عمر توريخوس والتصدي للهيمنة الأمريكية

الحرية هدف عمر، لم تُخترع بعد الآلة التي تستطيع قتل الأهداف النبيلة!

كلمات كُتبت تحت صورة توريخوس المعلقة في شوارع بنما، لم تكن تلك الكلمات شعارات فارغة أو كلامًا معسولًا كعادة السياسيين بل كانت سياسته الحقيقية في إدارة البلاد، قلما تجد في دوائر النفوذ والسلطة رجلًا ذا عقلية تحررية كـعمر، قائدٌ يحكم دولة صغيرة لا يتجاوز تعداد سكانها عن مليون نسمة، وقف أمام الهيمنة الأمريكية دون خوفٍ أو تردد، كان يتمتع بحب الفقراء والمهمشين ويسير في شوارعهم المكدسة بالأكواخ يعقد فيها الاجتماعات، و يساعد في حل أزمة البطالة، ويتبرع بالأموال القليلة التي يمتلكها للعائلات المنكوبة والمرضى.

تولّي عمر الحكم

عمر توريخوس.

ظلت بنما ما يربو على نصف قرن تحكمها حكومة الأقلية المكونة من العائلات الثرية التي تربطها علاقات وثيقة مع واشنطن، كما ساعدوا شركات التجارة الأمريكية الضخمة على سرقة ثروات البلاد ولا أحد يعير الشعب الذي تم استعباده في تلك المصانع ونهبت ثرواته أي اهتمام.

في تلك الأجواء المليئة بالظلم والاستبداد حدث انقلاب على الديكتاتور “بآرنولفو آرياس” وتولى عمر السلطة، لم يغير المنصب من أفكاره بل عمل من أول يوم على إزاحة الهيمنة الجاسمة على بلاده، كان استرداد سيطرة بنما على القناة أول أهدافه، فخاض مفاوضات مع أمريكا ولم يدع الأمر حتى انتزع القناة من بين فكي أمريكا عام 1977.

لم يقف الأمر عند استعادة القناة فقد اعترض عمر على وجود مدرسة الأمريكيين والقيادة الجنوبية لمركز عمليات المناطق الحارة التابعة للجيش الأمريكي لوجودها على أرض القناة، مع كل هذا التغيير شعرت أمريكا بخطر حقيقي يهدد مصالحها فقامت بإرسال “جون بيركنز” أحد القتلة الاقتصاديين ليعرض على عمر خطط شاملة لتنمية بنما، وكالعادة كان الهدف من المشاريع هو إغراق بنما بالديون لتعود دمية في يد أمريكا مرة أخرى، قابل جون عمر عدة مرات وقال عنه:

لأول مرة في تاريخها لم تعد بنما دمية في يد واشنطن أو أية أيادٍ أخرى، لم يستسلم أبدًا للإغراءات.

فشلت أمريكا بكل الطرق في استمالة عمر، رفض الإذعان للتهديدات، أطاح بالمعهد الصيفي للغويات وهو معهد أمريكي في بنما، ورفض الاستسلام لطلبات إدارة ريجان بشأن إعادة التفاوض في معاهدة القناة.

تحقيق كابوس عمر

دائمًا كان يراود عمر كابوس أنه سيموت في حادث، وبعد اغتيال رولدوس رئيس الإكوادور، أحس عمر أنه التالي. جمع عائلته وقال:

على الأغلب أنا التالي، لكنها ليست مشكلة لأني فعلت ما أتيت هنا لفعله، لقد عادت القناة لأيدينا.

في31 يوليو 1981 تحقق الكابوس ومات عمر في حادث تصادم طائرة بعد اغتيال رولدوس بشهرين وبنفس الطريقة.

حزن عليه الفقراء وأصحاب النفوس الأبية في العالم، لكن خبر اغتياله كان مفرحًا للقائمين على الشركات الأجنبية والإدارة الأمريكية وجنرالات الجيش البنمي.

بنما بعد عمر

بعد وفاة “توريخوس” تولى الحكم “مانويل نورويجا”، كان مهتمًا أيضًا بالفقراء، وكان أهم مشروعاته، مواصلة البحث إذا كان هناك إمكانية لشق قناة جديدة يمولها اليابانيون، مما يعني أن شركات الهندسة الأمريكية ستخسر فرصة عمل جيدة، رفض أن يمد عمل مدرسة الأمريكيتين 15 سنة أخرى، لكنه لم يكن بنزاهة عمر فمع مرور الوقت اكتسب سمعة سيئة مع اتهامه بالفساد وتجارة المخدرات، انتهزت الإدارة الأمريكية هذه الفرصة لتنقض على بنما مرة أخرى بحجة ملاحقة نورويجا، تركت أمريكا كل طواغيت العالم التي هي على رأسهم لتحد من خطر نورويجان!

اقتحمت القوات الأمريكية بنما وقامت بإضرام النيران في شوارع العاصمة، وقامت بقتل النساء والأطفال، وتشريد الآلاف، وتم القبض على نورويجان وصدر ضده حكمٌ بـ أربعين عام.

تقول المراسلة ديفيد عن تلك الحادثة: “أنه للمرة الأولى على مدار 225 سنة تغزو أمريكا فيها دولة، وتعتقل قائدها وتأتي به إلى أراضيها لتحاكمه وتسجنه بحجة انتهاك القانون الأمريكي على أرضه، وداخل بلاده ومنطقة نفوذه! وتحكم عليه بسجن 40 عام”.

المدقق في حادثة اغتيال عمر واعتقال نورويجا يعلم جيدًا الفرق بين رد فعل أمريكا عند امتلاك بنما وسيطرتها الحقيقية على قناة بنما وبين المشاريع الوهمية التي يروج لها البعض، وأن تفريعة قناة السويس الجديدة تمت تحت إرادة مصرية وسيطرة مصرية كاملة!، فارق كبير بين من تصدى للهيمنة وسعى للخروج من النظام العالمي، وبين من هو كالعبد يحركه سيده كما يشاء.

ليليان أحمد

كاتبة وباحثة في التاريخ والحضارة الإسلامية، وقضايا الفكر الإسلامي، أكتب من أجل إيجاد الوعي في… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى