صفحات من دفتر الالتزام: لكل نفس طبيب ولكل فارس كبوة
النفس البشرية بحد ذاتها علمٌ معقدٌ له أسرارُه وقواعده، قد برع الإمام العلامة ابن القيم الجوزية -رحمه الله- في دراسته وتحليله والغوص في أعماقه، فلن أجد أفضل لك مِنْ كُتُبه التي تتناول هذه النفس بالتشريح والتفصيل والتشخيص والتطبيب.
لم أجِدْ أروع وصفًا من كتب ابن القيم لخبايا النفوس رغم تعقيداتها ولأسقام القلوب رغم تنوعها، وقد ترتاح لغيرها ولكنني أرى في مجموع كتبه الزادَ الكافيَ لكل مقبلٍ ومسابقٍ… أرى فيها خلاصةً عبقريةً استقَتْ من مَعين القرآن والسنة واجتهدتْ في اختصاصٍ قلما يتخصص فيه أهل العلم.
هو اختصاص الطب النفسي، الطب الروحي، طبٌّ يحلل لك نفسك كصفحات الأطلس أو موسوعات التشريح… كخرائط الجغرافيا ومخططات الطوبوغرافيا، كمعادلات الكيمياء أو فزيوباتولوجيا[i] المرض، يبسط لك كل التغيرات التي تمر بها، والمؤثرات التي تتفاعل معها، يفصل لك أسباب الداء وأعراضه، ويصف لك العلاجات وسبل النجاة.
لقد لخَّص ابن القيم للملتزم الجديد وكذا المُسابِق للعلياء، برنامج الأشقياء وبرنامج الأتقياء، وفصَّل كل برنامجٍ بدقائقه وحقائقه، لندرك كيف يصل بصاحبه للشقاء أو إلى السعادة.
وحقًا إنها السعادة أن تكون مدرِكًا بوضوحٍ لتفاصيل نفسك ومكامن القوة فيها ونقاط الضعف فتقودَها بإدراكٍ تامٍ ومعرفةٍ لخير السبل وأقوَمِها.
في هذه المسيرة المباركة قد تشعرُ بالوهْن فجأةً أو بعض الزلل، قد يتراءى لك ذنبٌ فيحبطك ويُثنيك عن العمل، فابحث عن البداية من أين كانت، وحاول أن تشخص الداء وتقدم له الدواء.
وتأمَّل كيفَ شخَّصَ عبقريُّ طب النفس ابنُ القيم فزيوباتولوجيا الزلل وطريقة علاجه حين قال: “أول ما يطرق القلبَ الخطرةُ فإن دفعها استراح مما بعدها وإن لم يدفعها قَوِيَتْ فصارت وسوسةً فكان دفعُها أصعب فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوةً، فإن عالجها وإلا صارت إرادةً فإن عالجها وإلا صارت عزيمةً، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يُمكِن دفعها واقتَرَن بها الفعل، ولابد وما يقدر عليه مرةً بدون مقدماته وحينئذٍ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح ولاريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله -إن ساعد القدر وأعان التوفيق، وإن الدفع أولى به، وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب، فليوازن بين فَوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكِد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه البتة، لا في قدْره ولا في بقائه، وليوازن بين ألم فَوْته وبين ألم فوت المحبوب الأخس، وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى والتنعم بحبه وذكره وطاعته ولذة الإقبال على الرذائل والإتيان بالقبائح، وليوازن بين لذة الظَفَر بالذنب ولذة الظفر بالعدو، وبين لذة الذنب ولذة العفة، ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو، وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوِّه ورده خاسئًا ذليلًا، وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبين مراده، وبين فَوْت مراده وفوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه وفوت حُسن جزائه وجزيل ثوابه، وبين فرحة إدراكه وفرحة تركه لله تعالى عاجلًا وفرحة ما يثنيه عليه في دنياه وآخرته والله المستعان”.
وتأمل معي كيف يجلِّي ابن القيم في “أمراض القلوب وشفاؤها” المفاهيم حول زيادة الإيمان ويشرح السبل المنجية حين يقول: “فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكلما فعل العبد الطاعة محبةً لله وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا منه، قَوِيَ حبُّه له وخوفه منه، فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره، وهكذا أمراض الأبدان فإن الصحة تُحفظ بالِمثل والمرض يُدفع بالضد، فصحة القلب بالإيمان تُحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذيةٌ له كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا إن كل آدِبٍ (صاحب مأدبةٍ) يُحب أن تؤتى مأدبتُه، وإن مأدبة الله هي القرآن والآدب المضيف فهو ضيافة الله لعباده آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وفي أدبار الصلوات، ويُضَم إلى ذلك الاستغفار فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متَّعه متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمًى ولْيتخذ وردًا من الأذكار في النهار ووقت النوم، وليصبر على ما يعرِض له من الموانع والصوارف فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروحٍ منه ويكتب الإيمان في قلبه، ولْيحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنةً وظاهرةً فإنها عمود الدين وليكن هِجِّيراهُ (ما يولع بذكره) لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه بها تُحمَل الأثقال وتُكابَد الأهوال ويُنال رفيع الأحوال، ولا يُسأَمُ من الدعاء والطلب فإن العبد يُستجاب له ما لم يعجل، فيقول قد دعوتُ ودعوتُ فلم يُستجَب لي، ولْيعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرَجَ مع الكرْب وإن مع العسر يسرًا ولم ينَلْ أحدٌ شيئًا من ختم الخير نبيٌ فمَنْ دونَه إلا بالصبر والحمد لله رب العالمين”.
وتأمَّل هذه الهمسة التي تحمل عمق نظرٍ وبصيرةٍ وتبصُّرٍ في فن علاج النفوس حين يقول ابن القيم: “وههنا نكتةٌ ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة فالعبادات والأذكار والتعوذات أدويةٌ لتلك الأخلاط كما يثير الدواء أخلاط البدن فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حِميةٌ لم يَزِدْ الدواء على إثارته وإن أزال منه شيئًا ما، فمدار الأمر على شيئين: الحمية واستعمال الأدوية”.
إن الحديث عن أمراض القلوب وأنواعها وأدويتها، والتعمق في خبايا النفوس وأسرار طبيعتها وحفظها وكذا أخطار الشياطين وطُرُق التصدي لها وقهرها، فضلًا عن طُرُق السعادة والرُّقي والفَلَاح، كل هذا وأكثر ستجده مبسوطًا في كتب ابن القيم، وما أدرجْتُه هنا إلا لأني أعتقد أنه من الكتب الأولى التي عليك العناية بها لتعرف نفسك فتقويها وتحصِّنها من كل اختراقٍ وترتقي بها إلى درجات السعادة.
ولا شك أن أمامك الكثير من الكتب النافعة ولكن الوقت لا يسمح لقراءتها كلها لهذا كن ذكيًا في انتقاء الأفضل والأكثر نفعًا لك، ما يختصر عليك الطريق ويزودك بالزبدة وأصل العلم، وحين نتحدث عن باب الالتزام فإنه من الصعب أن ندرك كنهه دون الدراية بماهية هذه النفس وطبيعتها وتصنيف القلوب وأمراضها وعلاجاتها، إنه علمٌ مثل كل العلوم، له قواعده ومصطلحاته ونظرياته ومفاهيمه.
أرأيت طبيبًا يعالج مريضًا دون درايةٍ كاملةٍ بتفاصيل جسمه وأنواع الأمراض والأدوية، وكذلك النفس البشرية كلما تعلمتَها كلما استطعت أن تسوسها بحكمةٍ وبصيرةٍ، وهكذا يسوس الخيَّال فرسه، فلا تقوده هي لما تريده من طرق قد تكون مهلكةً تلقي به من مكانٍ سحيقٍ، أو تقف به عند مسالكَ مسدودةٍ، إنما يوجهها هو كما يريد إلى الأهداف التي يريدها فيختصر الطرق ويحقق الأهداف المرجوة.
وهو مع ذلك يسوقها براحةٍ تامةٍ لأنه ممسكٌ بلجامها فيشدُّه تارةً ويُرخيه أخرى، يُسرع تارةً ويتأنى في الأخرى، يتوقف تارةً ويمشي على بركة الله تارةً أخرى، وهكذا إن حصل ووَثَبَتْ فرسُه أو أوقعته فلكل فارسٍ كبوةٌ، علِمَ كيف يقوم من سقطته وكيف يركب من جديدٍ بعزم من حديدٍ، وتعلم من خطئه وتفرَّس في طبائع فرسه فكان خير خيَّالٍ يعرف طريقه ويحسن المسير، ومن علم أبصر ومن أبصر هانت عليه الطريق!
تأمَّل نفسك الآن، لقد أصبحتَ تدرك عظمة الله سبحانه وتعالى في خلق هذا الكون وهذه النفس البشرية، أصبحت تُلِم ببعض الحكمة من هذا الطريق الذي يتصارع فيه الحق والباطل والخير والشر فيُمتحَن المؤمن ويُمحَّص المسلم ويُسابَق المحسن، ويفوز السعيد ويتأخر المقتصد، ويخسر الظالم لنفسه. لقد أدركت اليوم ما معنى جهاد النفس واجتهاد المقبل، وترسَّخ لديك أن كل نعمةٍ منه فضلٌ، وكل نقمةٍ منه عدلٌ!
وكلما زاد علمك زادت حكمتك وقَوِيَتْ بصيرتك وعرفتَ أصل السعادة، قال ابن تيمية: “السعادة هي أن يكون العلم المطلوب هو العلم بالله وما يقرِّب إليه”. وصدق حين قال: “العبد دائمًا بين نعمةٍ من الله يحتاج فيها إلى شكرٍ، وذنبٍ منه يحتاج فيه إلى الاستغفار”. فاشكره على نعمه واستغفره من تقصيرك وزللك”.
ولا تتعجب إن رأيت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أكثر نجمين لمعا في سماء الكتابة عن النفس ومحبة الله، فقد أرجع ذلك المتبصرون إلى كونهما ذاقا لذة حب الله في مراتبها السامقة، فتمكنا من وصفها أعجبَ وصفٍ، وهذا من فضل الله عليهما، فتأمل معي، هل يصف أحدٌ وصفًا لم يعرفْه وهل يبرَع في وصفٍ لم يُدركْه، هكذا استطاع الشيخ وتلميذه أن يطأ الثريا وينقلا ذلك الرقي في الشعور إلى صفحاتهما لعله يلخص جزءًا من روعة عالَمٍ لم يعرفه إلا القلة من العباد، ذلك بأن محبة الله سلم درجاتٍ، يرتقي فيه المرء بحسب اجتهاده وفضل الله عليه.
وإن وقعت في زللٍ، أو تعثرت في الخطى، فلا تُحبَطْ ولا تحزن فإن لكل فارسٍ كبوةً ولكل نفسٍ طبيبًا، فابحث في كنز الحكمة والعلم الذي خطَّه ابن القيم، وانظر كيف هي نفسك وأين الداء وما هو الدواء، وتوكل على الله يَحْدُوكَ:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
المصادر
- الفزيوباتولوجيا: هي فرع من الطب، يعنى بدراسة طبائع الأمراض والتغييرات التركيبية والوظيفية التي تقترن بمختلف الأمراض، وما تحدثه الأمراض في الأنسجة من تغييرات، أو ما تستثيره فيها من رد فعل وتغييرات يضمن ظواهر شتى؛ كالتحول والضمور والتضخم والالتهاب.