المسلمون في الهند.. من زمن العزّة إلى سنوات المهانة
ليس من مدخل أدلف به إلى هذا الموضوع أفضل من أن أتساءل: ما الذي يجعلني أهتمّ بشخص أنا في منأى عنه بمسافة تقدّر بثمانية آلاف وخمسمائة كلم تقريبًا؟
مع أنّ الاهتمام -أيّ اهتمام- له أسبابه المعقولة، وهذا الاهتمام بأُناسٍ في الهند وأنا في المغرب قد يكون له أسباب كثيرة، لكنّ أقوى هذه الأسباب تختزله أوّل كلمة سُطّرت في عنوان المقال (المسلمون)، التي تعبّر عن رابطة إيمانيّة دينيّة خاصّة، وهي -وإن تراخت بضعف الإيمان نفسه- أوثق رابطة تربط بين شخصين على الإطلاق، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وهذه الأخوّة الإيمانيّة هي الأخوّة الوحيدة الباقية يوم القيامة حين تنقلب كلّ خُلّة إلى عداوة: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67]، ومهما عَرَض لهذه الأخوّة من شحناء وتباغض في الدنيا اضمحلّ وزال في الآخرة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47].
ولهذه الآصرة الإيمانيّة حقوق في الدنيا، منها الاهتمام لأمر المسلمين، وقد توافرت السنّة الفعليّة النبويّة على تأكيد هذا الحقّ للمسلم على أخيه المسلم، وكذا جاءت السنّة القوليّة على وصف علاقة المسلم بأخيه بعلاقة العضو بالعضو من الجسد الواحد. وليس هذا محلّ نقل الشواهد.
والمقصود من هذا التساؤل، التّبرير لهذا المقال، والتذكير بالأخوة الإيمانيّة وضرورة الاهتمام بأمر المسلمين، وإن لم يكُن لهذا الاهتمام ما يترتّب عنه عمليًّا من تغيير حال المسلمين، ذلك أنّ هذا الاهتمامُ يترتّب عليه عمل قلبيّ مهمّ، كما أنّه لا أقلّ من إبقاء قضايا المسلمين حيّة وحاضرة في ضمير النّشء، وإلّا انعدمت أسباب الفرج والتّمكين.
وسنعرض هنا بإيجاز لشيء من تاريخ دخول الإسلامِ وحُكمه الهندَ، ولمعاناة مسلمي الهند في الزمن المتأخّر. وتجدُر الإشارة إلى أنّنا نقصد بالهند في مجمل المقال الهند قبل التقسيم.
تاريخ الإسلام في الهند
تُعتبَر حضارة الهند من أقدم الحضارات في العالم، مثلها في ذلك مثل الحضارة المصريّة والبابليّة واليونانيّة، ويُرجع المؤرّخون ظهورها إلى 4000 سنة قبل الميلاد، لكن التاريخ القديم للهند يعُوزه النّقل والتأريخ المتسلسِل بالوثائق. ويذكر بعض المؤرّخين تعرُّض الهند للغزو الغربي قديمًا من طرف (الآريّين)، ويُنقَل أنّ الإسكندر الأكبر المقدوني غزا الهند سنة 327 هـ، وترك بها محميّات له قبل أن يعود أدراجه. لكنّ الذي يهُمّنا أنّ هذا الغزو الأخير لم يكُن أوّل اتّصال بين الهند والغرب الذي تعود جذوره لما قبل الميلاد، حيث يُخبرنا أرسطو عن فلاسفة من الهند قدِموا إلى أثينا لمُحاورة سقراط ومناقشته في المشاكل الفلسفيّة التي يعالجها الفكر اليونانيّ.
كما كان هناك بالمقابل اتصال كبير بين العرب والهند قبل الإسلام ومنذ ما قبل الميلاد، وكانت بين العرب والهند علاقات تجاريّة، وكان للرّحّالة والتُّجار والبحّارة العرب قبل الإسلام معرفة بالهند وبمناطقها كما أنّه ليس من المُستبعَد أن كانت هناك جالية عربية في الهند.
أمّا عن أوّل تماسّ هندي مع الإسلام فليس هناك رواية تاريخيّة أكيدة، فيذهب البعض إلى أنّه كان في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وأنّ ملِكًا من ملوك الهند رأى معجزة انشقاق القمر فسافر إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- ولقيَه وآمن به، وقيل أنّ بعض الهنود سمعوا بالإسلام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وسافروا إليه فلم يصِلوا إلّا بعد وفاته صلى الله عليه وسلّم في خلافة عمر -رضي الله عنه-، فيما يذكر آخرون بعض أسماء الصحابة وأنّهم استوطنوا في الهند، وتُحكى قصّة مشهورة عن “أوّل داعية” في الهند يُقال له الشيخ مالك بن دينار لكن لا يُعرف متى كان ذلك ويغلّب بعضهم أنّها كانت في المائة الثالثة بعد الهجرة، وغير ذلك من الروايات التي لا يمكن الجزم بها وبعضها ثابت لكن اختُلِف في تعيين زمن وقوعها.
ولكنّ الأكيد عندنا أنّ دخول الإسلام وانتشاره في الهند كان عبر شكلَين:
- الجهود الفرديّة وعن طريق التجارة: فإنّه ما دامت العلاقة التجاريّة كانت قائمة بين العرب والهند فلا بدّ أنّ خبر النبيّ محمّد -صلى الله عليه وسلّم- وصل إلى الهند عبر الرحلات التجاريّة، ويمكن أن يكون ذلك في حياة النبي -صلى الله وسلّم-، ويمكن أن يكون من الصّحابة من سافر إلى الهند ودعا إلى الإسلام فيها، ولكنّ الأكيد عندنا في الحديث عن هذا الشّكل من نشر الإسلام أنّ التجّار العرب أوصلوا للهند خبر النبيّ الجديد مبكّرًا، وأنّ التجّار المسلمين -سواء كانوا من الصحابة أم لا- أوصلوا الإسلام إلى الهند بجهود فرديّة سلميّة عبر تعاملهم الحسن ودعوتهم إلى الإسلام، وهذا عامل مهمّ في انتشار الإسلام، أقصد طبيعة الإسلام ذاته الذي يحمل في ذاته منظومة عقديّة وأخلاقيّة فطريّة ربّانيّة بسيطة؛
- محاولات فتح الهند: حيث بدأ التفكير في غزو الهند منذ توسّعت رقعة الإسلام، وقد كانت هذه المحاولات كثيرة ومُتعاقبة وكان فيها انتصارات وهزائم.
وقد ابتدأت محاولات الفتح منذ عهد خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حيث أرسل والِيه على البحرين وعمان عثمانُ بن أبي العاص الثقفي جيشًا إلى منطقة تسمى “تانه” شمال بومباي، لكن خوف الفاروق عمر على المسلمين من ركوب البحار منع واليه من الإقدام كثيرًا في غزو الهند.
ثم أرسل عثمان -رضي الله عنه- في خلافته حكيم بن جبلة العبديّ إلى الهند ليعرف منه أخبارها تمهيدًا لغزوها.
ولمّا كانت خلافة عليّ -رضي الله عنه- تطوّع الحارث بن مرّة العبدي وغزا الهند وأصاب مغنمًا، ثم مات ومن معه إلا قليلًا. كما غزى الهندَ بعد ذلك كلّ من المهلّب بن أبي صفرة وعبد الله بن سواد العبديّ وسنان بن سلمة الهذلي في خلافة معاوية -رضي الله عنه-، وغيرهم بعد ذلك.
لكن كلّ ما سبق كان تحويمًا حول الهند واستطلاعًا لأخبارها وغزوًا لأطرافها فقط، وكان أغلب من غزا الهند يغنم في الأولى ويلقى حتفه في الثانية. حتّى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان سادس الخلفاء الأمويّين، حيث قام عامله على العراق الحجّاج بن يوسف الثقفيّ بحملات منظّمة إلى الهند، فقد كان هناك من الأسباب ما حمل الحجّاج على العزم على غزو بلاد السّند وقتال ملكها (داهر). وقد وجّه الحجّاج أوّلًا بعض قادته إلى هذه البلاد، ثمّ أرسل ثانيًا حملة جعل على رأسها ابنَ أخيه الشّاب الذي عُرِف بالشجاعة والصّلابة والذكاء والذي لم يكن قد بلغ بعدُ العشرين من عمره؛ محمد بن قاسم الثقفي، وذلك سنة 711 م – 92 هـ، وبعث معه بجيش قويّ ومُجهّز بكل ما يحتاجه.
وقد استطاع محمد بن قاسم الثقفي أن يفتح بلاد السّند ويهزم الملك (داهر)، ودانت له مناطق كثيرة صُلحًا وعنوةً واستسلامًا، حتى وصل إلى (الملتان) وهزم من قاتله من أهلها، وأرسل للحجّاج ما غنِمه فسُرّ بذلك.
لكن قائدنا الذكيّ وهو يتنقّل من منطقة إلى أخرى ومن نصر إلى نصر ويضمّ إلى بلاد الإسلام ترابَ الهند؛ إذ جاءه خبر وفاة عمّه الحجّاج بن يوسف سنة 95 ه، ويتبعُه خبر وفاة الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96 ه الذي كان سندَه وسند عمّه، وبتولّي سليمان بن عبد الملك للخلافة، والذي كان يحمل ضغائن قديمة للحجّاج وأُسرته، ذلَّ عزيز القوم، ولم يشفع لقائدنا توسيعه لرقعة الإسلام ولا فتوحاته في الهند ولا حنكته وحُسن سياسته، بل عُزِل من القيادة وحُمِل مُكبّلًا بالسلاسل إلى سجن (واسط) حيثُ لقي حتفه بعد عذاب شديد.
وكان ما حدث للقائد محمد بن قاسم فرصة سانحة لمن أراد استرداد مُلكه أو الرّجوع عن الإسلام، فكان أن انشغل من وُلّي بعده في السّند بالقتال لاسترجاع ما فتحه قبله محمد بن قاسم. ثمّ لمّا ولِي عمر بن عبد العزيز أرسل إلى بعض الملوك يدعوهم للإسلام، فأسلم منهم بعضهم بعد أن سبقت إليهم سيرةُ عمر دعوتَه لهم. وظلّ الحال على هذا النّحو في السّند، يُولّي عليها الخليفة أميرًا، ويحاول توطين نفوذ الإسلام في هذه الرُّقعة، حتّى انتهى حُكم الأمويّين وحكَم العبّاسيون فانتقل حكم السِّند إليهم.
ولمّا ضعُفت الخلافة العبّاسيّة، وصار وُلاة الخليفة ينشقُّون عن النفوذ العبّاسيّ، استقلّت إمارة السّند كذلك بالحكم، وانقسمت إلى إمارتين؛ واحدة في الشمال عاصمتها (ملتان) وأخرى في الجنوب عاصمتها (المنصورة). وعرَفت هاتان الإمارتان استقرارًا وأمانًا، وكانت مراكز للدعوة إلى الإسلام. لكنّ الفتوحات الإسلاميّة كانت متوقِّفة تمامًا، حتى جاء محمود بن سبكتكين فسطّر تاريخًا للإسلام في الهند لم تُطوى صفحتُه إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
قامت في تلك الفترة من ضعف الدولة العباسية ولاية في أفغانستان اتّخذت من (غزنه) عاصمة لها، ومع ضعف العباسيين كان للخليفة حكم اسمي وقيمة رمزية في نفوس المسلمين ويُغدِق بنفوذه الاسمي وبركاته الرمزية من يسترضيه من حكّام الولايات. فكانت هذه الولاية في غزنه تابعة للسّامانيين التّابعين بدورهم بالاسم للخلافة العباسية. وولّى السامانيون على (غزنه) إسحاقَ بن ألبكتكين. ولمّا توفي إسحاق اجتمع القادة والكبراء على اختيار سبكتكين ليصبح واليًا فقد كان من غلمان إسحاق والمُقدّم على شؤونه وعليه مدار أمره، ولِما عُرف عنه من عقل ومروءة وديانة. وبحُكم سبكتكين الغزنويّ قامت الدولة الغزنويّة السبكتكينيّة سنة 977م – 366ه. وعندما استقرّ الأمر لسبكتكين في (غزنه) بدأ يتّجه إلى الهند ويرسل جيوشه إلى أطرافها، فرأى الملك الهندي (جيبال) أن يُنازل سبكتكين حتى يحُدّ من نفوذه، لكن حدث أن هزم سبكتكين (جيبالَ) مرّتين، عظُم شأنه وعلت هيبته في النفوس على إثرها.
وقد حكم سبكتكين وابنه محمود لا يزال صغيرًا، فشبّ واكتمل شبابه في رعاية والده، وكان محمود بن سبكتكين عضُدَ والده في حروبه، سواء في الهند أو مع الولاة المسلمين حول (غزنه)، حتى اشتهر أمره ولُقِّب بسيف الدولة. ولمّا توفيّ سبكتكين سنة 387ه – 997م عهِد بالحكم إلى ابنه الصغير إسماعيل. ودارت على إثر ذلك مناوشات بين محمود وأخيه انتهت بتغلُّب محمود وحكمه بعد سبعة أشهر من وفاة والده. وقد عمِل محمود بعد حكمه على توطين نفوذه فشنّ حروبًا مع أمراء المسلمين الذين حوله، تكلّلت بالانتصار حتّى على الدولة السّامانيّة التي كان تابعًا لها، وأرسل للخليفة العبّاسي يلتمس منه الاعتراف به أميرًا على (غزنه)، فأرسل له الأخير مُقرًّا له، وأنعم عليه بالخلع الخليفية والألقاب.
ثم اتّجهت أنظار محمود بن سبكتكين صوب الهند التي كان قد خاض حروبًا فيها مع والده، ليكفّر بذلك عن حروبه السابقة مع المسلمين، ولأنّ انتشار الوثنيّة والشرك في الهند جعل منها ميدانًا مناسبًا للجهاد والدعوة للإسلام، وليُرضي طموحه وجرأته وغيرته الدينيّة. فبدأ غزواته منذ سنة 392ه – 1001م، حيث هزم الملك (جيبال) مع فارق القوّة والعدد الكبير، واستولى على بيشاور ثم حاصر (بهندا) حتى استسلمت.
ومضى محمود في سلسلة من الفتوحات يتخطّى الصّعاب ولا يتهيّب أيّ عقبة في طريقه، يهزم كل طاغية معتزّ بقوّته ويستسلم له صاغرًا كلُّ من عرف قدره، أمضى فيها خمسًا وعشرين عامًا من الجهاد. فغزى (ملتان) و(بهاطيه) و(تهانسير) و(كشمير) و(قنوج) وغيرها، وهزم الملك (جيبال) ووالي (بهاطيه) (راجابجي راؤ) على كثرة جنوده وفيلته وتحصين مدينته وإحاطتها بخندق عميق، حتى فرّ ومن معه وتبعهم المسلمون، وحارب (أبا الفتوح) الذي حكم (مولتان) وعُرِف عنه إلحاده وخبث عقيدته، وهزم الملك (أندريال) الذي استغاث بملوك الهند فساعدوه، فحدث أن فرّ به فيلُه هو الآخر وتبِعه جنوده فتبعهم المسلمون يُعمِلون فيهم القتل، وفرّ من محمودٍ ملك (قنوج) على عظمته بين الملوك ولم يستطع مواجهته.
واستولى محمود بن سبكتكين -رحمه الله ورضي عنه- على قلاع كثيرة منها قلعة (نكركوت) التي كانت مركزًا وخزانة للصنم الأعظم للهندوس، وقلعة (كواكير) الذي يضمّ 600 صنم ففتحها وحرق أصنامها، وحاصر قلعة (كالنكر) التي كانت حصنًا كبيرًا يسع نصف مليون من الناس و500 فيل، واستولى على قلاع (ميرت) و(كلجند) و(مترا) التي كانت تابعة لملك (دلهي)، ثم قلعة (جنديال) و(شروه)، وتوجّه إلى (كواليار) جنوب دلهي بمسافة كبيرة، فحاصر قلعتها واضطرّ ملكها إلى الصلح معه. كما خاض محمود غزوة كبيرة سنة 416ه – 1025م تهشّم في طريقها عقبات كثيرة وجازف بجنوده، حيث خرج من (غزنه) قاصدًا صنمًا عظيمًا للهندوس يسمى (سومنات) في أقصى جنوب (الكجرات) على شاطئ بحر العرب، فتحمّل محمود وجنوده عناء ومشقّة عبور الصحراء وتزوّدوا لذلك، وكان الهندوس ينتظرون أن تصيب لعنة (سومنات) المسلمين ويعتقدون أنّه دعا المسلمين ليُهلكهم! لذا فقد وجد المسلمون عند وصولهم حصنًا عاليًا منيعًا، ورأوا أهل (سومنات) يتفرّجون من الأسوار ينتظرون نزول عذاب الصنم الأعظم بالمسلمين.
فما هي إلا لحظات حتى استفاقوا من سبات شركهم حين وجدوا سيوف المسلمين تحصد أرواحهم، فهرع منهم من هرع إلى المعبد يستغيث بصنمهم، وبعد قتال حارّ ودامٍ تمّ للمسلمين النصر وفرّ المنهزمون، وتهدّمت أوهام الشرك بتحطيم الصنم.
وهذا من قليل ما ذكره التاريخ من فتوحات محمود بن سبكتكين، وإلا فقد كان يُخضع البلاد في طريقه إلى كلّ قلعة ومعبد يقصده، وعُرف عنه من حسن السياسة والذكاء ما عُرِف عنه، وكان كلّما انتصر نصرًا أقام في البلاد التي فتحها حتى يتوطّد له فيها حكمه ويترك فيها من يتولّى سياستها، ثم يرجع بالغنائم إلى عاصمته (غزنه) ويسوسها ويقوم على شؤونها، حتى يرجع إلى الهند بطموح جديد ويوقّع نصرًا جديدًا.
وقد كتب إلى الخليفة العبّاسي في بغداد سنة 410ه – 1019م يخبره بفتوحاته في الهند، فابتهج الخليفة بذلك وأعلن هذا النبأ السار على الناس فابتهجوا ذلك وأُقيمت مجالس لإعلان هذا الفرح والدعاء لمحمود. وقد ظلّ يواصل جهاده في الهند وخراسان حتى مرِض سنتين وتوفي رحمه الله سنة 421ه – 1030م. وقد كان شخصيّة فريدة في تاريخ الإسلام لا يجُود الزّمن بمثلها إلا نادرًا، حتّى ليتعجّب المرء ممّا فتح الله على يديه من بلدان تحطّمت فيها الأصنام وصدح فيها صوت التوحيد.
وتولّى الحكم بعد محمود في الهند ابنه مسعود وسار سيرته، ثمّ تعاقب الحكّام الغزنويّون، لكنّ تناحُرهم بينهم أدّى إلى إضعافهم وتمرُّد البلاد التي فتحوها عليهم، فسقطت الدولة الغزنويّة وقام على أنقاضها الدولة الغوريّة سنة 547ه – 1152م. وكان من حكّام الغوريّين شهاب الدين محمد الغوريّ وقد كان له سيرة حسنة تشبه سيرة محمود الغزنوي في الجهاد. ثمّ ما لبثت هذه الدولة أن تضعضعت وحكم مماليك الأتراك في الهند، ثمّ قام بعدهم حكم السلاطين الخُلجيّة، وكان منهم علاء الدين الخلجي الذي كان له فتوحات وانتصارات. وبعد أن فسد حكم الخلجيّين، ومال بعضهم للهندوس على حساب المسلمين وشذّ وقتل ورثة الحكم بعضهم بعضًا، انتقل الحكم للدولة الطغلقية سنة 721ه – 1321م.
ولا يُمكن هنا الوقوف على تفاصيل الدُّول والسلاطين الذين تعاقبوا على حكم الهند في عصرها الإسلامي، ويكفي أن نشير إلى أنّ ما سبق من دول هي الأهم والأكبر، وكانت هناك مناطق أخرى تستقلّ عنها وترجع إليها حسب قوّة الحكم وضعفه، فتأسّست دول أخرى في نفس مراحل الدول السابقة منها الدولة الإسلامية في (الكجرات)، ومملكة (الدكن) البهنمية، وسلاطين (مالوا).
كما كانت تعرف هذه الدول التي تعاقبت على حكم الهند من الحكّام البَرّ والفاجر ومزدوج الشخصيّة، ومن الصّنف الثالث نذكُر محمد بن طغلق شاه ثاني ملوك الدولة الطغلقيّة، والذي عُرِف عنه في العدل والرّحمة والشدّة في الدّين قصص يُداني فيها سيرة الخلفاء الراشدين، حيث حُكي عنه أنّه كان من الناس من يشكوه للقاضي فيحكم القاضي لصالح المشتكي ويقتصّ منه، وكان رحيمًا مشفقًا رقيقًا، وأديبًا عالمًا، كما كان يوجِب على العامّة ملازمة صلاة الجماعة ويقتل من تركها، ويوجب معرفة أحكام الصلاة والطهارة وغيرها ومن لم يعرفها عُوقب.
لكنّ سجلّ التاريخ يُرينا بوُضوح تناقض هذا الحاكم الذي كان لا يترك باب قصره نظيفًا من مقتول، وحُكي عنه ظلم وعسف وإراقة للدّماء وتعطُّش للقتل الشيء الكثير، لا يُراعي في ذلك عالمًا ولا صالحًا. وحدث أن ضاق ذرعًا بالرسائل التي يرميها الناس في قصره ليلًا فيجِد فيها إذا فضّها شتمًا وسبًّا له، فرحّل الناس عن (دلهي) بعد عمارتها واشترى منهم ديارهم جميعًا وأجبرهم على الرّحيل، وبقي فيها وحيدًا يطلّ من قصره على الغربان والديار الخاوية على عروشها، حتّى يطيب خاطره! وذكرنا هذا لغرابته وطرافته.
وقد كانت النزاعات على الحكم مستمرّة وما ذكرناه من تعاقب الدول تبسيط فقط، ذلك أنّ الحكم قد ينتقل في الدولة الواحدة بين أُسر كثيرة، كما أنّ المغول ومحاولاتهم للاستيلاء على الهند كانت كثيرة، لكنّ المماليك كانوا يصدُّونهم عن ذلك، ثمّ تسلّطوا على غيرهم، حتّى احتلّ (تيمور) المغوليّ عاصمة الهند (دلهي) سنة 801هـ – 1398م، ولكنّه بإرادته ارتكب مجازر في معاركه في الهند وأخذ معه ما شاء من الغنائم بالسّلب والنّهب ثمّ رحل عنها عائدًا إلى عاصمته (سمرقند).
وقد صار حكم الهند إلى المغول منذ عام 932ه – 1526م، وكان مؤسّسها ظهير الدين محمد بابر، وكان من القادة العظماء النّادرين في التاريخ، حيث استطاع في ظرف خمس سنوات أن يوطّد حكمه في الهند ويقوم بفتوحات ويهزم في إحدى أشهر معاركه ملوك الهند وأعوانهم مجتمعين عليه، وذلك لحنكته العسكريّة وحسن تنظيمه وقدرته على إلهاب الحماسة في قلوب جنوده، كما عُرِف عنه نبوغه في العلم لاسيّما الفقه الحنفيّ والعَروض وله تصانيف فيها، ونظم الشعر باللغات المختلفة، كما قام بإصلاحات تُحمَد له.
ثم حكم بعد بابر ابنه همايون شاه، لكنّ شير شاه السوري أو (شير خان) وهو حاكم أفغانيّ تمكّن من التغلُّب عليه وإزاحته من الحكم وطردِه، فحكم نحوًا من خمسة عشر عامًا وكانت له سيرة طيّبة جميلة وحكم إمبراطورًا للهند كلّها. وبعد وفاة شير شاه تنازع ورثته على الحكم وأوغلوا في الدّماء، فعاد همايون شاه ابن بابر ليستعيد حكمه للهند من جديد، ثم لم يلبث أن مات وتولّى الحكم ابنه جلال الدين أكبر وكان لم يبلغ بعد، فكان بيرم خان يتولّى عنه أمور الحكم، وهو شيعيّ كان الذراع الأيمن لوالده همايون والذي ساعده على استعادة ملكه.
وكانت سيرة جلال الدين أكبر في بدايات حكمه سيرة حسنة، يقرّب إليه العلماء والصالحين ويستشيرهم ويُقيم شرائع الإسلام، لكنّ التأثير الشيعي والسياسي كان له أثر على عقيدته لاسيما وأنّه كان جاهلًا لم يتلقّى تعليم أبناء الملوك حتى قيل إنه يجهل الحروف، فضلًا عن أن يعرف أحكام الإسلام وما يجب فيه. وتمثّل الأثر الشيعي في أن أقنعه من حوله من علمائهم أنّه خليفة الله وظلّه في الأرض، وأنّ له الحقّ في التّشريع، فاغترّ بنفسه وأصبح يعتقد بعدم صلاحيّة الإسلام بتقادُم عهده وبأنّه يسعُه التشريع دون تقليد للعلماء. وظهر الأثر السياسي في سعيه إلى سياسة إمبراطوريّته بطريقة الدولة القومية على اختلاف أديانهم دون تفريق بينهم، فكان أن ساوى بين المسلمين وغيرهم وسنّ شرائع ليضمن حريّة كل دين وعقيدة في الهند، حتّى سعى إلى توحيد الأديان وأسّس دينًا جديدًا يسمّى بالدين الإلهيّ الذي يؤمن بالإله فقط، وبنى أماكن للعبادة للجمع بين الأديان. ولا يشكّك المسلمون في أنّ ما أحدثه أكبر ردّة وخروج عن الإسلام، وغيرُ المسلمين من الغرب يبالغون في مدحه ويذكرون أنّ الغرب إنّما أخذ عنه طريقته العلمانية والقوميّة في السياسة. وكان إلى جانب ذلك من العظماء الشُّجعان النّادرين، وعرفت الهند خلال حكمه حركة علميّة وفنيّة وحركة ترجمةٍ، ساهمت فيها طبيعة سياسته.
وما ذكرنا هنا بعضًا من تفاصيل حكم جلال الدين أكبر إلا لأنّها خليقة بالاهتمام وملفتة، وكأنّني أرى في حكمه ميلاد فكرة شيطانيّة ظلّت إلى الآن وهي اتباع نظام الدولة القومية العلمانية.
وقد توفي أكبر سنة 1014ه – 1605م، وتعاقب على الحكم بعده في الهند ابنه جهانكير ثمّ حفيده شاهجهان ثمّ أورنكزيب (أو عالمكير)، حيث أزال الأوّل ما ابتدعه والده من دين جديد وأزال كثيرًا من مخالفاته الشرعيّة. وكان الثاني من الملوك والقادة العظام في التاريخ، حيث كانت الهند خلال فترة حكم شاهجهان تعيش رفاهية ورخاء لم تعرف له مثيلًا، لكنها كانت كلّها حروبًا ومشاكل وثورات، ومع ذلك استطاع التصدّي لها، واستطاع أن يحرز أكثر من صدّ الثروات فجعل الشعب يعيش رفاهًا وترك آثارًا تتصدّى لعاديات الزمن، فقد كان محبًّا للعلم مشجّعًا على التأليف، وترك آثارًا من العجائب مثل مقبرة (تاج محل) بآكرا والقلعة الحمراء في دلهي. وقد كان الثالث -أورنكزيب- مثالًا للحاكم المسلم الصالح، إذ أعاد فرض الجزية بعد تعطيلها منذ عهد أكبر، كما عُرِف بطيبته وصلاحه وزهده وتقشُّفه، ولم يخلُ عهده من الثورات والحروب والمتاعب الكثيرة مثلها مثل سابقتها. وحكم بعده ملوك آخرون وانتهى مُلك المغول بحكم سراج الدين أبي المظفر بهادر شاه، الذي تولّى الحكم سنة 1838م وكان حاكمًا صوريًّا فقط بعد الاحتلال الإنجليزي، وقد قاد ثورة الهند التي باءت بالفشل وقُبِض عليه وحُوكِم سنة 1858م. وبانتهاء حكم المغول في الهند انتهى الحكم الإسلامي فيها.
الزحف الغربي نحو الهند
ولكن المهمّ والحريّ بالذّكر هنا أكثر من ذكر سِيَر الحكّام هو أنّ أعناق الأوربيين بدأت تشرئبُّ إلى الهند منذ أواخر عهد أكبر، سواء البرتغال أو الهولنديين أو الإنجليز أو الفرنسيّين. والملفت للنّظر هنا طريقة الاحتلال التي انتهجوها حتى تمّ لهم نزع الملك عن المغول وإنهاء الحكم الإسلامي في الهند بعد تاريخه الطّويل الحافل، حيث جاءوا متودّدين للحكّام متمسكٍنين يلبسون عباءة التّجارة وطلب الرّزق، حتى جعلوا الهند تعيش أزمة شاملة بحاكميها ومحكوميها، وأذلّوا إمبراطوريّة عظيمة بعد عزّ. ويا لغفلة المغول عنهم ويا ويل استكبارهم! إذ لم يخطُر لهم ببال أنّ السماح لهؤلاء التّجار بطلب الرزق سيكون فيه ذلّهم ونهاية ملكهم، ولم يكن يتصوّر إمبراطور مغوليّ في عظمته وكبريائه أن يصبح فقيرًا متسوّلًا بسبب هؤلاء وبالأمس القريب لم يكن يرضى في جبروته أن يرسل بكتاب وهو الإمبراطور العظيم لملكٍ أوربيّ أُخبِر أنّه مجرّد سيّد جزيرة بائس لصيّادين تُعساء!
ولقصة الإسلام في الهند بقية نكملها في الأجزاء القادمة إن شاء الله..
بارك الله فيك
بارك الله فيك وزادك علما.