صفحات من دفتر الالتزام: الزواج في حياة الملتزم
الملتزم بين حالتين، إما أنه متزوجٌ ويحمل مسؤولية أسرةٍ أو أنه أعزبُ لم يُقبل بعدُ على الزواج.
وفي مسيرة الالتزام، يُعَد الزواج من أهم الأسباب المعينة على الثبات وقد يكون أحد أسباب الاضطراب والتراجع، فإن كنتَ متزوجًا وقررتَ الالتزام فاعلم أن التزام شريكك في الحياة من أَولى أولوياتك، فلا يمكن لمَركَبٍ أن يمضي في عُرض البحر وفوقه ساعيان لهدفين متنافرين، هذا يريد شطَّ الآخرة وهذا يريد شطَّ الدنيا الدَّنِية!
إذن فقد تكون الزوجة أو الزوج عقبةً في مسيرة الملتزم ولهذا فأول من سيحظى بأولوية تأثيرك هو هذا الشريك، أشرِكْه في شعورك في التزامك في إقبالك على الله، بذكاءٍ لا بعنفٍ أو شدةٍ، بمحبةٍ ولينٍ لا بغصبٍ أو تهديدٍ!
لا تجعل من التزامك سببًا في نفوره منك ولا سببًا في القسوة عليه بل على العكس اجعل هذا الشريك يشعر بأن التزامك منحةٌ في البيت، أنك أصبحت الأفضل والأروع، اقترب منه أكثر وأنت ملتزمٌ وداعٍ ومستبشرٌ، وأفهِمْه أنك لا تريد خسرانه ولا ضياعه ولا سوء خاتمته، وإن شعرت منه تجاوبًا فداوِم على الرقائق واستحضار المواقف التي يتصدَّع لها الحجر ويحن بها الفؤاد للفرار إلى الله، إن الهداية قد تكون في لحظةٍ، في موقفٍ، في دعاءٍ، فكن قناصًا للفرص!
أعتقد أن الشريك الذي سيألف التزامك كتغييرٍ رائعٍ في حياتكما جَلَبَ عليه المحبة والاستقرار، وأوسعَ مداركه بالتفكر والعلم والإبصار، لن يتأخر لحظةً واحدةً في الركوب في مركب النجاة، وقد تصادِفُ المغبون الذي حُرم هذا الفضل فلا أقل من المحاولة والدعاء له بالهدية والالتزام.
أولادك إن كنت أبًا أو أمًّا أقبِل عليهم بحنان الوالد الملتزم وشفقة المربي المسلم واستبشار العابد الراعي لرعيته، إياك وأن تصبح ذلك العبوس الغاضب بعد هذا الالتزام، دعهم يلتمسون الهدوء والحِلم والعطف والدعوة بلطفٍ، دعهم يحبون الإسلام والاستقامة، دعهم يستدركون ما فاتهم من وَحشةٍ، دعهم يقتربون معك إلى الله، عوِّدهم الصلاة وفعل الخيرات، عودهم أجواء المساجد وتعظيم شعائر الإسلام، أبعدهم عن مستنقعات الفساد واملأ فراغهم بكل مفيدٍ ومَزيدٍ.
وفي الواقع إن أهم ما عليك الاستعانة به هو محبتهم وتقريبهم منك، ولا تلجأ لغيرها إلا إن لاحظت فشلًا تامًا في الإقبال معك إلى طريق الاستقامة، ومشكلة بعض الملتزمين هو ذلك التغيير المفاجئ العنيف الذي يبدأ مع الأهل والأطفال بشكلٍ لم يعتادوه فتكون النتيجةُ الخوفَ والفرار منه.
لكن لو أن المقبل أتقن فن التمهيد وفن التحبيب، لأحسن في التدرج والتعويض، لأقبل يجذبُهم إليه بالترغيب الحميد، فالأطفال عجينةٌ لينةٌ يُمكنك التأثير فيهم بسهولةٍ أما الشريك البالغ فهذا يحتاج لفنٍ في الدعوة، ادعُه وأنت لا تريد خسارته، ادعُه وأنت تريد سعادته، والصبر مفتاح الفرج في مثل هذه المُهمات، إياك والفتور، وإياك والتسليم، عليك بسد الفراغ، فمَنعُ الموسيقى والغناء في البيت لابد أن يوازيَه بديلٌ معقولٌ، كالأناشيد الإسلامية، واللعب واللهو بما حرّم الله يُفضَّل أن تعوضه برياضةٍ مفيدةٍ، كالسباحة أو الرماية أو ركوب الخيل أو ما ينفع المسلم وينفع أمته…
إن التعامل مع النفوس التي جُبلت على الفوضى والغفلة يحتاج لحكمة الطبيب، فالحديث عن الصالحين باستمرارٍ وقصُّ القصص المؤثرة في النفوس والتذكير بالآخرة وأهوال يوم القيامة والاستعانة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعظماء الإسلام والبحث عن المواد والوسائل الدعوية السمعية والبصرية سيسهل أمامك المهمة ولا شك أنها ستسهُل أكثر بصداقة عائلةٍ ملتزمةٍ وارتياد مواطن الصلاح والصالحين.
انتشِلْ عائلتك من تلك الجاهلية المزمِنة، علِّمهم أن ما فات كان وقد ندمتَ عليه وأن اليوم يوم العمل يوم الجِد، والسبب عظيمٌ جدًا، أولًا أن النجاة في النهاية لن تكون بدون صلاح العمل، وأن حال الأمة أضحى مزريًا يشفِق عليه المؤمن! أن الأمة بحاجةٍ لصحوتنا لإقبالنا لعودتنا لديننا حتى تعود هي لسيادة الأمم وتعود لتسطِّر الأمجاد وتلقن العالم كيف تكون روعة الإسلام وعبقريته وعدالته…!
اُخلُق في النفوس الهدف العظيم واسقِ الهمم بالحِلم العتيد، حاول أن تزرع بذرة الأمل والمسابقة، ذكرهم بنبوءات الرسول صلى الله عليه وسلم، احفر في أذهانهم وعد الله الحق، ارسم في مخيلتهم القدوات الرائعة الحقيقية لا الوهمية التي زيَّنت تاريخ الإسلام، أحيِ فيهم عزة الإسلام، حينها فقط إن أحييتَها، سترتاح وتهدأ لأنهم سينطلقون بقوةٍ وقد يسبقونك!!
إن مفعول إحياء الهمم مفعولٌ عجيبٌ، إن إحياء الحنين لمجد المسلمين أمرٌ مثيرٌ!
يسري في جسد المسلم كالدماء يخفق معها القلب بشوق، متى نتخلص من حالنا البائس متى يُشار على أمتنا بالبنان، هكذا غيّر المسلمون من واقعهم حين استشعر كل فردٍ منهم، كل أسرةٍ منهم، واجبها وقامت تُقبِل إلى ربها إلى دينها إلى أمتها فكان ما أبهر العالمين!
فإن لم تكن ذلك السعيد الذي حظي بأسرةٍ أقبلت معه فلا تحزن ولا تبتئس فقد ابتُلي الأنبياء والصالحون وإنما الابتلاءُ بغربة الدين ووحشة الطريق رفعةٌ في الدرجات، ولكن لا تستسلم لا تيأس فإن مع العسر يسرًا وإذا أراد الله أمرًا فسيمضيه ولكن إياك أن تنجرَّ للفاشلين بل كن دائمًا ذلك القائد!
أما إن كنت الأعزب الذي لم يحصل بعدُ على سكن الروح واستقرار النفس، فإني أنصحك بكل صراحةٍ، أقبِل على الزواج وإياك وأن تتردد بسبب العمر أو الحالة الاقتصادية، فإن الزواج نصف الدين، وسيكون من أسباب عِفتك وصلاحك، سيكف عنك وساوس الشيطان وتلبيسات إبليس، أقبل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعقِل وتوكل ومن عزم على العفاف كان الله في عونه ولكن تذكر تلك الوصية الذهبية من خاتَم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، (فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك[[1]]) إن الحب الذي تنشده لن تجده عند الحسناء التي نبتت في منبت السوء، ولن تجده عند حسناءَ لم تعرف محبة لله! بل ستجده عند حسناء الروح حسناء الفؤاد من عرفتْ ربها وأقبلت مثلك تبحث سعدَها، فلا تتعلق كثيرًا بشكلٍ معينٍ ولا ترسم في مخيلتك ملامحَ معينةً فإن وقع قلبك على روحٍ تواقةٍ مثلك ونفسٍ تستشعر ما تشعر به، فستجد الأُنس مرةً واحدةً… ستجد أن قصص الحب كلها لا تساوي لحظة صدقٍ واحدةٍ أقبلْتَ فيها مع تلك التقية المؤمنة!
ليس في الدنيا أكثر ولا أعظم خيرًا من قلب المؤمن وإن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر بل لا مقارنة بينهما، وإنك اليوم إن استعنتَ بالله وتزوجتَ، فإنك قد خطوتَ خطوةً متقدمةً في مسيرتك… تستقر معها نفسك ويخنس بها شيطانك، وتذكر أنك لن تختار زوجةً فحسبُ بل أمًّا لأبنائك من بعد، فأحسِنْ الاختيار تأمنْ على بيتك وذريِّتك، وإن كنتِ أنتِ الفتاة الورعة المقبلة المستبشرة فاعلمي بأن الأقلام قد رُفعتْ والصحف قد جَفّت وأن ما كان في قَدَرك من زواجٍ قد قدَّره الله عليكِ من قبلِ أن تولدي، فلا تحزني أبدًا، فإن ما كان لك سيأتيك يومًا ولكن ما هو مطلوبٌ منك هو الأخذ بالأسباب وحسن الاختيار بمقياس الدين ومقياس الالتزام وكذا مقياس الهمة التي بها نحقق التغيير المنشود ونبلغ الأهداف السامقة!
إياكِ والتسرع أو العجلة، الزواج للمرأة كالرزق فاسألي الله رزقًا حسنًا، زوجًا صالحًا، لتسكني بأمانٍ، ولا تقولي يومًا، ليتني استعنتُ بالله!
فكم من ملتزمةٍ فُتِنت بعد زواجها بزوجٍ لم يتقِ الله في إيمانها، وكم من زوجةٍ فُتنت في دينها حين خُدعت في زوجها! وكم من غريبةٍ شعَرتْ بوحشةٍ أكبر بعد زواجها، فليس كل زواجٍ هو الحل، وكونَكِ المرأة فعليكِ الحذر مرتين بدلَ المرة، فالرجل قد يسهُل عليه الطلاق وتكرار المحاولة أما أنتِ في مجتمع تعمُّه الفوضى وجاهليةٌ في الرأي وفسادٌ في الحكم قد يتعبكِ تكرار المحاولات، لهذا احرصي أن تنجحي من أول يوم في اختياركِ ثم في حفظ بيتكِ وزوجكِ ولن تجدي أفضل من وصفة الالتزام الراقي لحفظهما، إن الله سيحفظ لكِ ما تحبين إن أنتِ داومتِ على ما يحبُّ!
سُئلت امرأةٌ ما سر محبة زوجها لها فقالت، هي صَدَقةٌ لم أَزَلْ أُخرجها، ودعوةٌ التزمتها في سجودي منذ تزوجته، اللهم اجعله قرة عينٍ لي واجعلني قرة عينٍ له، قالت، فلم أَرَ منه إلا الحب ولم يرَ مني إلا كلَّ الحب!
فانظري لبصيرة تلك العاقلة حين أدركتْ أحد أسرار المحبة فلجأت إلى الصدقة والدعاء، ولا شك أن الدعاء لوحده غير كافٍ إن لم يُقرَن ببرهانٍ للمحبة بحسن العِشرة والخدمة والاهتمام بالتودد والتبعل والقربى وفعل الصالحات!
كوني صالحةً يكُنْ صالحًا… كوني توابةً يكن توابًا، كوني فارَّةً لله، يكن فارًّا لله، كوني لله أقرب سيكون هو أيضًا الأقرب ولو بعد حين، إن شعر منك صدق المحبة والوفاء! وفي الحقيقة لم أرَ مؤمنًا تقيًا أو مؤمنةً تقيةً، خاسرًا أبدًا في علاقةٍ زوجيةٍ، لأن الزواج كان لله، للتقرب من الله، للارتقاء للعلياء فكان الزواج وسيلةً لغايةٍ عظيمةٍ لا هدفًا فحسب فإن لم يفلح هذا الشريك – رغم اجتهادكِ-في حفظ هذه العلاقة السامية وبصون هذا الميثاق الغليظ فهو ليس أهلًا له ولا يُؤسَف عليه وقد قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). [[2]]
إن الحديث عن أسرار السعادة الزوجية يستحق كتابًا مستقلًا لا صفحاتٍ في دفتر تخصصٍ في الالتزام، ولكننا نصل لخلاصة القول، أن الالتزام هو سرٌّ من أسرار سعادة الأسرة المسلمة، فهو يطرد عنها وساوس الشيطان ويحبط مكائده ويصرفها لطاعة الله وعبادته فتنعكس تلك الاستقامة ببركةٍ في النفس والولد والمال والوقت وكل ما يحتاجه المرء من ضروريات الحياة، إنها بحقٍّ، من أسباب نجاح وسعادة الأسرة المسلمة، فالتزمْ والتزمي والتزموا جميعًا طريق الاستقامة، سدِّدوا وقارِبوا وحددوا الأهداف الراقية لهذا البناء، ولن يكون مآل هذه الأسرة إلا أثرًا في مجتمعٍ يتوق للنهوض من جديد، فكيف لو أن العدوى انتشرت في نسيجٍ من الأُسر وبدأت آمالنا تتحقق بأمثلةٍ وقدواتٍ تُضرب… ! إنها بحقٍّ بشرى ونصرٌ. قال سيد قطب رحمه الله… هذا الدين كالشجرة العظيمة، تَنْبُتُ شيئًا فشيئًا، صحيحٌ: أنها تمر عليها الريح، والشمس، وتلفحها الشمس، وربما يعتدي عليها الماء، لكنها تؤسس جذورها، هذا أشبه بالإسلام، ولكن الباطل: كالزُرعة التي تنبت كنبت الربيع، تقتلها الشمس، أو يجترفها السيل، أو تحطِّمها الريح.
فأنت في دعوتك وفي غرس الإسلام في بيتك ينبغي أن تغرسه كالشجرة رويدًا رويدًا حتى ينمو ويترعرع، ويؤتي أُكُلَه فاستعن بالله واصبر واعمل ولا تعجِز.
الهوامش
[1] متفق عليه.
[2] النور 26.