ملف الاستعمار: اعتذار ملك بلجيكا ليس كافيا
هذا المقال ترجمة لمقال: Vu d’Afrique.Colonisation: les regrets du roi des Belges ne suffisent pas لكاتبه: Dabadi ZOUMBARA منشورًا على موقع: Le courrier international الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
تحتفظ القارة الأفريقية بماضٍ أسود يعجُّ بصنوف الانتهاكات التي طالت سكان هذه القارة، من تقتيل وتجويع واغتيالات وبؤس وحرمان، حيث لم يتوانى المستعمر في محقِ أو تشويه جل مظاهر الثقافية المحلية، وأن يُحلَّ محلها ثقافة بلد مستعمر، وطبعًا وهي المسألة التي تكررت في جميع البلدان الأفريقية، نهب المستعمر لثروات القارة الباطنية، حيث تعرضت الكثير من الأعراق الأفريقية للإبادة، وتعرض الإنسان الأفريقي للاستغلال البشع في أعمال شاقة، وساموه كافة سبل العذاب والترويع والإذلال والاحتقار وامتهان الكرامة، بل الأنكى هو استمرار هذا النهج بعد استقلال هذه البلدان، أو ما يعرف l’indépendance sous la dépendance، ولم يتغير الوضع البتة حتى بعدما آل حُكم تلك البلدان إلى أبناء البلد، بل لم تتغير الظروف العامة كثيرًا، واستمرت بشكل أسوء وأفظع تحت مسميات شتى، من قبيل تعزيز التعاون والاتفاقيات الثنائية وتبادل الخبرات والزيارات وغيرها من الرسميات.
ومما لا شك فيه أن الحادث الأخير الذي قضى فيه الشاب الأمريكي جورج فلويد نَحْبَهُ على يد شرطي أَشِرٍ، قد صبّ الزيت على النار، وغير من معادلات صعبة التغير دوليًا قياسًا بزمن التغير العادي، بل أنزل مسؤولي بعض الدول الأوروبية من قصرهم العاجي، وأضحوا يستميلون تعاطف الجماهير تارة بما يطلقونه من خطب لَوْذَعِيَّة، أو حينما يحاولون عبثًا إظهار نزر من التعاطف أو التنازل قليلًا أو التجاهل في كثير من الأحيان فيما يتعلق بتصفية مخلفات الاستعمار في بعض البلدان الأفريقية، والتصدي لموجات العنصرية وكراهية الأجانب، وما خروج ملك بلجيكا الأخير سوى خير دليل، وأيضًا خطوة إعادة الجماجم إلى الدولة الجزائرية من المستعمر الفرنسي.
لكن ما دلالة أو بالأحرى دلالات تغير هذا الموقف فجأة من قبل الجالس على العرش البلجيكي؟ وهل هذا الموقف منبنٍ على أسس واقعية أم هو مجرد ذر للرماد في العيون خاصة في الظروف الاقتصادية التي تعيشها أوروبا والعالم في ظل جائحة كورونا؟
بمناسبة حلول الذكرى الستين لاستقلال جمهورية الكونغو، قدم عاهل بلجيكا الملك فيليب، اعتذاره عن “الحقبة الأليمة” إبان استعمار هذا البلد. بيد أن كاتب العمود البوركينابي (المقصود كاتب المقال دابادي زومبارا وهو من دولة بوركينافاسو)، قد اعتبر هذا الاعتذار بمثابة نوع من “تكتيك ملكٍ يعيش مأزقًا صعبًا”.
احتفت جمهورية الكونغو الديمقراطية، في 30 من يونيو الأخير، بالذكرى الستين لحصولها على الاستقلال. وهي الذكرى التي عرفت حدثًا غير مسبوق، حيث انتهز ملك بلجيكا، الملك فيليب، هذه المناسبة للتعبير للشعب الكونغولي عن “عميق أسفه عن الآلام” التي قاساها إبان الفترة الاستعمارية لبلجيكا في دولة الكونغو؛ ولم يقف عند هذا الحد، بل توعد بالمضي قدمًا في محاربة “كافة مظاهر وأشكال العنصرية”.
وباعتباره حفيدًا مباشرًا للملك ليوبولد الثاني، فإن الأمر يستحق فعلًا؛ فكما لا يخفى على أحد، فإن الجد الثاني للملك فيليب، الذي اعتبر دولة الكونغو بمثابة ملكية خاصة له، واستغل ثرواتها الهائلة، كان من بين أكثر المستعمرين الذين حكموا جمهورية الكونغو الديمقراطية دموية. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنه اعتذار له وقعه فيما يخص تقديم واجب المواساة، وبقدر ما يكون صادقًا، ينبغي الإشادة به بما يناسب قدره من الأهمية.
علاوة على ذلك، نجد أن مستعمرين آخرين مارسوا أيضًا على العديد من الأفارقة أسوء وأفظع أشكال العنف، دون أن يُبدي أحفادهم من بعدهم أي شكل من أشكال الندم، وإبداء أقل اعتذار. وفي جميع الأحوال، فإن الاعتذار الذي عبر عنه الملك فيليب قد يساعد -سواء كثيرًا أو قليلًا- في التخفيف بعض الشيء من روع القلوب المكلومة لأحفاد قبائل البونتو (مجموعة عرقية أفريقية)، الذين شوِّهت جثث بعضهم خلال قيامهم بالأشغال الشاقة.
خطوة تكتيكية
ومع ذلك، علينا تجاوز مسألة مجرد تقديم الاعتذار، ومرد ذلك أن الجرائم التي أقدم على اجتراحها الملك ليوبولد الثاني في جمهورية الكونغو الديمقراطية لا يمكن التبرء منها بكل بساطة بمجرد الإعراب عن الأسف. وإذا أراد الملك فيليب أن يكون فعله كاملًا، فعليه فعل المزيد، لاسيما الوفاء بوعده القاضي بالتصدي بلا هوادة لموضوع العنصرية وكراهية الأجانب في بلده.
هي فقط محض استراتيجية ينتهجها الملك
وفيما يتعلق بجمهورية الكونغو الديمقراطية، فمن واجبه العمل على إنهاء كافة أشكال هيمنة المستعمر السابق على جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبصيغة أخرى، علينا القول بأن ملك بلجيكا يعمل فقط على احتواء تنامي موجات الحنق والغضب التي تجتاح العواصم الغربية، وذلك بُعَيْدَ مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد في الولايات المتحدة. أليس هذا ما يفسر ذلك؟ وعلى أي حال، فقد نجانب الصواب عندما لا نقيم صلة بين السبب والنتيجة، أي بين كل هذه الأعذار المقدمة، وتلكم المظاهرات المناهضة للعنصرية في جل بقاع العالم.
ونميل باعتقاد راسخ على أن هذه الموجات العارمة من السخط قد أدت إلى نبذ تماثيل الملك ليوبولد الثاني. ومن جملة ما يمكن أن نقول بأن ما قام به الملك فيليب قد كان بدافع الحماية والحفاظ على صورة الملك، أكثر منه اعترافًا بالخطيئة التي ارتكبت في حق شعب. وبلا أدنى شك، فقد كانت خطوة محسوبة بالفعل، ويتضح ذلك من التوقيت الذي تم اختياره.
فك الخناق
لماذا لم يقم الملك فيليب بهذا الأمر عندما تربع على العرش في سنة 2013؟ وما هي التدابير التي أقدم عليها للتصدي للعنصرية؟ في حقيقة الأمر، هذه محض استراتيجية ينتهجها ملك يعيش ظروفًا صعبة، ويحاول قدر الإمكان أن يفك الخناق المضروب حول الأسرة الملكية وأن يعطي دفعة للعلاقات بين بلاده وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي لم تكن على ما يرام خلال الثلاث سنوات الماضية.
فكما نعرف، بأن البلد الذي حكمه موبوتو سيسي سيكو (رئيس الكونغو الديمقراطية سابقًا)، لطالما اعتبرت بمثابة بقرة حلوب بالنسبة لمملكة بلجيكا. ولذلك بات الظرف غير مواتٍ، كي يخاطر الملك البلجيكي بالتصدي بشكل حازم للأمر، خصوصًا أن الاقتصاد البلجيكي يتلقى ضربات قاسية جراء مخلفات فيروس كوفيد-19، على غرار ما فعله ساكن قصر الإليزيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي رفض بشكل صارم إزالة التماثيل.
لكن من سيتحمل وزر هذه الأخطاء إذا استمرت بلجيكا في نهج معاملة جمهورية الكونغو الديمقراطية بشكل يطبعه التلطُّف المُتعالي؟ لا مراء أن هذا الأمر راجع أساسًا إلى المسؤولين الذين تعاقبوا على حكم هذا البلد الأفريقي، حيث أضحت جمهورية الكونغو الديمقراطية أشبه ما يكون بالفضيحة الجيولوجية، نظرًا لغنى ثرواتها الباطنية، ويصنف هذا البلد في خانة الدولة المفلسة في مجالات الحكامة والتدبير. لذلك فإن الاحترام أمر يُكتسب ولا يعطى.