التمكين ليس الهدف، بل العبادة

في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) تحديدٌ لهدف الوجود، بكل اختصار “العبادة”، الأمور الأخرى كلها أمور عندما تنظر إليها من منظور الآخرة تجد أنه لا قيمة لها. تحرير فلسطين مثلًا، لا قيمة لتحرير فلسطين عندما تنظر إلى الأمر من منظور حياتك الأبدية بالآخرة، إنما الأمر الوحيد الذي له قيمة هو إيمانك بالمنهج وحياتك وفناؤك على ذلك، السعي إلى تحرير فلسطين “لتكون كلمة الله هي العليا” هو فقط المطلوب منك وهو ما يجب أن تسعى له لكي تنال ثواب الجهاد، وليس النتيجة ولا النصر، بل فقط الإيمان والسعي، الإيمان الخالص لوجهه -سبحانه- وليس من أجل التمكين في الدنيا، الله لن يحاسبك أحررت فلسطين أم لا، بل هل سعيت لفعل ذلك بنية خالصة لوجهه الكريم أم لا.

هذه نقطة مهمة جدًا، فهي سبب من أسباب فشل الكثير من الأحزاب والأفكار والجماعات الإسلامية على مدار 91 عامًا منذ سقوط الخلافة، الكثير من الناس حاولوا إرجاعها، الكثير من الناس حاولوا إصلاح المجتمعات المسلمة، الكثير من الأحزاب حاولت وفشلت.. الله وعدنا بوعود كثيرة بالقرآن منها:

(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
(وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

ولكن هذه الوعود لا تتحقق؟ فأين المشكلة؟ في الواقع هناك أسباب كثيرة ولكن من بين هذه الأسباب هي أن الناس صارت لا تؤمن لمجرد الإيمان، بل تعبد الله وتتقرب منه لأهداف دنيوية أخرى سواء كان توفيق في أمرٍ ما أو تمكين من ناحية معينة أو نصر في معركة.. إلخ، ولو رفض الله إعطاءه ما وعده إيّاه، لاهتزّ إيمانه فورًا، فهو يعتقد أنه أوفى بوعده بينما الله سبحانه لم يفِ -حاشاه- ثم يدخل بحلقة مفرغة من الأحاديث النفسية.. “لما الله لا ينصرنا”.. “أين الله من كل ما يحصل لنا”.. “لماذا لا يتحقق لنا الفوز”..

غايتنا أن يرضى الله عنا

هناك حالات كثيرة للأمر فالله يتعامل مع كل نفسٍ بشرية على حسبِ إيمانها وأفعالها، لكن بشكل عام فعليك أن تعلم عزيزي المؤمن أن الثواب بالآخرة وابتغاء مرضاة الله وجهه الكريم هو ما يجب أن يكون هدفك لا غير، مثلًا في آية (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) فليست مهمتك أن تسعى لكي “ينصرك الله”، أنت مهمتك أن تسعى لكي تنصر الله وتنصر دينه، فقط لأجل ذلك، فقط لأجل مرضاة الله سبحانه، فقط لا غير، أنت لا تهتم بالنتيجة، ولا تسعى لها ولا يجب لك، بل تهتم فقط بإخلاص النية لله سبحانه، ولاحقًا كل الأمور ستأتي وحدها فعند ذلك الوقت، تتحقق وعود الله. وعود الله لا تتحقق لأي إنسان، بل فقط تتحقق لمن آمن مخلصًا عمله محتسبًا الأجر عند لله سبحانه.

طبق هذا الأمر على كل حياتك اليومية، أنت لا تصوم لأن الصوم مفيد للصحة، بل تصوم ابتغاء وجه الله، ولو أنك صمتَ لأن الصوم مفيد للصحة فحينها لا ثواب لك بالآخرة: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ).

بعض الناس صاروا يقومون بالعبادات فقط لأن لها فوائد دنيوية، يقرأون سورة الواقعة مثلًا مرة كل يوم لكي يرزقهم الله دون أن يبتغوا في ذلك الفضل والأجر من عند الله! بل يجعلون الفوائد الدنيوية هي أساس العبادات، إن لم يكن هناك فائدة دنيوية من العبادة فعلى الأغلب لن يفعلوها.

وهذا هو عين الخطأ وأسوء العمل; فالمؤمن الحقّ لا يبتغي الثواب بالدنيا، بل يعيش حياته بأكملها فقط لوجه الله سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أمّا من يعمل فقط من أجل الدنيا، فقد وصفه الله عزّ وجلّ قائلًا: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

وهنا وقع الكثير من الجماعات الإسلامية بالخطأ، فنحن عندما نجاهد في سبيل الله، لا نجاهد لهدفٍ دنيوي، لا لأجلِ إقامة دولة معينة أو تقسيم حدود أو توزيع غنائم أو أو.. بل لأن الجهاد عبادة، لأن الله أمرنا بالجهاد ولأن الجهاد وسيلة للتقرب من الله سبحانه، “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”، فقط، عدا عن ذلك فهو ليس جهادًا. ولذلك نحن لا نهتم بالنتيجة، نحن لا نهتم إن تحقق الهدف أمام أعيننا أم لا، نحن نهتم فقط بأن نؤمن بالمنهج الصحيح ونعمل على تحقيقه، أمّا إن انتصرنا أم لم ننتصر، ربحنا أم لم نربح، استشهدنا أم لم نستشهد، كل ذلك لا يهمنا، فنحن نقوم بالعبادة لغرض العبادة; لا للفائدة الدنيوية من وراء العبادة.

ختامًا

فاعلم أخي المسلم أن النصر في الدنيا، أو التمكين في الدنيا، أو الدنيا بأكملها لا يجب أبدًا أن تكون غاية مطلبك، فهذا ليس هدفك، بل هدفك فقط هو العبادة لله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) هدفك فقط أن تسير على المنهج، أن تسعى لتكون كلمة الله هي العليا، لا لفائدةٍ دنيوية أو جزاءً سريع تحصل عليه هنا، بل لثوابٍ كبير تلقاه في نعيمٍ أبديٍ بالآخرة.

المصادر

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى