الشعوبية على خط المواجهة مع الإسلام

قال لي صديق أمريكي أعتنق الإسلام حديثًا، وفرغ مؤخرًا من أداء العمرة: «كنت في الحرم، أصلي في صف واحد، مع من أتى من شرق آسيا ومن أفريقيا ومن روسيا ومن بلاد العرب. مثل هذا المشهد لا يمكنك أن تراه بسهولة في الكنائس الأمريكية بعد عقود من إلغاء التمييز العنصري رسميًا في الولايات المتحدة». عبَّر هذا الصديق عن مُسَلًّمْة أساسية في الإسلام يعبر عنها قوله “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” [الحجرات،10]، وهي مُسَلًّمْة تمثل حجر الزاوية لمِدرك الإسلام عن الإنسان.

إِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ

فبينما كانت الجاهلية ترفع من رجل وتحط قدر آخر، لسبب مادي، قد يكون نسبًا أو مكانة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها صريحة قاطعة في خطبة الوداع:

«إِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى» [أخرجه مسلم]

فاضحًا أكذوبة التمييز العنصري، أساس الجاهلية، ومرجعًا الفضل للتقوى، أساس صلاح الدنيا وباب الجنة في الحياة الآخرة. ويتسع هذا التصور ليضم الشعوب، التي يُفَهِم الإسلام تمايزها، سبيل للتعارف والتكامل، مقررًا التقوى أساسًا للتفاضل، على نحو ما يعبر عنه قوله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات، 13].

ولقد تجسد هذا التصور الإسلامي الرائع عن الإنسان والمجتمع في عصر فجر الإسلام، فكان بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي من أكابر الصحابة، وفي عصر لاحق كان سعيد بن المسيب وشريح القاضي وإبراهيم النخعي من أكابر التابعين ومن الموالي، ويروي ابن عبد ربه في العقد الفريد أن عيسى بن موسى العباسي، سأل القاضي ابن أبي ليلى عن فقهاء الأمصار وأصلهم، فكاد أن يكون جميع فقهاء الأمصار في هذا العصر من الموالي.

الشعوبية القديمة

وكما كان هذا التصور الإسلامي النبيل والعملي، عن الإنسان والمجتمع، عامل جذب للمستضعفين وأولي الألباب للدخول في الإسلام، كان معولًا هَدَمَ الجاهلية وتصورها، وأطاحَ بسلطة الجماعة المستكبرة المنتفعة بهذا التصور. وفي رد فعل للجاهلية المدحورة أمام الإسلام كان اختلاق الحركة الشعوبية، والتي كان ظاهرها حركة “تبغض العرب وتفضل العجم”، كما قال القرطبي، وباطنها إحياء الهويات الجاهلية القائمة على النسب في مقابل الهوية الإسلامية الجامعة.

فالشعوبية بإيجاز هي التعصب لشعب دون غيره على حساب الجامعة الإسلامية.

وقد وجدت هذه الحركة مُنظِّرون لها، مثقفون منحدرون من أسر كانت ذات مكانة دينية أو سياسية في المجتمع الجاهلي، مثل سهل بن هارون الفارسي، وعبد الله بن المقفع الذي جمع بين الشعوبية والزندقة. كما وجدت لها أنصارًا بين أمراء الحرب، الذين وجدوا فيها ما يبرر لشعوبهم، توجهاتهم الانفصالية عن دولة الخلافة، التي صوروها أنها دولة يتحكم فيها العرب لصالحهم، وتظهر هؤلاء الأمراء كمجددين لمجد هذه الشعوب القديم، كما فعل محمود الغزنوي التركي، الذي استغل الشعوبيين الفرس في دعم دولته أدبيًا، حتى كفل الفردوسي أثناء كتابته للملحمة الشعرية المسماة بالشاهنامة، والتي تمجد الفرس وتنال من العرب، قبل أن ينقلب على الشعوبيين في مناورة سياسية، غرضها أن يحظى بمباركة الخليفة العباسي القادر لدولة الغزنوي الانفصالية، واعترافه بها، وقد كان.

السلطان محمود الغزنوي

وعلى الرغم من انحسار حركة الشعوبيين في منتصف القرن الخامس الهجري، إلا أنها كانت أجهدت المثقفين المسلمين في فضحها ومحاربتها، وضربت الوحدة الثقافية للشعوب الإسلامية، وأوهنت من سلطة الخلافة، وأسهمت في تمزيق الأمة الإسلامية إلى مجموعة من الدويلات المتناحرة، وهو الأمر الذي كان فاتحة تدهور واسع في عالم الإسلام، وتمهيدًا للضربات المؤلمة التي سوف ينزلها الصليبيون والمغول بهذا العالم لاحقًا.

انبعاث الشعوبية الجديدة

كانت الحملات الصليبية وغزوات المغول وطرد المسلمين من الأندلس، بمثابة قارعات ثلاثة متلاحقات ضربت المسلمين، ودفعتهم للتضامن والتعاضد، وحفزت مشروع تجديد تمثل في ابن تيمية وتلاميذه، فكان أن عاد المسلمون للتَحَلُق حول مفهوم الأمة، وتلاشت فكرة الشعوبية. واستمر هذا الحال، حتى قدوم نابليون وحملته، فتدفق المجاهدون إلى مصر من الحجاز والشام وليبيا والمغرب، إلى جانب الجيش النظامي التابع للدولة العثمانية.

فشل نابليون في حملته، لكن خلفاءه في وزارات المستعمرات في لندن وباريس، عرفوا أن مفهوم “الأمة الإسلامية” هو السد المنيع في وجه مشروعاتهم، فكان إحياء العصبيات الشعوبية هو الخطة التي انتهجها الاستعمار، ولكن مع استبدال اسم الشعوبية المشبوه باسم جديد، القومية. وبدلًا من إعلان العداء على الإسلام، أصبح القوميات تنتحل العلمانية، فتقبل بالإسلام كإرث حضاري ومقوم من مقومات القومية، ولكنها تجعل أساس الرابطة بين المواطنين العنصر والنسب، وهو ما يمكن استقراءه مثلًا في كتابات ميشيل عفلق مؤسس البعث.

 بُذرت جراثيم القومية في المدارس التبشيرية والكليات التي يديرها المستشرقين بالشام، وبين الطلاب العرب والترك والكرد والبربر الدارسين في جامعات فرنسا بالذات، وبلغ مشروع الشعوبية الجديدة ذروته في الحرب العالمية الأولى، فكان لورانس الإنجليزي يَعِدُ العرب بمملكة عربية كبرى، وزميله بيرسي كوكس في العراق يلعب نفس الدور مع الكرد، بينما كان الفرنسي موريس لوجلي يحرر الظهير البربري تمهيدًا للوقيعة العظمى بين العرب والأمازيغ في المغرب، وتسنم الاتحاد والترقي، الطوراني النزعة، الحكم في تركيا، قبل أن ينتقل إلى أتاتورك العلماني المتطرف العلمانية والشعوبية. ولأول مرة منذ ظهور الإسلام، يقاتل المسلمُ المسلمَ بحجة عنصرية صرفه وبدون أن يواري هذه الدعوى الجاهلية.

انتهت هذه الموجة الجديدة بتقسيم العالم الإسلامي بين المنتصرين في الحرب، ومنح الشعوبيين بعض المكاسب الصورية سرعان ما سلبها المنتصرون. ثم بدأت الموجة الشعوبية الثانية، لتقسيم المقسم، فظهرت نعرات الفرعونية والفينيقية والسورية وغير ذلك من النعرات الوهمية. واليوم، نشهد موجة جديدة من الشعوبية في مظهر مبتذل، فعوضًا عن التعصب للقوميات، أصبح التعصب للفريق الوطني في مباراة كرة قدم، أو لبهلوان في برنامج لتغييب الوعي، كفيل لتعميق صدوع الشعوبية بين المسلمين، وتفسد وعيهم بمفهومي الأخوة في الإسلام والأمة الإسلامية.

التحليل النفسي الاجتماعي لظاهرة الشعوبية

يكاد يكون من السنن الاجتماعية أن النعرات والعصبيات، لا تنتشر إلا بين الشعوب المهزومة ثقافيًا، كحال الألمان عقب الحرب العالمية الأولى، حيث كان شعورهم بالهزيمة والظلم ممهد لتقبلهم لأفكار هتلر العنصرية حول التفوق العنصري للألمان، ومؤامرة الشعوب الأدنى منزلة على الآمة الآرية التي أدت إلى الهزيمة في الحرب. فانتشار الشعوبية يعتمد على استفزاز مشاعر التفوق الساذجة لدى البشر، وتوعز التفوق لأسباب أصيلة طبيعية في هؤلاء المستهدفين بالشعوبية، لا تتوفر لدى غيرهم من الشعوب. ولذلك فإن الشعوبيين يعمدون إلى تضخيم الأنا لدى الشعوب المستهدفة منهم، فترى أتاتورك مثلًا يوعز للأكاديميين الأتراك أن يعيدوا كتابة التاريخ على نحو يجعل الشعوب التركية صاحبة كل أولية في التاريخ والحضارة.

وهذا الوهم الجماعي المعقد المسمى بالشعوبية أو القومية أو الوطنية، عميق الأثار في العقل الجمعي للأمة الإسلامية المعاصرة، خطير ضرره عليها، إذ يغذي لدى الشعوب الإسلامية مشاعر فخر كاذبة، وعندما تصطدم هذه المشاعر بالواقع المرير للأمة، يمسي أمام المسلم خيارين مريرين. أن يدخل في مواجهة مع عقله، متحملًا قسوة الاعتراف بأنه خدع وغرر به، وهو ما يحتاج إلى شجاعة عظيمة للاعتراف بهذا أمام النفس للرجوع إلى طريق الحق، وأكثر الناس لا يملكون مثل هذه الشجاعة، أو أن يخدع نفسه بإنكار الواقع والركون لهذه الأكاذيب، ثم يمضي في غيه، ويتحول إلى مروج لهذه الأوهام، لذا فوهم الشعوبية ذاتي الدفع والانتشار.

دعوها فإنها منتنة

منتنة. هكذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية الجاهلية، التي أُعِيد اختراعها باسم الشعوبية، ثم أُعِيد اختراعها مرات ومرات بأسماء شتى، ووجدت علماء باعوا أرواحهم للشيطان يروجها بين المسلمين، ويبحثون بين نصوص الكتاب والسنة، ما يلوونه لَيًّا عن معناه الصريح، ليدلس على المسلمين هذه الشعوبية.

وهو ما يوجب على أبناء حركات التجديد الإسلامي المعاصرة، أن تكون في مواجهة الشعوبية الحديثة، بصورها المتعددة، على قائمة أولويات هذه الحركات، وذلك بمناقشة أصول هذه الشعوبية الحديثة مناقشة علمية منهجية موضوعية، بحيث يتم فضحها أمام هؤلاء الذين يدلس عليهم بها، ومحاصرة دعاتها ببيان إفلاسهم وخبل ما يدعون إليه. فإن لم تكن هذه القضية على قائمة أولويات حركة التجديد الإسلامي، فسوف يكون علينا وعلى أجيال لاحقة دفع ثمن من دمائنا جزاء تقاعسنا عن هذه المواجهة.


إعداد: د. وسام عبده

د. وسام عبده

أكاديمي وكاتب ومترجم من مصر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى