الإمام الشافعي وما بعد الحداثة
الحداثة وما بعد الحداثة
بعد تخلي أوروبا عن الهوية الدينية إثر التحولات التي انتقلت بها من العصور الوسيطة إلى عصرها المادي، وقع حصر تعريف القيمة في حدود المادة، ولم يعد هناك اعتراف بكل ما يتجاوز المادة، ولا اعتبار لتلك القيم، فالحقيقة انفصلت عن القيمة، وانفصلت بالتالي الأخلاق عن القيمة، وألَّه الغرب العقل، باعتباره أرضية تقف عليها الحداثة، بالتالي تحوَّل الإنسان ذاته إلى كائن مادي يتفاعل تفاعلا ماديا مع ذاته وغيره وكلِّ ما حوله، ومع اكتشاف الانسان لبعض القوانين الطبيعية، سعى إلى تضييق المجهول مقابل توسيع المعلوم، متوهم بأنه سيصل لمرحلة العلم الشامل، والتي يصل معها إلى السيطرة الكاملة على العالم والتحكم الدقيق بكل ما فيه، وعلى هذا بنيت أطروحة موت التاريخ وغيرها.
لكن عصر الحداثة لم يف بوعوده التي أطلقها أنبياؤه، والتي عاش الغرب عقود في مجالها التنظيري، بل وقع عكس ما توقع هؤلاء، وجاء نيتشه الذي أعلن الفضيحة كاملة، أعلن عدمية وخواء وتيه هذه الحداثة، أعلن حيوانية النسخة الغربية للإنسان، وتوحشه، توحش عاينته هذه البشرية في الاستعمار الغربي وخروج تلك العقلية لاستباحة ونهب وتفقير بقية العالم، واستلاب إرادة الشعوب لصالح إرادة الغرب.
وإذا كانت الحداثة قد فككت الإنسان وأعادت تعريفه تعريفًا ماديًا، وحصرت القيمة في المادة، ووقفت على أرضية تأليه العقل، فإن ما بعد الحداثة، والتي هي إعلان لفشل الحداثة، جاءت بمفاهيم أشد توحشًا وعدمية، إذ تسعى ما بعد الحداثة إلى فصل المدلول عن المعنى، وترفض رفض شديدا الوقوف على أي أرضية (1)، جاءت ما بعد الحداثة بمنهج تفكيكي يستهدف اللغة، اللسانيات، وتمركز العقل، في كل الميادين العلمية والقانونية والتفسيرية، فما بعد الحداثة هو تقديس ومنهجه للسفسطة العامة، لإلغاء كل الثنائيات المتبقية في حياة البشر، الذكر والأنثى، الخير والشر، العالم والجاهل… ومحاربة كل المسلمات (على اعتبار أنها مسلمات) التي بقيت من عصر الحداثة.
إنه باختصار عصر الجنون.
الفطرة البشرية في وجه الطوفان
إذا كانت الحداثة قد انتقلت بالإنسان من كيانه الإنساني إلى نسخة حيوانية مادية، تمضي في هذه الحياة بلا غاية للوجود سوى تلبية الشهوات والغرائز، إذا كانت الحداثة قد أسقطت كل المقدسات وقدست المادة، وألغت الفطرة البشرية وحاربت دلائل وجودها، فإن ما بعد الحداثة انتقال جديد ومستوى متقدم آخر في الحرب على هذه الفطرة، فعملها على هدم النصوص لتتهاوى أنسجتها التعبيرية، فلا ذكر ولا أنثى، بل الأمر يخضع للتجربة والاختيار الشخصي، واذا انفكت المدلولات عن معانيها، فبالتالي تسقط كل المدلولات كمدلول الأسرة، الذي كان يدل على معنى حياة زوجين ذكر وأنثى وأبناء، ليتحول إلى مساكنة أو حياة رجل مع رجل، أو إمرأة مع إمرأة، أو رجلين وإمرأة، أو إنسان وحيوان و… إلى ما يمكن أن يحدث من احتمالات، وخضوع الأمر للتجربة الشخصية والذوق الشخصي المنحرف غالبا، فالأطفال يختارون منذ صغرهم الجنس المراد البقاء فيه، وإقصاء تأطير العائلة للأبناء، وتدعيم عمليات تغيير الجنس، ومستحضرات تأخير البلوغ، ويتهم معارض المثلية بالإرهاب والتطرف، حتى وإن كان أب لبنت (2)، غضب بعد اغتصاب متحول جنسي يرتدي ملابس بنات، لابنته داخل دورة مياه في المدرسة، عاقبته المدرسة والسلطات الأمريكية بالسجن لسوء صنيعه، ووقع إدانته بالإساءة الدولية (الإرهاب).
إن بلوغ هذه الحضارة الغربية، بقيادات للدول والمنظمات الدولية تتبنى راديكاليا نشر الشذوذ ومحاربة الطبيعة البشرية (والحرب على الفطرة تقودها هذه المؤسسات بالأساس)، إن بلوغها هذا المستوى من الفساد، لمهدد بتغيير العالم الذي نعيش فيه، على ما بلغ إليه من سقوط في دركات العدمية، إلى عالم آخر لا يمت بأي صلة بما قبله.
يجب أن يكون في غاية الوضوح، في عقول المسلمين خاصة، أن هذه الأهواء والانحرافات تتحول إلى تشاريع وقوانين، وأن هذه القوانين تحميها جيوش ومؤسسات أمنية، وبمجرد إقرارها فإنها تصبح نظام الحياة التي يجازى ويعاقب على أساسه في المجتمع، وتحميه المؤسسات القضائية وتحافظ على علويته على رقاب الناس… إن هذا يجب أن يكون بالوضوح الذي نستشرف من خلاله خطر ما نحن بصدده، وخطر الدعاوى الخارجية والداخلية لتركيز تلك القوانين في بلادنا، وما هذا الفساد إلا متابعة لنتائج إلغاء نظام الحياة وفق الإسلام في هذه المجتمعات.
الإمام الشافعي وما بعد الحداثة
قبل الدخول في الموضوع (الذي قد يبدو عنوانه غريبا)، نقدم بمقدمة صغيرة حول طبيعة نشوء الفنون (العلوم) في تاريخ الإسلام، فإن سنة الله في هذا الدين قضت بأن الله سيحفظ الكتاب والسنة، سواء حفظ التنزيل أي حفظ متن ورواية القرآن ورواية السنة، أو حفظ التأويل أي معاني ومفاهيم ألفاظ الكتاب والسنة، لكن سنة الله قضت بأن يتم هذا الحفظ بتسخير الله لجنود من المسلمين يستخدمهم في شرف هذه المهمة، مهمة حفظ التنزيل والتأويل.
وقد كانت مختلف العلوم المتعلقة بالكتاب والسنة، سجية في صدور وعقول المسلمين في بداية نزول الوحي وحتى فترة لاحقة، وعندما شعر المسلمون بأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن تجمع لتفرق الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في الأمصار، بدأت حركة جمع السنة، التي حفظ الله بها السنة.
وعندما دخل الأعاجم بفضل الله للإسلام، وأصبح هناك حاجة لوضع علم النحو والصرف والبلاغة وغيرها، وقيض الله لهذه المهمة علماء وضعوا المتون والقواعد التي كانت من قبل وسجية كما سبق.
وكذا في كل علم من علوم الشريعة.
وقد قيض الله لعلم أصول الفقه الإمام الشافعي، الذي كان أول من دون فيه في كتابه الرسالة، قال ابن خلدون: “وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه، أملى فيه رسالته المشهورة. “
ومن تعريفات أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.
فما علاقة هذا بموضوعنا وبما بعد الحداثة ؟
كان من ألمعية الإمام الشافعي تفطنه لضرورة تدوين علم أصول الفقه في وقت مبكر، وقد كان له مكنة فريدة في علم اللغة، التي استخرج من استقراء خزانتها أصول في فهم النص العربي، وقواعد كلية عن دلالة التراكيب اللغوية، أو دلالة الألفاظ على المعاني (وهو من أهم أبواب الأصول)، وتلك القواعد التي تخول تطبيقاتها على النصوص فهم مدلولاتها في كلام العرب، وتتيح تطبيقاتها على الكتاب والسنة استخراج منهج للتعرف على مراد الله من عباده، سواء كان في الفعل (الأمر) أو في الترك (النهي) أو في التخيير (الإباحة)، ومراتب إلزام تلك الأحكام الدائرة حول الوجوب والندب والحرام والكراهة والإباحة، ثم تعلق تلك النصوص بالقرائن إن وجدت، وما يستفاد منه، ووجود حالات استثناء تبيح استعمال الرخصة في فعل أو ترك طالما وجدت الأعذار، وغيرها من المباحث.
وكما قدمنا فإن القواعد الأصولية كانت معلومة سجية في صدور الصحابة والتابعين وأئمة الدين من علماء المسلمين المشتغلين بالفقه وعلوم الشريعة، وكان للإمام الشافعي رحمه الله فضل تدوينها، ثم تلاه بعدها متابعة في الاهتمام بهذا العلم في أجيال ومدارس المسلمين.
قواعد علم الأصول تضبط تعامل الفقيه والمجتهد مع الأحكام، وتضبط تنزيلها على مجريات الواقع في ما يخص الفقه المتعلق بأعيان المسلمين وعباداتهم أو بمعاملاتهم وأموالهم أو شؤون الحرب والسلم والمعاهدات الدولية أو شؤون الحكم (تعرف بالأحكام السلطانية) وغيرها من أبواب الفقه، وإذا علمنا أن التشريع في الإسلام أحاط بكل مناحي الحياة من أدق تفاصيلها لأكبر كلياتها، فكل حركة وفعل يقوم به الفرد المسلم أو المجتمع المسلم أو النظام المسلم، كل فعل يتعلق بالضرورة بحكم شرعي. وإذا تصورنا هذا كامل التصور استخلصنا أن مدلولات ومعاني الألفاظ محمية من التحريف في الإسلام بتدبير الله لهذا الدين، إذ لا يوجد في العالم اليوم منهج قادر على مواجهة حركة تفكيك المدلولات عن معانيها الأصلية، أو تفكيك التشريع عن مقتضاه الواقعي الإلزامي الذي تنتظم به الحياة بما يحقق حياة موافقة لفطرة وطبيعة البشر، لا يوجد ذلك فعليا إلا في دين الإسلام، وما حواه من علوم، فنحن وبلا مبالغة نتحدث عن آخر خط دفاع عن الفطرة موجود في عالمنا الذي نحياه اليوم.
الإسلام نموذج فريد للمقاومة
لا عجب إذن من المحاولات المتتالية لتحريف القواعد الكلية التي من خلالها يمكن التعامل مع أحكام الشريعة، لا عجب من المؤتمرات الغربية التي تبحث في كيفية إلغاء منهجية الإسلام والمبحث الأصولي في التعامل مع النصوص، لإيجاد طريقة صناعة شريعة جديدة متوافقة مع مآرب الغرب ومبتغاه في تفكيك هذا الدين، ولا عجب من دعاوى التجديد التي ترفع من داخل الصف الإسلامي، يرفعها رموز توافقية بدعوى ضرورة مراجعة علم الأصول، وما ذلك إلا للانسحاق الحضاري الذي يدعوهم في كل مناسبة لتغيير الدين بما يوافق الحضارة الغالبة، ولا عجب كذلك من دعاوى إعادة قراءة النص بطريقة “متحررة”، تخضع للذوق الخاص وللحرية التفكيكية … لا عجب من وجود كل هذه الدعاوى وهذا الجهد، ولا عجب من معاداتهم للشافعي بالأساس، لأنه سد بتدوينه المبكر في علم الأصول الباب أمام المحرفين.
أما الإسلام، فهو الرسالة الخاتمة، مكتملة التشريع، والمحمية من التحريف، على أن يحمله أبناؤه بنفس المقاومة، نفس تحدي أوضاع الجاهلية المعاصرة، نفس اليقين بأنه أسلوب حياة يحقق السعادة في الدارين.
إن البشرية، كل البشرية تحتاج لجنود الإسلام لحمل الخير الذي جاء به هذا الدين، لينتشل هذه البشرية كما فعل من قبل، من حيوانية إلى فطرية، من امتهان إلى كرامة.
المصادر:
(1) سيناتور أمريكي يسأل نسوية متطرفة عن الفرق بين الرجل والمرأة؟!