الملاذات الضريبية.. الشعب يدفع والشركات الكبرى تجمع

جزر كايمان، جزر العذراء البريطانية، جزر البهاما، جزر بنما، سويسرا، هولندا ولوكسمبورج .. هذه الجزر والمدن وغيرها الكثير يُطلق عليها اسم “الملاذات الضريبية” أو “الأوف شور” في العالم التي نتناول دورها هنا.

في هذا التقرير نتناول كيف تتهرب الشركات الكبرى في العالم من دفع الضرائب وكيف تدفع الشعوب بدلا عنها، بل وكيف تستفيد من الضرائب هذه الشركات التي تتجاوز مبيعاتها مليارات الدولارات، مثل شركة “IBM” التي تجاوزت مبيعاتها الـ100 مليار دولار وفقا لتقرير 2015. وأبطال تقريرنا هذا هما جزر كايمان وجزء العذراء البريطانية.

ما هو المقصود بالملاذات الضريبية؟

هي دول ومناطق قليلة السكان تكون فيها الضرائب على أرباح الشركات منخفضة جدا وقد تصل إلى 0% كما هو الحال في جزر العذراء البريطانية، وتوفر هذه المناطق أيضا للشركات خدمة سرية المعلومات، إما عن طريق رفض تبادل المعلومات عن الشركات مع الدول الأخرى أو عن طريق عدم الشفافية في نظامها المالي. نشأت تلك المناطق كنتيجة لطبيعة النيوليبرالية الرأسمالية والنظام الضريبي.

ولا يبذل العالم مجهودا حقيقيا في سبيل القضاء عليها؛ ذلك بسبب النفوذ السياسي والتأثير الذي يتمتع به كبار المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال على القرارات الحكومية على مستوى العالم، أو بسبب أن أصحاب رؤوس الأموال هؤلاء أنفسهم سياسيين بارزين وأعضاء حكومات.

تستخدم الشركات هذه المناطق لعمليات التهرب الضريبي من البلدان التي تستثمر فيها حيث قد تصل الضريبة على الأرباح في بلدان استثمارها الأصلية نسبة 22.5% كما هو الحال في مصر.

كيف تستخدم الشركات الملاذات الضريبية للتهرب من الضرائب؟ وكم يبلغ حجم تلك الأموال؟

تُنشأ الشركة المستثمرة شركات وفروع أخرى لها وهمية في تلك المناطق، ثم تقوم الشركة الرئيسية بتحويل أرباحها من البلد الرئيسي الذي تعمل به إلى تلك الشركات الوهمية في مناطق الملاذات الضريبية مقابل خدمات استشارية غير حقيقة؛ فيتم بذلك حساب الأرباح الحقيقية التي ربحتها الشركة الرئيسية على أنها تكلفة ومدفوعات لقاء خدمات من شركات أخرى أجنبية، وبالتالي تقل كمية الضرائب التي تدفعها الشركة الرئيسية بنسب مهولة.

يلجأ البعض إلى وسيلة أخرى حيث يعيدون تلك الأموال مجددا إلى البلد التي يعملون فيها باسم الشركات والفروع الأجنبية المُنشأة في الملاذات الضريبية، فتدخل بذلك تلك الأموال تحت قسم الاستثمار الأجنبي الذي لا يخضع لنفس قانون الضرائب المحلي، وتُعرف تلك العملية باسم الاستثمار الدائري.

الشركات الوهمية التي يتم إنشاؤها في مناطق الملاذات الضريبية عادة لا يعمل بها أي موظفين ولا يوجد لها أي مكاتب أو مقرات حقيقية، فقط عنوان المقر الذي تتشاركه العديد من تلك الشركات الوهمية، ومثال على ذلك مبنى “أوجلاند هاوس” الذي يعتبر مقرا ل 12000 شركة في جزر الكايمان.

المشكلة أنه باستخدام تلك الملاذات الضريبية لا يتم سداد ملايين ومليارات الدولارات التي تسعى الحكومات لتحصيلها كضرائب، مما يترتب عليه عجز تلجأ الحكومات لتعويضه من خلال زيادة الضرائب على المواطنين، فترفع الضرائب على السلع والخدمات وتسن قوانين ضريبية جديدة تحصّل بها الحكومة مليارات الدولارات التي كانت ستأخذها من الشركات. سنورد في الفقرة القادمة حجم هذه الأموال التي تقوم الحكومة بأخذها من الشعب بدلا من الشركات في مصر.

يتم التهرب الضريبي للشركات باستخدام تلك الملاذات في جميع أنحاء العالم، وقد أشار تقرير صدر بعنوان “شروخ في القمة”[2] إلى قائمة تضم 50 شركة متعددة الجنسية في أمريكا تقوم بهذه العملية، وأبرز هذه الشركات هي شركة آي-بي-ام وشركة بركتور & جامبل وبنك جولدمان-ساكس، حيث وصل إجمالي ما تهربت منه هذه الشركات في الولايات المتحدة لحوالي 1.3 تريليون دولار بعدما أنشأت ما يقرب من 1600 شركة لها في تلك الملاذات الضريبية.

لا شك أن عمليات التهرب الضريبي تلك تؤثر على الولايات المتحدة كما تؤثر على باقي دول العالم، حيث أشار التقرير إلى أن هذه الشركات الخمسين حصلت على دعم من الولايات المتحدة بقيمة 11 تريليون دولار بين العامين 2008 و2014 والذي يعني أن هذه الشركات قد حصلت على 27 دولار في مقابل كل دولار دفعته كضريبة بعد تقليل حجم ضرائبها عن طريق الملاذات الضريبية. برغم ذلك فالولايات المتحدة لا تتخذ خطوات جدية في حلها للاعتبارات التي وضحناها من قبل.

الملاذات الضريبية والشركات في مصر

طبقا لمركز المعلومات والتوثيق التابع لوزارة الاستثمار المصرية فإن جزر الكايمان، أحد الملاذات الضريبية المعروفة، تأتي باعتبارها سادس أكبر دولة مستثمرة في مصر، وتسبق بذلك كلا من فرنسا وأمريكا في حجم الاستثمارات.

جزر الكايمان تبلغ مساحتها 264 كيلومتر فقط – أي ما يعادل ربع مساحة القاهرة- وعدد سكانها 56000 نسمة فقط[3]، فلا شك في ضوء تلك الأرقام أن تلك الاستثمارات القادمة من الكايمان منشأها ليس هناك، وإنما أتت هذه الاستثمارات عبرها عن طريق عملية الاستثمار الدائري التي أشرنا لها من قبل. ليست جزر الكايمان وحدها، بل يشتهر في مصر بين الشركات استخدام عدة ملاذات ضريبية، أهمها جزر العذراء البريطانية التي تحتل المركز الـ11 في نفس القائمة. وتذكر المصادر أن إجمالي عدد الشركات في مصر التي تستخدم هذه الملاذات الضريبية يبلغ 479 شركة.

أشارت وثائق بنما، والتي تعد أكبر عملية كشف وثائق في التاريخ، لتفاصيل امتلاك العديد من السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال على مستوى العالم لأسهم في شركات تنتهج عمليات التهرب الضريبي عن طريق الملاذات الضريبية. وقد حوكم عدد من الشخصيات واستقال بعضهم من مناصبه جراء تلك الوثائق. كان من بين من كشفت الوثائق عن تورطهم في مصر رجل الأعمال المعروف حسين سالم وجمال مبارك وعلاء مبارك وأحمد عز وصفوان ثابت والإعلامي عمرو أديب من ضمن حوالي 300 شخصية مصرية متورطة في هذا الأمر [4].

مصر من الدول التي يتحمل فيها الشعب تكلفة التهرب الضريبي للشركات بشكل فاجع. إذا ما نطرنا لموازنة 2013/2014 سنجد أن مجموع ما حصّلته الحكومة من أموال الضرائب هو 260 مليار جنيه، وإذا ما استثنينا ما دفعته كلا من هيئة قناة السويس والهيئة العامة للبترول الحكوميتين سنجد أن مجموع ما دفعته الشركات هو 25 مليار جنيه فقط! والباقي تم تحصيله كضرائب من الشعب. يمكنك أن تقرأ هنا مثالا لمشاريع كلا من جمال وعلاء مبارك للملادات الضريبية والملايين التي حصلوا عليها من أموال الضرائب التي يتم تحصيلها فيما بعد من الشعب [5]، [6].

يمتد أثر الملاذات الضريبية على الشعوب في اتجاه آخر غير زيادة الضرائب بشكل كبير، وهو أثرها على المشاريع الصغيرة والمتوسطة؛ حيث لا يمكن لأصحاب تلك المشروعات بناء تلك الشبكات المعقدة من الشركات الوهمية في مناطق الملاذات الضريبية مما يقلل من فرص وإمكانية منافستهم للشركات الكبرى في نفس المجال مما يؤدي في آخر المطاف إلى موتها عدم قدرتها على المنافسة، وخطورة هذا هو أن تلك المشروعات تمثل الجزء الأكبر من الناتج المحلي المصري، كما أنها المشغل الأساسي للعمال المصريين.

بالإضافة لهذا فالضرائب التي تدفعها تلك المشروعات لا تدفع حتى مثلها الشركات الكبرى في نفس المجال، فوفقا لدراسة وجد أنّ المشروعات التي يقل حجم أعمالها عن 2 مليون جنيه دفعت ما يبلغ قيمته 28% من أرباحها كضرائب، في حين دفعت الشركات التي بلغ حجم أعمالها اكثر من مليار جنيه 3.5% فقط من أرباحها![7]

ظاهرة عالمية نتاج للنظام المالي والضريبي

لا يقتصر استخداما مناطق الأوف-شور على الشركات في الدول النامية فقط كما أوضحنا. ولا تقتصر الملاذات الضريبية على بعض الجزر المعزولة فقط، فعدد الملاذات الضريبية في العالم يبلغ أكثر من 80 ملاذ ضريبي منتشرين في أوروبا وآسيا وأفريقيا والأميركيتين. فسويسرا ولوكسمبرج يعتبر أشهر وأقدم الملاذات الضريبية في العالم. وهولندا بلغ اقتصادها من الملاذات الضريبية فقط حوالي 18 تريليون دولار، وهو 4 أضعاف الناتج الإجمالي لهولندا.

يتضح من ذلك أن اقتصاد الملاذات الضريبية اقتصاد كبير تقوم عليه مدن وربما دول. فبريطانيا مثلا تضم عدة مناطق معروفة من مناطق الأوف-شور مثل: جرسي، وجورنزي، وآيل أوف مان، جزر كايمان، برمودا، فيرجين، الترك وكايكوس وجبل طارق. وهناك مناطق أمريكية مثل جزيرتي مارشال وبنما [8].

يتضح مما سبق أن ظهور هذه الملاذات الضريبية هو نتاج طبيعي للسياسات الرأسمالية والنظام الضريبي العالمي، حيث لا قيود على عمل الشركات والأفراد ولا على السياسات المالية للدول طالما كانت تحقق أرباحًا طائلة كما هو الحال في هولندا وبريطانيا التي تسيطر على العديد من تلك المناطق.

المصادر

خالد أحمد

كاتب مهتم بقضايا الأمة الإسلامية والسياسة الدولية والشأن الخليجي، أكتب وأسعى من أجل الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى