صفحات من دفتر الالتزام: قلبي وأثر القرآن

لقد أصبح للسجود طعمٌ مختلفٌ مذ قررتَ أن تجاهد نفسك للخشوع في صلاتك، مذ أصبحت مداومًا على القرآن والأذكار مبتعدًا عن مزامير الشيطان، أصبحَتْ نفسك تَتَنَقَّى من براثنِ جاهليةٍ كادت أن تُهلكك، وتحرمك أجمل شيءٍ في الوجود، إنها نعمة العبادة التي خُلقنا لأجلها، متعة الإنابة والقربى من خالقك، لا شك أن نفسك تلومك، لمَ حرمتني كل هذا الجمال كل هذه الروعة في دنيا الإنسان…!

قليلٌ من العتب سيجعلك تحرِص على البذل، نعم فقد قصَّرت من قبلُ ولكنْ هيهات أن يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، لن أكون ضحية غفلتي مرةً أخرى، هكذا جدِّد العهد وانظر إلى الغد، وحدد أهدافك التي تتوق لها نفسٌ مؤمنةٌ بدأت تتدرج في سلم التحرر والارتقاء!

أصبحتَ تشعر بنوع من التحليق، وربما يدفعك هذا للبكاء والندم على ما فات، كل هذا ينظف الله به قلبك ويُهيِّئُه لما هو آتٍ…

لقد أصبحتَ اليوم مسلمًا يصلي ويداوم على الذكر، ومن الذكر أيضًا تلاوة القرآن، فهي بلسمٌ للروح، قد لا تدرك عظمته في بداية الالتزام ولكنْ لا شك بالمداومة على وردٍ يوميٍ وتدبرٍ وتفكيرٍ، ستتعلق روحك بآخِر كتابٍ سماويٍ لم يَمَسَّهُ تحريفٌ ولا تزييفٌ، أنزَلَه الملَكُ جبريلُ بأمرٍ من رب العالمين، على سيد الخلق أجمعين صلواتُ ربي وسلامُه عليه، إنه كتاب القرآن العظيم.

والتزام وِرد القرآن يوميًا يُفضَّل أن تختار له الوقت الذي تكون فيه متحررًا من أي ارتباطٍ يقطع عليك خشوعك، فأنت حين تقبِل على القرآن، أقبل بكُلّك لا ببعضك، أعطِه كل ما فيك يُعطِك أكثر مما تنتظر، إن القرآن كريمٌ وفيٌّ… تخيَّل! كلما اهتمَمْتَ به زادك من الخير والبصيرة والحكمة ما لم تكن تعرفه، وكلما اقتربتَ أكثر من صفحاته كلما أثَّر في روحك وكلماتك… وكلما غِبت عنه ثم رجَعتَ إليه وجدتَه ينتظرك، كريمًا جوادًا لا ينفَكُّ يخلُق في نفسك شعور التقصير والشوق.

ولهذا فإن الاجتهاد في حفظ بعض سور القرآن في بداية الطريق سيكون له تأثيرٌ قويٌ في نفسِ الملتزمِ الجديد خاصةً إن حرص على الصلاة بجديد حفظه فإنه سيشعر بإنجازه ويتعلق أكثرَ بالصلاة بحفظه الجديد.

ونصيحتي لمن أراد أن يحفظ بعض سور القرآن، أن يجعل نيته الأولى حفظ كتاب الله كله، وذلك أن لكل امرئٍ ما نوى، وأن الإنسان إن قُبض وكانت نيته خيرًا فإن الله سيجزيه على قدْرِ نِيَّته، فاجعل همتك عاليةً وأمانيَك فوق السَحاب، لا ترضَ بالأهداف البسيطة، لأنك قد تنال ما تحسَبه عصيًا، بكرم الله ومعيته.  قال ابن المبارك رحمه الله: “ربَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمه النية، وربَّ عملٍ كبيرٍ تصغِّره النية”.

وحين تنوي حفظ كتاب الله ابدأ حالًا من سورة البقرة، بضع آياتٍ تحفظها في كل وردٍ… داوم على ترتيلها ولو استغرق منك حفظ أول جزءٍ الوقت الطويل، فأنت في متعةٍ وامتنانٍ، لأن الروح تتزود نور كل آيةٍ جديدةٍ تترسخ في جدار القلب، وكيف يمكن أن يكون القلب الذي أناره ذكر الله من الداخل، لابد أنه سراجٌ منيرٌ، أو بدرٌ أو شمسٌ!

لا تنظر إلى عدد الصفحات المتبقية أمامَك في كتاب الله، بل انظر كم أفدْتَ مما حفظتَه من آيات الله، تذكَّر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حفظ البقرة في 12 سنةً وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حفظها في ثماني سنينٍ، ليس إلا لحرصهما على العمل بها وهما الصحابيان الجليلان، وأنت لست بحاجةٍ أن تُسرِع في حفظك المهم أن تثبِّت حفظك وتستمر فيه ولو بمتوسط بضع آياتٍ في اليوم أو حتى الأسبوع على أقصى تقديرٍ، احفظْ ورتِّل وصلِّ به في صلواتك ستدرك أن للقرآن المحفوظ وقعَ خشوعٍ يزداد بصاحبه تحليقًا…

وتأمل معي لو أنك أنهيت البقرة فقد حفِظْتَ أطول سورةٍ في كتاب الله، ولو أنك أردفتَها بآلِ عمرانَ فها قد حِزتَ أجر الزهراوين، وما أدراك ما الزهراوان، كالغمامتين تُظلان صاحبهما يوم القيامة، وأجرهما عند الله كبير… والأيام تسير والآيات تترسخ والحفظ يزداد وأنت تتألق حتى يتراءى لك تاج الوقار!

ثم تأمَّل معِيَ هذه الأحاديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنّ الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن… كالبيت الخَرِب”.[1].

وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم: ” يقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارتقِ ورتِّلْ كما كنت ترتِّل في الدنيا فإنّ منزلتَك عند آخر آيةٍ تقرأُها”.[2]

وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٍ علّمه الله القرآن… فهو يتلوه آناءَ الليل وآناء النهار فسمعه جارٌ له قال: يا ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلانٌ فعملت مثل ما يعمل، ورجلٍ آتاه الله مالًا… فهو يُهلكه في الحق فقال رجلٌ يا ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلانٌ فعملت مثل ما يعمل”.[3]

فهل علمت الآن مكانة هذا القرآن…!

و بما أنك في مرحلة تعلق القلب بالقرآن، عليك أن تنظر في تفسيرات العلماء لبعض آيات الله… دعْ فؤادك يرِقُّ ودمعك ينساب… دع للتفسير نصيبًا من وقتك وأنصت لمحاضرات الراسخين في العلم   تسوق لك من حِكَم هذا المَعين.

وقد تتعثر في طريقك فتمضي أيامٌ لا تقرأ فيها وردك من القرآن فلا تجعلْه سببًا للإحباط والتراجع وخمول الذكر، بل احرِص في اليوم الذي لم تقرأ وِردك فيه أن تستمع للقرآن راكبًا أو مستلقيًا أو قبل نومك، اجعل همَّتك تدارُكَ ما فاتك في أقرب فرصةٍ، اجعله أمرًا حياتيًا أن يصل القرآن قلبك قراءةً أو سماعًا في كل يومٍ.

قال الإمام الشاطبي في ” حِرز الأماني”:

روى القلبَ ذكرُ الله فاستسقِ مقبلًا            ولا تعدُ روض الذاكرين فتمحلا

وآثِر عن الآثار مثراة عذبه                              وما مثله للعبد حصنًا وموئلًا

ومن شغل القرآن عنه لسانه                         ينَلْ خير أجر الذاكرين مكمّلا

وما أفضل الأعمال إلا افتتاحه                      مع الختم حِلًاّ وارتحالا موصِّلا

إنك اليوم في مرحلة التزود مرحلة التعبئة والتنوير، لهذا ليكن في برنامجك اليومي قسطٌ وافٍ من التعلُّم، تعلَّم كل ما يحيط بعباداتك، من عِلم الصلاة والذكر والقرآن ليقِرَّ في قلبك ويترسخ رسوخَ الجبال… فلو كنت ستفتح بابًا وخلف هذا الباب جنةٌ ساحرةٌ فيحاءُ، هل كنت ستعلم ما فيها لولا أنك فتحت الباب بيدك، إذًا خذ بجميع الأسباب التي توصلك لهذا الباب ثم افتحه وانظر سترى أنك حِزتَ خير الدنيا وزاد الآخرة.

وقد قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [4]، كلا لا يمكن أن تكون أنت الذي جهِلَ في غفلةٍ هو أنت الذي علم في إقبالٍ، إن للمعرفة سريانًا في جسد الإنسان يُحيي به الأمل ويُجدد الهمم ويَخلق حالة استقرارٍ واتزانٍ، هذا ما يفعله العلم بالإنسان، فكيف إن كان علمًا قُرِن بخشية الخالق والإقبال عليه، إنه الفوز بحق.

قال الإمام أحمد رحمه الله: “إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحبُّ فدُمْ له على ما ُيحبُّ”. فهي متلازمةٌ، هي معادلةٌ، كلما داومتَ على ما يحبه الله كلما تيسرت لك الطريق وسهُلت وأصبحت حياتك منتظمةً متزنةً زاخرةً تكسوها الرحمة الإلهية ومعية الربّ.

بل ستبدأ الهموم تتلاشى أمامك، ذلك أن انشغالك بالطاعة والتعلم يصرف عنك الانشغال بهموم الدنيا الدَّنِية، وقد قال بعض السلف: “إذا قصَّر العبد في العمل ابتلاه الله بالهموم”.

وإن كنت اليوم شابًا فغدًا شيخٌ، وما يدريك أنك سترحل عن دنيانا قبل أن تصل تلك المرحلة! فالعمر لا نقدِّره إلا بالعمل الصالح، بل كل أعمارنا لا تساوي إلا مثقال ما حرصنا عليه من الطاعة والبذل والمسابقة في سبيل رضا الخالق، قال يحيى بن معين-رحمه الله-:

وإذا افتقرت إلى الذّخائر لم تجد… ذخرًا يكون كصالح الأعمال

ومن كان في مرحلةٍ متقدمةٍ من العمر فالأحرى به أن يعجِّل الالتزام ليستدرك ما فاته، كما على الشاب أن يعجل الالتزام لأنه لا يضمن كم سيعيش مستقبلًا، قال النيسابوري في تفسير سورة العصر من غرائب القرآن: “لا شيءَ أنفسُ من العمر”.

وعن الحسن-رحمه الله-قال: “يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهنّ قطّ: يوم تبيت مع أهل القبور ولم تَبِتْ ليلةً قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من اللّه تعالى، إمّا بالجنّة أو النّار، ويوم تعطى كتابك إما بيمينك وإمّا بشمالك”.

قد وصل بنا المسير لإنجازاتٍ حقيقيةٍ، إقامة الصلاة ومداومة الذكر وإحياء القلب بالقرآن! فمن تعلمها وداوم عليها، كانت زاد القلب الذي يفيض به الإيمان في ثنايا المقبل وجوانحه، ليذوق نعيم الآخرة وهو ما زال في دنياه كما قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:”ليس في الدنيا نعيمٌ يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان”.

وقال الحسن البصري رحمه الله: ” تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلاّ فاعلموا أنَّ البابَ مغلقٌ”. ومن وجده مغلقًا عليه أن يستمر في الطَرْق حتى يفتح له، وأما من وجده مفتوحًا كان من (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). [5].

وبهذا النور الذي استقر في القلب… هل ترانا وصلنا لمرحلةٍ لا نخشى على أنفسنا التراجع! هذا ما ستكشفه لنا الورقات التالية من صفحات دفتر  الالتزام، فإن الشيطان لا يمَلُّ من حربنا، أفنكسل عن حفظ أنفُسِنا منه، ولا شك أن ما ينتظرنا لا يقل أهميةً عما سبق!


الهوامش

[1]  أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.

[2]  قال الترمذي: حسن صحيح.

[3]  أخرجه البخاري ومسلم.

[4]  الزمر 9.

[5]  آل عمران 191

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى