سُنة الابتلاء
الابتلاء بصفة عامة سنة الله في خلقه من لدن أبيهم آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا مقرر واضح في تعبيرات القرآن الكريم، قال تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌۢ} [الأنعام:165]، وقال: سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7]، وقال جل شأنه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
والابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطًا وثيقًا لا انفصال بينهما؛ فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكِّن لأمَّة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المتنوعة والمتعددة والمختلفة عبر السنن الكونية التي كتبها الله، من جوع وخوف ونقص في الأنفس والثمرات، وبعد أن يصهرها مع دينها في بوتقة الأحداث الجسام ليميز الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية، أمة الاستخلاف، بعد الابتلاء والصبر والتمحيص عبر عصورها التاريخية المختلفة.
فقد شاء الله أن يبتلي المؤمنين ويختبر إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض؛ فهذه سنته في عباده، ولذلك جاء على لسان الإمام الشافعي، رحمه الله، حين سأله رجل: «أيهما أفضل أن يبتلى أو يُمكن؟ فقال: الإمام الشافعي رحمه الله بلسان الواثق: لا يُمكَّن حتى يُبتلى».
فانظر إلى سيرة أنبياء الله: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في الابتلاء والنصر والتمكين؛ تجدها واحدة لا تتبدل ولا تتغير.
إن الابتلاء وسيلة وطريق إلى تصفية نفوس الناس، ومعرفة المُحق من الناس المتمسِّك بدينه المنتمي لدعوته، من المنتمي اسمًا لا فعلاً الذي تقلعه أبسط هبة ريح تمر من جانبه. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
يقول صاحب الظلال رحمه الله عن الابتلاء: إنه الطريق الذي تمر به الجماعة التي تحمل هذه الدعوة وتتحمل تكاليفها؛ فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها بالصبر عليها من خلال الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة؛ فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالصبر. والصبر يحتاج إلى مكابدة ومجاهدة للثبات على هذا الطريق المحفوف بالابتلاء.
وفي هذا المعنى يقول أيضًا صاحب الظلال رحمه الله: وكذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقها وهم يرون الحياة جهادًا، ومزاولة علمية واقعية، وفي هذا المعنى يقول سيد رحمه الله: وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم ويتقبَّلوا ما يصيبهم في هذا السبيل؛ يعني: بقدر ما يضحوا في سبيلها بكل ما هو عزيز وغال فقد كان الفرد الواحد يقابل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتيه أمره أن يمضي إلى قومه يدعوهم ويصبر على تكذيبهم وفتنتهم وأذاهم وتنْكيلهم في بعض الأحيان؛ فيتابع دون كلَل أو ملل، بل بصبر ومجاهدة في طريق دعوته حتى يأتي بقومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعا.
تتوق النفس القوية إلى هذه العقيدة بروح الإسلام دون تردد لترفع درجاتها وتكفر عنها السيئات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة)). صحيح مسلم (2572).