اقرأ باسم ربك الذي خلق 

القرآن الكريم، هو نعمة الله التي أتمها على العالمين، وميثاقه الغليظ الذي واثق به المؤمنين، وأمرهم باتباعه والعمل بأوامره، وتدبر سوره وآياته، وتبليغه للناس كافة. فالقرآن المجيد هو وحده القادر على أن يعيد بعث الإنسان من جديد: قيمه واتجاهاته: مفاهيمه وأساليبه، وأعماله وأفكاره، وبالجملة كل تفاصيل حياته ليُنشِئَه خلقًا آخر. هكذا كان في زمن الرسالة الأول، وما زال قادرًا في زمان الناس هذا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، إن أحسنّا التعامل معه وفق منهجية: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1].

وقد كانت الفترات التي كانت صلتنا بالقرآن قوية فيها هي النجوم المضيئة في تاريخنا، كما كانت الفترات العصيبة في حياة أمتنا هي تلك الفترات التي فقدت فيها أمتنا صلتها الصحيحة بالقرآن. فمن يدرس فترات النصر وفترات الهزائم والانكسارات، سيجد مصداق ما نقول، فقد أثبتت هذه وتلك أن هيمنة القرآن أو فقده لهذه الهيمنة على مناهج التفكير والسلوك والفعل، عبر قراءة تدبرية عاقلة مؤمنة له، هي المحددة لأوضاع المسلمين علوًا وهبوطًا، تقدمًا وتأخرًا، قيادةً أو تبعيةً، فاعلين أو مفعولاً بهم.

فماذا فعلت أمتنا بما ورثته من هذا النور المبين؟ وإلى أي مدى أفلحت مؤسساتنا الموروثة أو الحديثة في تطوير تدبرنا وتعقلنا وتطبيقنا وتبليغنا للقرآن المجيد؟

في هذا المقال، مقارنة سريعة بين جيل التلقي الأول وأجيالنا الحديثة، لنتبين الفروق، ونحاول تلمس طريقنا نحو القرآن من جديد.

جيل اقرأ الأول

جيل اقرأ

لقد كانت (اقرأ) منذ نزلت على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في غار حراء في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان الكريم -ومازالت- عهد بين الله والرسول، وبين الله وكل مؤمن، على الولادة من جديد، والخروج من الظلمات إلى النور، ومن الخمول والانعزال، إلى الاشتباك مع الحياة ومخالطة الناس منطلقين من منهجية: (اقرأ وربك الأكرم): مثل الغيث الذي يحيي الأرض، ليحييَ الناس بالقرآن المجيد: الحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (٥٠)} [الفرقان].

فعندما، نزل نور الحياة، في مكة على قلب الرسول الأمين، انفتحت بـ(اقرأ) “شهية المعرفة” على مدى العمر لدى كل مؤمن، ولكل أنواع المعارف. وصارت المعرفة والتعلم بعد (اقرأ)، واجبًا، وعادت حقًا لكل إنسان. 

فـ(اقرأ)، كانت هي البيان العالمي الأول للمعرفة التي يجب أن يمتلكها كل البشر. فقد صار بإمكان كل شخص أن يتعلم القرآن. وقد تجلت الحالة المعرفية التي أشاعتها (اقرأ) “القرآنية” تلك في هذا المجتمع، في الالتزام الذي رسّخه القرآن في أمة المسلمين بمهمتهم في تنوير عالمهم، فكان المسلمون طليعة الأمم الذين وفروا المعارف والقراءات للخلق أجمعين، عبر التزام (اقرأ)، فنقلوا القرآن إلى حيث آخر جهدهم وطاقتهم، وحفظوا تراث الإنسانية من الضياع ونقلوه للعالم دونما مَنّ أو احتكار.

لقد جعل القرآن المعرفة قيمة القيم؛ فسورة العلق تعيد صياغة العالم والفرد والأمة من جديد: قيمه وتعاليمه ومنهجه في تناول الأمور والتعامل مع الحياة والأحياء. فالقرآن كان هو القاعدة لأداء وظيفة الاستخلاف وتحقيق العمران في الأرض، ومن (اقرأ) صار للإنسان سنَد معرفي وأخلاقي لبناء حياة طيبة.

 ولعل في كلمات رِبعي بن عامر رضي الله عنه، ذلك البدوي البسيط ما يدلنا على عمق التحول المعرفي والعملي في النظرة للحياة الذي أحدثته (اقرأ) في نفوس العرب: فقال له رستم قائد الفرس في موقعة القادسية: «ما جاء بكم؟» فقال له: «لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر». فقال له رستم: «قد تموتون قبل ذلك». فقال: «وعدنا الله أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا».1 

رباعية: اقرأ، ولا تطعه، واسجد، واقترب

عالم القيم القرآنية، التي ولدت في ليلة مباركة من شهر رمضان، أنتج رباعية إيمانية معرفية عملية تتمثل في هذه الكلمات المفتاحية: اقرأ، ولا تطعه، واسجد، واقترب؛ رباعية مترابطة في البيان القرآني المعرفي العملي. فعبر (اقرأ باسم ربك): يعلمك الله ما لم تكن تعلم من وسائل السيطرة على حياتك. ويدلك على طرق التخلص من عيوب نفسك، ومن المستبدين والمفسدين، ويعطيك القدرة على مقاومتها ومقاومتهم، ومداواتها وهزيمتهم، فما يقومون به من أفعال وما يأتون به من أساليب كلها خاطئة كاذبة لا قرار لها ولا قاعدة، في مواجهة “اقرأ وأخواتها”. 

أما (لا تطعه): فهي تشير إلى أثر اقرأ باسم ربك، التي تنبه إلى حاجة الإنسان للعلم ليحمي نفسه وأمته والإنسانية كلها من الجهل والجاهلين المتكبرين؛ فوجوده في العالم هو عملية تعلم وهو يتوقف عليها. وعندما ينقص العلم، بتغييب القراءة أو تسطيحها، يبدأ الاستغناء والكبر والمنع، وتظهر الأثرة ومعها الكبر والمنع والنهي عن المعروف، فيعلو المستكبرون من طواغيت السياسة، وقارونات المال، وسحرة الثقافة والإعلام، ليحدثوا توترات سلبية داخل المجتمعات، توترات غير مقبولة تصب كلها في خانة منع الخير والإيمان، وبما لها من آثار مدمرة على الأفراد والمجتمعات. وهنا يأتي دور القراءة باسم ربك، لتنبه قوى النفس والعقل والروح، على الاعتراض على هذا الظلم، وعلى هؤلاء الظلمة، وتنبهنا على كيفية التعامل معهم ولفظهم من مجتمعاتنا المؤمنة. 

(واسجد واقترب): هي الحصن الذي يحمي المعرفة، ويزكيها ويقويها، ويجعلها فعلًا في الواقع اليومي. فاختلاط المعرفة التي توفرها (اقرأ باسم ربك) بالإيمان المستسلم لله المقترب منه والذي تعبر عنه (واسجد واقترب) أفضل تعبير، لا تجعل ثمة مجاًلا للإذعان أو الاستسلام لسَدَنة الاستبداد أو قارونات المال أو النفاثات في عقد البشر ممن يفرقون ويمزقون النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمعات. 

وشبكة علاقات المجتمع الأول: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي نسجتها آي القرآن من منطلق هذه الرباعية، خير دليل على ذلك.

ماذا حدث؟

تدبر القرآن

يختلف الوضع الحالي لـ(اقرأ) عن تجربة الجيل الأول، فقد جرت في نهر الإسلام مياه كثيرة واعترض مجرى النهر صخور كبيرة، وسد مجراه أخطاء أجيال، فرطت في تدبر القرآن، والانطلاق من رباعية (اقرأ) مما أنتج تباعدا خطيرا -في واقعنا الراهن- عن القرآن المجيد وتدبره على الهيئة التي أنتجت جيل التلقي الأول. صحيح، إننا مررنا بهذا الموقف مرات عديدة في تاريخنا، واجتازت الأمة كثيرًا منها، لكن بقيت آثارها تتابع وتتراكم حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من أحوال متغيرة تمام التغيّر عن ما مضى. 

ومن هنا، فإن الفجوة الحالية، بين أجيالنا الجديدة وبين قرآننا المجيد، لن يتسنّى عبورها، إلا بمناهج جديدة في الفهم، ومؤسسات حديثة تخاطب هذه الأجيال بما تفهمه، دون أن تضحي بمعاني القرآن ومراميه وغاياته. فقد أضافت أساليب الحياة الحديثة، حاجزًا كبيرًا وسدًا منيعًا بين الأمة وقرآنها: كالإنترنت وغيره من الفضائيات، والسلوك الاستهلاكي، وتسارع إيقاع الحياة والانشغال بل الانغماس التام في الجري وراء لقمة العيش. وصار يتهددهم خطر أن يتحولوا إلى متفرجين على قرآنهم، أو على أفضل تقدير مجرد قارئين له قراءة تعبدية لذاتها لا تغني ولا تسمن من جوع أمتنا للنهوض والشهود الحضاري، في ظل اغتيال لغتنا العربية وتدني مستويات القراءة والتفاعل مع القرآن لحدودها الدنيا. 

خطوة على الطريق

إن تباعد الأجيال الجديدة من المسلمين عن القرآن لن يتوقف إلا عبر: تعظيم قيمة التعامل المباشر لأبناء المسلمين مع القرآن وتيسيره للذكر، وكسر كل الحواجز بين أجيالنا الجديدة وبين التعامل مع القرآن والنهل من معينه كل بقدر فهمه، فهذه هي البداية الصحيحة -من وجهة نظري- إن أردنا عودة أجيالنا الجديدة للقرآن المجيد: تقرؤه وتتدبره وتقوم به، كما قام الجيل الأول الذي كان لهم بالقرآن “دوي كدوي النحل”.2

ويحتاج، هذا الأمر، إلى جهود كبيرة من مؤسساتنا الاجتماعية والثقافية الحاملة لرسالة القرآن. وعلى كاهل هذه المؤسسات، يقع واجب البحث عن الوسائل والأفكار والتطبيقات المقروءة والمسموعة والمرئية التي تجعل القرآن قريبًا للناشئة والشباب بما يؤدي إلى اجتذاب الشباب والأطفال من الجنسين؛ لتدبر وفهم القرآن بلغته ولسانه، بتعديل الطرق والأساليب العتيقة والتقليدية التي انتهت إلى إحساسهم بالعجز عن التفاعل المباشر مع القرآن. 

خاتمة

حلقات القرآن

لقد اتخذ تعلم القرآن وتعليمه، سبلًا متعددة وأشكالًا كثيرة، وأثبت مقدرته على التكيف مع الظروف المتغيرة واضعًا لنفسه أهدافًا واستراتيجيات جديدة في كل مراحل تاريخنا على حسب اجتهاد كل جيل. 

لكن، ما يجب أن ننتبه له اليوم، في شهرنا هذا، في حالتنا هذه، هو الدعوة لمراجعة وإصلاح طرق تعاملنا مع القرآن وقراءته، فالأزمة الحالية في تعاملنا مع القرآن وتدبره وقراءته، تختلف عن أزمات الماضي. وتحديات العصر الحالي، تسدد ضربات قاسية إلى لب فكرة (اقرأ) التي صاغت وصبغت الجيل الأول من المسلمين، وحفظت المؤسسات التي قامت حولها، والتي صمدت طويلًا قديمًا: كالكتايب، والمؤسسات التعليمية الدينية التقليدية، والتي هي الآن محل اتهام وتساؤل ومحاولات لوأدها.

وأنا، شخصيًا، لم يكن في مقدوري كتابة هذه الكلمات، والتعبير عن هذه المخاوف، لولا أن والدايّ دفعا بي صغيرًا إلى كتّاب سيدنا الشيخ عبد الحي رحمه الله الذي تولى رعايتنا وتعليمنا: كيف نقرأ ونحب كتاب ربنا ونتعلم لغتنا؟ وكيف ننطقها ونكتبها بإخلاص وتجرد لا مثيل لهما؟ ثم تلقاني أستاذي شعبان سيد -بارك الله في عمره- في المرحلة الابتدائية، فتعلمت منه العلم والعمل معًا، وأحببت لغتي وقرآني، وعرفت معنى الإخلاص للأمة والتفاني في خدمتها. ثم تغمدني الله برحمته فقرأت كتب شيخنا محمد الغزالي رحمة الله عليه وحضرت محاضراته فتعملت معنى الشهود الحضاري والاستخلاف وأمانة الأمة التي نتحملها. لقد أدى هذا الجيل دوره، فأين دورنا نحن مع أبنائنا؟!

إنني أعاني الأمرَّين مع أبنائي لتعليمهم وتفهيمهم القرآن وأن يعملوا به، وأظن أن غالبية المسلمين اليوم -إن لم يكونوا كلهم- يعانون كما أعاني في تربية أبنائهم على القرآن، وقراءته القراءة الحقة التدبرية التي تخرجهم مسلمين مستخلفين يقومون بحق ربهم وحق أمتهم وحق البشرية عليهم، ويحققون لنا الحياة الحرة الكريمة الطيبة التي نطمح إليها جميعًا. 

إن الأزمة تأخذ بخناقنا جميعًا، والقدرة على البقاء بعيدًا عن قراءة القرآن وتدبره عبر منهجية (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ليست في صالحنا على الإطلاق. ولا يمكن إعفاء جموع المسلمين من هذه الأزمة، فكلنا مدانون، وكلنا مطالبون بالسعي في حلول لهذه الأزمة بالقول والعمل والبذل والإنفاق. 

دعوني أؤكد أن الاستبدادية المتحالفة مع الرأسمالية المتوحشة، والعصبيات المنتنة، والجماعات الوظيفية التي تمتلئ بها مجتمعاتنا وأجهزة حكمنا ونقاط ارتكاز اقتصادنا واجتماعنا وثقافتنا، لا تحلم فحسب بدفع القرآن بعيدًا عن عقولنا وقلوبنا، وإنما تحلم بتغطيته تمامًا عبر طمس معالم لغتنا وثقافتنا، حتى لا يكون له أي وجود في أجيالنا القادمة، وتُوكَل أمانة حفظه وتحكيمه إلى عامة الناس على شكل مسؤوليات فردية، وقد تحلل الفرد من لغته وعقيدته، فلا يجده سوى تمتمات أو أحجبة أو غيرها؛ إن كان للتمتمات والأحجبة مكان في عصر “الحداثة السائلة والأسطورة وانتشار التفاهة”.

إنني أكرر، أخيرًا، إن الصراع على المستقبل في بلادنا، يبدأ من القرآن وينتهي عنده. فالقرآن هو الحافظ للعقيدة والشريعة والتاريخ واللغة والهوية الجامعة والأخلاق العالية، وهو وحده القادر على إشعال الحماس، وبذل المال والروح في غالبية أبناء الأمة وجمعهم على مشروع حضاري مستقل، نحقق به عزتنا وكرامتنا وشهودنا على العالمين، عبر رباعية (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

هامش

  1. ابن كثير: البداية والنهاية، مصر، دار السعادة، ج 7، ص 39، 1920. ↩︎
  2. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ…)) [مسند أحمد: 228]. ↩︎

عماد الدين عويس

باحث في الشؤون الدينية والسياسية، باحث دكتوراه في السياسية العامة، له مؤلفات عديدة من مقالات… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى