث عن المصالح، والمصالح توجد حیث توجد الثروات، ولذا فالثروات هي قبلة الاحتلال، فالمحتلون یتجهون نحو الثروات بسلطة لا رسالة لها، بل قد یحتاج الاحتلال في رحلة عبوره إلى الثروات إلى قتل البشر واستعبادهم، وقد یحتاج إلى سحق الأفكار التي تعیق مصالحه حتى ولو كانت أفكار حق.
فلو افترضنا أن هناك جماعة من البشر یعیشون على أرض لا ثروات فیها ولا مصالح ولا یوجد لها أي میزة أبدا، فإن الاحتلال والتمدد الإمبریالي لن ینظر إلى تلك الأرض ولن یحرك ساكنا تجاهها، بینما سیتحرك الفتح لها برسالته حتى لو كان هذا سیتطلب أن یأتي الفاتحون بالثروات لأهل هذه الأرض من بعد فتحها، فالبشر هم قبلة الفتوحات! ولو افترضنا كذلك أن أهل أرض ما لم یقفوا أمام عبور فكرة الفاتحین ولم یواجهوها فإنهم یظلون أصحاب الأرض ولا تؤخذ منهم، بینما في الاحتلال فالقبلة هي الثروات بعیدًا عن أفكار الناس تمامًا وعما یعتنقونه.
في الاحتلال الإمبریالي هناك مركز تُصب فیه الثروات على حساب الأطراف والهوامش التي یتم احتلالها وسحق واستعباد أهلها، فالكل في خدمة الإمبراطوریة الأم، بینما لو نظرنا إلى خریطة المسلمین بعد الفتوحات ستجد أن كل بلد تم فتحها قد صارت مركزًا في حد ذاتها بل قد تنقلت عاصمة الخلافة أكثر من مرة في هذه الخریطة.
وأما الفارق التاریخي، فكل احتلال دخل أرضًا من الأراضي تم طرده منها حتى ولو مكث فیها مئات السنین، لأنه دخل بقوته المادیة فقط بلا أي رسالة، والقوة المادیة لا تدوم، بینما في حالة الفتوحات فنحن أمام شعوب اعتنقت دین الفاتحین، بل ولغتهم في كثیر من الأحیان، وذابت فیهم وصارت جزءا من أمتهم، ككل الدول العربیة والمسلمة الیوم، فأهل السودان أنفسهم هم من أسلموا، وأهل مصر هم من أسلموا، وأهل المغرب هم من أسلموا، وأهل الشام هم من أسلموا، بل وشاركت هذه الشعوب مع الفاتحین بعد ذلك في الفتوحات الجدیدة وتوصیل الرسالة للشعوب الأخرى، هذه هي الصورة المنضبطة للفتح، نقول هذا رغم أنه في العصور المتأخرة انحرفت قبلة التمدد وصارت في كثیر منها أقرب للتمدد العسكري الاحتلالي ولیس للفتوحات للأسف، وهو ما ضر الأمة بعد ذلك ولم ینفعها.
خاتمة:
ما ذكرناه كله یكشف لك زیف ما أسمیه محاولات ( أسلمة الواقع ) فالإسلام لیس بضعة شعارات یتم رفعها ثم ینتهي كل شيء، ولیس مجرد عمامة نرید أن نلبسها هذا الواقع الفاسد ثم نكذب على لله وعلى أنفسنا ونقول أنه واقع “إسلامي”، ولیس مجموعة أشخاص في السلطة سنقوم بتغییرهم بآخرین لهم لحیة بینما شكل الدولة والمجتمع والنظام كما هو، إن من یفعل ذلك ویوهم الناس أن هذا هو الإسلام فقد أجرم في حق الدین جرما كبیرا، كأولئك الذین تصالحوا مع الرأسمالیة ومع المنظومة النقدیة الدولیة ثم أزالوا الربا من البنوك فحسب وسموها بنوكًا “إسلامیة” ولا أدري أین الإسلام في هذا!
إن ما ذكرناه حول وجود نظام سیاسي في الإسلام له فلسفته المستقلة وتاریخه الخاص وتراكمه الحضاري یدركه أعداؤنا جیدًا، وهو بالفعل عین ما أشرنا إلیه عند الحدیث عن عناصر القوة في الإسلام فذكرنا أن أول عنصر هو (اكتماله القیمي والتشریعي).
وبذلك تكون قد فهمت بوضوح لماذا یضع أعداؤنا الإسلام نصب أعینهم في حربهم معنا، ولماذا سیستمر هجومهم الشرس علیه وستستمر محاولات تشویهه وتحریفه حتى وإن كانت حربهم حرب مصالح وسلطة، باختصار: الإسلام كان ولا یزال وسیظل یحمل مقومات إزاحتهم واستبدال حضارتهم، كما أنهم یعلمون أنه أقوى محرك فكري وعقدي لمقاومة هیمنتهم وهدمهم أطماعهم، ولكن بقي فقط أن نُعمل هذا الإسلام حقا في حربنا معهم.
اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية